قطف الرؤوس .. إستراتيجية جديدة للقضاء على التنظيمات الإرهابية

  • | الإثنين, 8 أغسطس, 2022
قطف الرؤوس .. إستراتيجية جديدة للقضاء على التنظيمات الإرهابية

     تبنت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًا إستراتيجية جديدة تقتضي خفض الوجود العسكري في الشرق الأوسط، بدأت بالانسحاب من أفغانستان بعد العمليات العسكرية التي امتدت لمدة أطول مما وعدت به الإدارات الأمريكية المتعاقبة. وحاليًا لا يتجاوز عدد القوات الأمريكية الحالية في سوريا الـ (700) جندي، ينحصر دورهم في تأمين المصالح الأمريكية، كحماية المنشآت النفطية ومواجهة أي تمرد محتمل أو أية عملية يمكن أن يقوم بها تنظيم داعش الإرهابي.
كذلك لم تتطلب العمليات الأمريكية ضد التنظيمات الإرهابية وجود عدد كبير من القوات والعناصر، وإنما اعتمدت العمليات الأخيرة ضد داعش مثلًا على توجيه ضربات بطائرات مسيّرة، وتحركات محدودة للغاية على الأرض. وتهدف هذه الإستراتيجية المعروفة باسم: "قطف الرؤوس" إلى القضاء على قيادات التنظيمات الإرهابية حول العالم، بغرض إحداث خلل وارتباك داخل التنظيمات التي يقودونها، ومن ثَمَّ إفشال خططها والتأثير سلبًا على عناصرها.
وتعبر عملية اغتيال زعيم القاعدة "أيمن الظواهري" عن منحنى تصاعدي لاستهداف قيادات التنظيمات الإرهابية وفق هذه الإستراتيجية التي انتهجتها القيادة الأمريكية مؤخرًا، وهي إستراتيجية تتسم، وفق تصريحات الرئيس الأمريكي "جو بايدن". بأنها أقل تكلفة وأكثر فاعلية.
وتحت وطأة الهزائم المتكررة خصوصًا في سوريا والعراق، لم يعد أمام التنظيمات الإرهابية سوى التمدد والتوسع في مناطق أخرى، ولا أدل على ذلك من الزيادات الملحوظة في أعداد عناصر هذه التنظيمات في بعض البلدان الإفريقية، خاصة في منطقة الساحل والقرن الإفريقي. لكن مرونة هذه التنظيمات قد تدفعها للرجوع مرة أخرى إلى المناطق الساخنة وفق ما يستجد من أوضاع.

ضربات متلاحقة ضد قيادات الإرهاب
فيما يلي استعراض لأهم عمليات القوات الأمريكية، وقوات التحالف ضد قيادات التنظيمات الإرهابية، والتي لم تتطلب سوى تنسيق استخباراتي على أعلى مستوى:
- عملية كايلا مولر وتصفية البغدادي: في عام 2019م، أذن الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب" بالشروع في عملية (كايلا مولر) وتصفية "أبي بكر البغدادي" أو أَسرِه في مخبئه شمال غرب سوريا. لكن الأخير قرر الانتحار بتفجير نفسه بسترة ناسفة كان يرتديها في 26 أكتوبر 2019م، حسب ما أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب آنذاك.
- تصفية القرشي: في فبراير 2022م، سمح الرئيس الأمريكي "جو بايدن" بعملية خاصة أخرى لقتل أو اعتقال "أبي إبراهيم الهاشمي القرشي" خليفة (البغدادي). وقد تمكنت القوات الأمريكية من تصفيته مع آخرين، ويقال: إنه أيضًا فجَّر نفسه.
- اعتقال والي الرقة: في يونيو 2022م، اعتقلت قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة "هاني أحمد الكردي" أحد أبرز قيادات داعش الإرهابي خلال عملية إنزال نوعية في مدينة الحميرة شمال شرقي حلب. وكان الكردي يُعرف بـ "والي الرقة"، أو "محافظ الرقة"، التي كانت ذات يوم عاصمة مزعومة لخلافة داعش الإرهابي؛ كما كان "صانع قنابل متمرس وميسر عمليات"، بحسب قوات التحالف.
- اغتيال ماهر العقال: في 12 يوليو 2022م، أعلن الرئيس الأمريكي "جو بايدن" مقتل القيادي الداعشي "ماهر العقال" في سوريا إثر هجوم بطائرة مسيرة قرب بلدة جندريس شمالي حلب. وقد علق الرئيس (بايدن) قائلًا: "هذه الضربة الجوية تمثل تتويجًا لعمل استخباراتي حازم ودقيق، وهي دليل على بسالة الجيش الأمريكي ومهنيته". وأوضح أن الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى آلاف الجنود للقيام بمهامها القتالية، خصوصًا ضد التنظيمات الإرهابية. وقد عُرف عن العقال تأثيره الواضح في مسيرة داعش الإرهابي، حيث عمل "بقوة" على انتشار التنظيم خارج سوريا والعراق.
- اغتيال زعيم القاعدة أيمن الظواهري: أعلن الرئيس الأمريكي "جو بايدن" فجر الثلاثاء 2 أغسطس 2022م، مقتل زعيم القاعدة "أيمن الظواهري" في منزله بالعاصمة الأفغانية كابول، في عملية نوعية للاستخبارات الأمريكية، نُفذت بواسطة طائرة مسيّرة أصابت هدفها بدقة متناهية. وأكد أن قوات بلاده تراقب تنظيم القاعدة في أفغانستان، وستلاحق عناصره، ولن تسمح بأن تكون أفغانستان ملاذًا للإرهابيين، وهو ما يشير إلى أن هناك قائمة قيادات إرهابية أخرى ترصدها الولايات المتحدة ستعمل على تصفيتها مستقبلًا.
وعليه فإن تركيز تنفيذ هذه العمليات خلال العام الجاري 2022م له دلالة واضحة على تفعيل إستراتيجية (بايدن) الشاملة، والتي بدأت بالانسحاب من أفغانستان ووصلت إلى اغتيال (الظواهري). والسؤال: ما مدى تأثير الضربات الأمريكية المتلاحقة ضد التنظيمات الإرهابية بسوريا والعراق وأفغانستان؟ وما دلالات هذه الانتصارات؟
يمكن ملاحظة تأثير الضربات الأمريكية من خلال انحسار التنظيمات الإرهابية والبحث عن بدائل جديدة. على سبيل المثال، بعدما وصل تنظيم داعش الإرهابي إلى ذروته في عام 2015م، لم يستغرق الأمر سوى عامين فقط حتى يفقد حوالي (95%) من الأراضي التي استولى عليها في سوريا والعراق.
وفي الفترة الأخيرة، لم يكد يستفيق من ضربة حتى يتلقى ضربة أخرى، وهكذا أصبح أضعف بكثير مما كان عليه في عام 2017م. ووفقًا لما ورد في تقارير ومتابعات مرصد الأزهر لمكافحة التطرف، فقد انخفضت أعداد هجمات داعش في دول مثل سوريا والعراق بشكل ملحوظ، حيث نفذت فلول التنظيم عمليات محدودة وقع معظمها في المناطق الريفية، نظرًا لقلة الوجود الأمني بها.
ولم يقم التنظيم الإرهابي مؤخرًا بأية عملية نوعية سوى عملية واحدة تقريبًا، وهي الهجوم على سجن غويران (الحسكة) في شمال شرق سوريا الذي يقع تحت حماية قوات سوريا الديمقراطية (قسد). ولقد أثار هروب العديد من عناصر التنظيم قلق الأطراف المعنية بمحاربة الإرهاب، وزادت التكهنات حول وجهة هؤلاء العناصر وعن العمليات المستقبلية المحتملة التي سيقومون بها.
مع هذا لا يمكن انكار حقيقة نجاح تنظيم داعش الإرهابي -ولو بشكل يسير- من امتصاص الهزائم المتتالية، والبحث عن ملاذات آمنة جديدة في المناطق المأزومة أمنيًّا وسياسيًّا مثل منطقة الساحل الأفريقي، وتبني إستراتيجية السُّبات الجزئي، والاستعداد لخوض عمليات إرهابية نوعية جديدة، مع الترويج في الوقت نفسه لفكرة أن الهزيمة تقوي من عزيمة قيادات وعناصر التنظيم.
وقد دفع تمدد داعش الإرهابي وبقية التنظيمات الإرهابية في القارة الإفريقية وازدياد نشاطها بشكل ملحوظ في منطقة الساحل والصحراء أعضاء التحالف الدولي إلى تكثيف الجهود وعقد اجتماع وزاري موسع لأول مرة في إفريقيا بمشاركة 15 دولة إفريقية، و37 أوروبية و7 آسيوية، ودولتين من أمريكا الشمالية (ويضم هذا العدد 13 دولة عربية)، إضافة إلى دولتين بصفة مراقب. كما شارك في الاجتماع، طبقًا لما أوردته إذاعة صوت ألمانيا "دويتشه فيله" ممثلو عدة منظمات دولية، أبرزها الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية والمنظمة الدولية للشرطة القضائية "الإنتربول" وحلف شمال الأطلسي "الناتو" ومجموعة دول الساحل والصحراء.
واتضح جليًّا خلال هذا الاجتماع قلق المجتمع الدولي من النشاط المتزايد للتنظيمات الإرهابية في إفريقيا. ونود أن نشير إلى أن هذا الاجتماع سبقته خطوة أخرى إيجابية في مواجهة التهديدات الإرهابية في القارة السمراء تجسدت في إنشاء ما يعرف بـ "مجموعة التركيز الإفريقية"Africa Focus Group في ديسمبر 2021م، وتتكون هذه المجموعة من الولايات المتحدة الأمريكية، وإيطاليا، والمغرب، والنيجر، وهذا البلد الأخير هو جزء من منطقة الساحل، وقد تأثر بسبب الأنشطة الإرهابية المتزايدة بالسنوات الأخيرة.
ولم يقتصر الأمر على النيجر فحسب، بل أدى وجود داعش الإرهابي والفصائل المرتبطة به إلى زعزعة استقرار بعض المناطق الأخرى مثل نيجيريا ومالي والصومال لسنوات. وقد أدى انسحاب فرنسا من مالي ونمو حركات التمرد في بعض البلدان الإفريقية واستعانتها ببعض مرتزقة "فاغنر" لحماية بعض المناجم هناك، إلى قلق أعضاء الناتو، خصوصًا إسبانيا، بسبب تهديدات محتملة لمصالحها، منعًا لأي وجود مكثف لتلك العناصر الإرهابية التي من الممكن أن تصل إليها في عقر دارها إذا كان هناك تراخٍ في مواجهتها. وعليه استغل رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة؛ لإبراز الحاجة إلى زيادة الحضور العسكري للحلف في القارة الإفريقية. وعلى الرغم من عدم الاستقرار الواضح في العديد من البلدان الإفريقية الواقعة جنوب الصحراء، فإن الولايات المتحدة تواصل إعطاء الأولوية لدورها في الشرق الأوسط، وربما لا تسمح لوجود قوات أخرى في هذه المنطقة دون التنسيق معها.
وتنطوي انتصارات القوات الأمريكية وقوات التحالف الدولي المتتالية، على دلالات واضحة منها هشاشة هذه التنظيمات وضعفها بعكس ما تروج. وقد أوضح مرصد الأزهر في أكثر من مناسبة أن هذه العناصر المتطرفة ليست بالقوة التي تُسوِّق بها لنفسها إعلاميًّا بوصفها كيانًا متماسكًا قادرًا على تحقيق أهدافه ونشر الرعب في أنحاء العالم. وتثبت الضربات الأخيرة أن هذه التنظيمات مخترقة من الداخل، وتعاني من حالة يأس وتخبط، بدليل أن الغارات التي نُفِّذت ضد قيادتها كانت دقيقة بشكل كبير يدعو للارتياب. كما تعكس هذه الانتصارات عزم الولايات المتحدة الأمريكية ودول التحالف على تصفية هذه القيادات الإرهابية. ومن ثم اتضح للجميع أن التنسيق الأمني بين الدول حقق نجاحات كبيرة في الحد من أنشطة هذه التنظيمات المتطرفة.
ويرى مرصد الأزهر أن الضربات المتلاحقة ضد قادة داعش الإرهابي في سوريا والعراق كان لها تأثيرها الإيجابي في تحجيم نشاط التنظيم وانحساره بشكل ملحوظ وإبقائه في حالة من السبات. لكن هناك مخاوف أخرى، حيث تثير الأزمات الإقليمية والسياسية في سوريا والعراق وأفغانستان قلقًا من استمرار حصول التنظيمات الإرهابية على فرص للعودة إلى الظهور. كما أن عمليات التصفية لتلك القيادات لم تقض عليها تمامًا، فربما تكون قد أدت إلى إرباكها وسباتها لفترة ما، لكن ثمة احتمال قائم في أن تعود لمزاولة أنشطتها الإرهابية.
ومن المثير للقلق وجود آلاف المقاتلين في السجون بسوريا والعراق ومنطقة الساحل وغيرها من المناطق التي تنشط فيها التنظيمات الإرهابية؛ إذ إن هناك مخاوف من أن تقوم التنظيمات المتطرفة بعملية جديدة لإطلاق سراح سجنائها، وهو ما سيكون له -بالتأكيد- عواقب وخيمة، كتلك التي وقعت مؤخرًا في سجن كوجي بنيجيريا في يوليو ٢٠٢٢م. وفي هذا الصدد، يدعو مرصد الأزهر إلى الحذر من الآثار السلبية التي يمكن أن تتشكل في القُصَّر الذين لا يزالون محتجزين في السجون ومخيمات اللاجئين، فقد يكون هذا هو الباب الخلفي لتطرفهم حاليًا أو مستقبلًا.

وحدة الرصد باللغة الإسبانية

طباعة