أيديولوجية التنظيمات المتطرفة؛ استحضار التاريخ وغياب الحاضر

  • | الأحد, 7 أغسطس, 2022
أيديولوجية التنظيمات المتطرفة؛ استحضار التاريخ وغياب الحاضر


     يُعد التاريخ مستودع ذاكرة الأمم والشعوب، وسجل تجاربها ومعارفها، وجامع انتصاراتها وانكساراتها، "فالتاريخ للأمم كالعقل للإنسان، وأمة بلا تاريخ كإنسان بلا عقل". والأمم الناجحة تستلهم من حركة التاريخ الدروس والعبر والمنهج والفكَر. وقد بنيت نهضة المسلمين -حين قامت- على فهم صيرورة التاريخ وحركته والبناء على منجزاته والتعلم من إخفاقاته لبناء الحاضر واستشراف المستقبل، مكونةً في طريقها تراثًا عظيمًا متجددًا، لم تتثبت أمامه جامدة ساكنة، ولكنها عملت على أن تُلائم حركة التاريخ في مسيرتها وأن يتحرك معها تراثها –بالطبع- مع المحافظةً على كل ما هو أصيل ومواكبةً لكل ما هو جديد، ورافضةً لما انتهى سياقه وانقضت أسبابه.
لأن التاريخ وإن كان في ظاهره مجرد قصص وأخبار، لكنه يحوي دروسًا من تواريخ الأمم والحضارات، تساعد من يستخلصها على فهم الحاضر والاستعداد للمستقبل، ولذا حين عرَّف ابن خلدون (ت:1406م) التاريخ عِلمًا قال:
"هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول... وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومباديها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعَدَّ في علومها وخليق".
والمتأمل في القرآن الكريم، يجد أنه حين يتعرض لكل ما هو تاريخي، دائمًا ما يركز على العبرة والعظة والفكرة والمنهج، دون الإغراق في التفاصيل، أو البحث عن الأسماء والأماكن وغير ذلك من المعلومات، التي لا تُبرز الدروس، ولا تعالج روح الأحداث والوقائع. وقد جاءت في القرآن آيات عديدة تؤكد تلك الفكرة، قال تعالى في سورة يوسف: "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (111)"، وفي سورة هود: "وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (120)"، إلى آخر تلك المواضع التي تؤكد المعنى والمقصد ذاته.
ومن هنا تبرز أهمية معرفة التاريخ للبناء عليه، وليس من أجل استعادته كما كان تاريخًا والوقوف الجامد عند أحداثه وتصوراته، لأنه حينئذ ينقلب إلى ماضوية تفصل الأمم عن ركب الواقع، وعن قطار الحياة الذي لا يتوقف.
وباستقراء منطلقات وتصورات الفكر المتطرف تبرز -بشكل لا لبس فيه- إشكالية رئيسة، ومكون أصيل في بنيته الفكرية؛ ألا وهي المحاولة المستمرة لاستحضار التاريخ ليكون حاكمًا على الواقع ومحركًا له، فالتنظيمات المتطرفة تعمل على استحضار التاريخ بشخوصه ومعاركه وتحالفاته وتصوراته المرحلية؛ وقد انطلق تنظيم داعش الإرهابي -على سبيل المثال- من تصور أن المسيحيين في العراق أهل ذمة، والخلافة "هي الأمل"، والخليفة في الإسلام قرشي، والنساء بعد غزواتهم المزعومة سبايا في أسواق العبيد، والولاء والبراء مكون عقدي أصيل، والجِزية يجب أن تؤخذ من مسيحيي المَوصِل والرَّقَّة، والأراضي الواقعة تحت يد تنظيم داعش الإرهابي هي دار الإسلام التي يجب الهجرة إليها ومغادرة ما عاداها من البلاد لأنها دار كفر، والآخر الديني حالهم وحكمهم كالمُرجِفِين والمنافقين في المدينة، أو من كفار قريش، أو من أهل الكتاب المتحالفين مع مشركي مكة، أو مع الغزاة من الصليبيين والتتار وأشباههم، ولذا فالآخر الديني لديهم مهدَر الدم، إلى غير ذلك من الممارسات الماضوية التي أساءت إلى التاريخ حين لم تراع حركته ولم تقرأه بنظارته، وإلى الحاضر حين أنكرت معطياته ومستجداته ولم تعترف بالحدود الجغرافية ولا بالمنجزات الحضارية التي تحكم وتنظم علاقات المجتمعات الحديثة في ظل الدولة الوطنية السائدة شرقًا وغربًا.
إن هذا المسلك لا يعدو كونه استحضارًا تعسفيًّا لمشاهد منزوعة السياق شديدة التداخل، وتصورات معزولة عن محيطها الحضاري والثقافي، وأفكار جرى تبسيطها بشكل مخل مما مثل أكبر الإساءة إليها، وأحكام فقهية مرحلية استلزمها واقع لم تنتجه وانقضت بانقضائه، أو هكذا يجب أن يكون. إنه استحضار لا يعترف بخصوصية التجارب ونسبيتها، وظروفها وبيئات تشكلها، وتطور أنماط الحياة وتبدلها.
مما لا شك فيه أن الوعي بالمعطيات الزمنية وروافدها الاجتماعية والسياسية والحضارية راسخ في البنية الرئيسة للشريعة الإسلامية، حيث نص الفقهاء المسلمون -فضلًا عن ممارساتهم- على أن أحكام الفقه الإسلامي تنقسم بشكل رئيسي إلى أحكام ثابتة وأخرى متغيرة علاوة على أن منها ما هو تشريع عام ومنها ما هو مصلحي ظرفي، ولكن إغفال هذا الجانب الأساسي، والخلط بين الثابت والمتغير، والتركيز على التصورات التاريخية ذات الصلة بقضايا الحكم والسياسة معزولة عن كافة الإطارات الأخرى، ناهيك عن استحضار أكثر النسخ مغالاةً من أحكام فقهية معينة، أدى إلى خلل معرفي كبير وعملية خلط وتلبيس للمفاهيم، فالأحكام القرآنية والتوجيهات النبوية العامة التي تنظم العلاقة مع الآخر –على سبيل المثال– تدعو إلى التعارف والبر والإقساط إلى الآخر، واحترام الاختلاف معه باعتباره سنة كونية، وتؤكد على أن تكريم الإنسان -أي إنسان- لكن ذلك في الفكر المتطرف قد تم تنحيته جانبًا من أجل أحكام فردية مرحلية صيغت للتعامل مع ظرف تاريخي، وبمرور الوقت تحول المرحليُّ إلى عامٍّ والعامُّ إلى مرحلي.
ولذلك عدَّ الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، مثل هذا الخلط بين الثابت والمتغير من أكبر العقبات على طريق التجديد، وفي هذا يقول فضيلته: "من أهم العوامل التي شكلت ما يشبه العوائق على طريق التجديد؛ عدمُ التفرقة بين ما هو ثابت وما هو متغير، وأن صيغة معينة من الصِّيغ الفقهية في العصور الخوالي، اكتسبت شرعية الثبوت وشرعية استبعاد الصيغ الأخرى التي تحقق ذات المقصد، لا لشيء إلَّا لأن هذه الصيغة استحسنها نظام اجتماعي معين ويراد استدعاؤها اليوم، لا لتحقيق منفعة عامة للمسلمين، وإنما لتحقيق مكاسب خاصة".
وفي هذا الإطار عمل الأزهر الشريف في السنوات الأخيرة على محاولة تخطي هذه العقبة، وما ترتب عليها من آفة أخرى، وهي "الخلط بين ما يعدُّ تشريعًا عامًّا وما لا يعدُّ كذلك"، ومن ثَمَّ قاد- ولايزال- حركة اجتهادية فقهية كبيرة تدرك الواقع ومنجزاته الحضارية، وترتكز إلى ممارسة اجتهادية راسخة في التراث الإسلامي، وذلك للتمييز بين ما هو تاريخي وما هو ديني، حتى يبيِّن للمسلمين زيف الفكر المتطرف، ويَنزِعَ عن التنظيمات المتطرفة ستار الدين المتدثرة به زورًا، ويحارب الماضوية التي تطلب التاريخ لذاته. وكانت أبرز النقاط التي أكد عليها الأزهر الشريف وإمامه الأكبر في هذا السياق هي:
• تقسيم العالم إلى ديار إسلام وديار كفر، فكرة نشأت في وقت وظروف معينة، لم تعد موجودة الآن، فذلك التصنيف لم يرد في القرآن أو في السنة أو لدى أصحاب النبي (ﷺ) وإنما منشأه كان واقعًا عاشه العالم عندما سادت الفوضى في العلاقات الدولية، وطالما أن الواقع الذي نبع منه ذلك التصنيف تغير إلى الوضع الحالي للعلاقات السلمية الدولية، لذلك فإنها مقولات ذهبت لمهب الريح.
• الخلافة نظام حكم ارتضاه صحابة رسول الله (ﷺ) لأنه يتناسب مع تلك الفترة، وصلح عليه أمر الدِّين والدُّنيا، ولا يوجد في نصوص الكتاب والسنة ما يلزم بنظام حكم معين، بل كل نظام من أنظمة الحكم المعاصرة تقبله الشريعة مادام يوفَّر العدلَ والمساواة والحرية، وحماية الوطن، وحقوق المواطنين على اختلاف عقائدهم ومِلَلِهم، ولم يتصادم مع ثابت من ثوابت الدين.
• الجِزية ممارسة تاريخية، ومصطلح أهل الذمة لم يعد مستعملًا، والأزهر لا يُطْلِقُه ولا يَصِف به شركاءَ الوطن بحال من الأحوال.
• المواطنة الكاملة: حق أصيل لجميع مواطني الدولة الواحدة، فلا فرقَ بينهم على أساس الدِّين أو المذهب أو العِرق أو اللَون، وهو الأساس الذي قامت عليه أول دولة في الإسلام، وتضمنته صحيفة المدينة المنورة، وعلى المسلمين أن يعملوا على إحياء هذا المبدأ، وغير ذلك الكثير.
وعليه، فقضية التمييز بين ما هو تاريخي متغير، وما هو ثابت عامٌّ، تُعَدُّ ركنًا أصيلًا في عملية تجديد الخطاب الديني، ومحاربة الفكر المتطرف، والحفاظ على جوهر الشريعة الإسلامية، لأن إنزال المتغير مَنزِل الثابت، أو إنزال المرحلي منزلةَ التشريع العامِّ، هو إقصاء لديناميكية الشريعة واعتداء على مُرونتها، والتي تعدُّ إحدى أخص صفاتها، لأنها هي "التي حفظت حضارة الإسلام وأمدتها، ولا تزال تمدها بأسباب المقاومة والصمود حتى يومنا هذا".
ولذا أخذ الأزهر الشريف على عاتقه القيام بكل عزم وحزم بمهمة التجديد الديني، الذي يعني "مراجعة المستجدات العملية على ضوء القواعد الكلية، والمبادئ العامة التي تحفل بها الشريعة في مجال المتغيرات، وليس على ضوء أمثلة أو جزئيات كانت في عصر من العصور مستجدات ثم تخطاها التطور، وخلَّفها وراء ظهره"، طبقًا لما أعلنه فضيلة الإمام الأكبر.
يظل الوعي بالتاريخ ضرورة للسير نحو المستقبل، وذلك حين ينطلق من إدراك للراهن ومتطلباته، وفَهم للماضي وإكراهاته، للكشف عن مواطن القوة والأخذ بها، ومواطن الضعف ومعالجتها وتجنب تكرارها، مما ينتج عملية بناء حضاري وتقدم إنساني.
شتان بين ذلك وما يقوم به المتطرفون من الرجوع إلى الماضي والتمسك به لذاته، والزعم أن هذا هو ما كان وما يجب أن يكون دومًا، واعتبار الأفعال الخاصة مقصودة لذاتها، وأنها نماذج صالحة لكل زمان ومكان، لأن هذا هو قتلٌ لحركة التاريخ، وإعلان عن موت الأمة، ولذا فالتنظيمات المتطرفة حاضرة في الماضوية، مستغرقة في قطيعة تامة مع الواقع وتحولاته، فاقدة للبوصلة نحو المستقبل، والذي حتمًا سيجرف أمامَه كل مَن لم يَلحق بِرِكابه.

وحدة رصد اللغة الألمانية

طباعة