الدين والوطن … تكامل أم تعارض!؟

  • | الإثنين, 15 أغسطس, 2022
الدين والوطن … تكامل أم تعارض!؟

      

        "نَعَم لرابطة الدين ولا لرابطة الوطن"، "الوطن والوطنية أوثانٌ تُعبد مِن دون الله".. شعاراتٌ لطالما ردَّدها أقطابٌ ودعاةٌ منتمون للتيارات المتشددة -أو غير منتمين لها تنظيميًا لكنهم متأثرون بخطابها المتطرّف- بغرض الإيحاء بوجود علاقة عكسية بين الهُوِيَّة الدينية والوطنية. لقد تعمد هؤلاء على مدار عقود كاملة التأكيد على رابطة الدين التي تجمع ما يزيد عن مليار مسلم حول العالم، باعتبارها الرابطة الوحيدة التي تحظى بالقبول الإلهي، وما عداها يندرج تحت العداء لله والرسول (ﷺ) وبالتالي يعتبر الفخر بالأوطان -من وجهة نظرهم- كُفرًا؛ لأنه اعتداء على الدين وعدم اعتراف برابطته.

إن جحود الأوطان والتنكُّر لها، ودعم فكرة تعارض الإنتماء للوطن مع الدين والهوية الإسلامية ليس وليدَ الصدفة، بل هو قناعة وعقيدة لدى التنظيمات المتطرفة التي تتستر على جرائمها في حق البلدان والشعوب، حيث نجدهم يعدُّون الأوطان اختراعًا جديدًا وبدعة تعمَّد الاستعمار إيجادها لتقسيم البلاد والعباد بحدود لسهولة السيطرة عليها، وحتى يُعبد الوطن وملوكه من دون الله، وأن الإيمان بهذه الحدود شرك بالله، ودعوة للموت في سبيل الوطن وحكامه لا في سبيل الله، وبالتالي لا حرج من استباحة دماء أبنائه الذين اختاروا الوطن من دون الله أو حتى صمتوا وقبلوا بهذا الأمر. كما أن الوطن في هذه الحالة يتحول لدار كفر أموال أهله غنيمة، ونساؤه حلال وسبايا، وحُكَّامه طغاة، وجنده جنود فرعون يجوز قتلُهم وإهدار دمائهم. فالوطن من منظورهم يعني "دولة الخلافة" -وَفقًا لمفاهيمهم المغلوطة- التي يَسعون لتأسيسِها، ولن يتحققَ لهم هذا الأمر إلا بهدم وتدمير الدول الوطنية وإبادة القوميات، متناسين ومتجاهلين كونهم يسيرون على خطى الاستعمار الذي انتقدوه؛ حيث إنّهم يُأَصِّلُون لمبدأ "التوحش وإدارة الفوضى المتوحشة" للسيطرة والتفريق بين أبناء الوطن الواحد بدعوى التأسيس لدولة الخلافة.

والحقيقة التي لا جدال فيها -والتي  تتغافل عنها تلك التنظيمات المتشددة والمتطرفة في أدبياتها- أنه لا تعارض بين الانتماء الديني والوطني، فالأخير والذي يمكن وصفه بالانتماء الوطني لم يتواجد في المرحلة الحديثة من تاريخ العالم ليناقض ويعاكس الانتماء الديني، بل ليتكامل معه بحيث يُكوِّنان معًا "الهُوية الجماعية المشتركة"، و"الثقافة الجمعية المشتركة". فالانتماء للدين يكون بالالتزام بتعاليمه والتزام منهجه، والانتماء للوطن يكون بحمايته والتضحية من أجله.

والدين الإسلامي عُنِيَ أيَّما عناية بربط أفراد المجتمع بعضهم ببعض، فالإسلام من حيثُ العقيدة يتعامل مع المسلمين على أنهم إخوةٌ في العقيدة، ومن حيثُ الجنسية الوطنية -في الدول ذات الغالبية المسلمة- يشمل المسلمين وغيرَهم مِن أبناء الوطن الواحد إذْ تجمعهم أخوَّة الوطن.

إنَّ للوطن حقوقًا أقرَّها الإسلام وطالب من خلالها المسلمين بأن يكون ولاؤهم لأوطانهم وأن يدافعوا عنها ويبذلوا أرواحهم فداءً لها، وذلك حسب النصوص الدينية المختلفة، منها قول الله تبارك وتعالى: "وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ" (البقرة: 84)، حيث ساوى القرآن بين قتل النفس وبين إخراجها من ديارها، واعتبر الخروج من الوطن موت لصاحبه. وقوله تعالى: "لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ" (الممتحنة: 8)، أي إن طرد المسلمين من أوطانهم من الأمور التي تستوجب منهم الانتفاض للدفاع عن أوطانهم، ومحاربة من يحاول إخراجهم من بلادهم. كذلك قوله تعالى: "وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهَّ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا" (البقرة: ٢٤٦)، فالآية الكريمة اعتبرت أنَّ الإخراج من الديار والأوطان سببًا لمشروعية القتال من أجل  استرداده.

وفي السيرة النبوية العطرة يوجد العديد من النصوص التي تدل على نفس الأمر، أوَّلُها ما كان وقتَ بَدْءِ نزول الوحي على خير خلق الله محمد (ﷺ) حيثُ أخبره "وَرَقَة بن نَوْفَل" رضى الله عنه أن قومه سيكذبونه فلم يقل له النبي (ﷺ) شيئًا، ثم أخبره أنهم سيؤذونه فلم يقل له النبي (ﷺ) شيئًا، ثم أخبره بأنهم سيُخرِجُونَه، وهنا خَرَج (ﷺ) عن صمته وقال -بأبي هو وأمي-: أوَمُخْرِجِيَّ هُم؟ فقال ورقة: نَعَم، لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمِثل ما جئتَ به إلا عُودِي.

كما أقرَّ خيرُ خلق الله سيدُنا محمدٌ (ﷺ) حُبَّ الأوطان، وحثَّ عليه، وذلك عند تعبيره عن حبه لوطنه مكة المكرمة التي ولد فيها، ثم إنه حين أُخرج منها مهاجرًا، وَقف على مشارف الطريق وعيناه تَدْمَعان ليقول: "واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إليَّ، ولولا أنَّ أَهْلَكِ أخرَجُوني منكِ ما خَرَجْتُ". فرغم ما تعرَّض له (ﷺ) في مكة من شدة وقسوة، ورغم كونها وقتها قد أُثقِلَ كاهلُها بالكفر والوثنية، لكن قلبه (ﷺ) كان متعلقًا بها لأنها الأم التي لا يعرف وطنًا غيرها. كذلك الحال مع صحابة رسول الله (ﷺ) كسيدنا أبي بكر الصديق، وسيدنا بلال (رضى الله عنهما) فقد مَرِضا بسبب ابتعادهما عن مكة.

ويمكن القول بأن الترويج لفكرة التعارض بين الهوية الدينية والوطنية، لا صلةَ له لا بالعقل، ولا بالإسلام الذي يحث المسلم على حب وطنه، والحفاظ على أمنه وسلامته. كما أن مِثل هذا التحريف -الظاهر في محاولاتهم لتأصيل مثل هذه الأفكار- قد يتسبب في توجه البعض – من أصحاب النفوس المريضة والعقول الفارغة- نحو الولاء لدول أو جماعات أخرى غير بلدانهم نظرًا لاعتناقها نفس الدين أو المذهب أو الفكر الذي يعتنقه هؤلاء، وهو ما يعني فتح الباب على مصراعيه أمام الفساد والإفساد، والخيانة للأوطان، وكذا التكفير الذي بات الشرارة التي تشتعل منها نيران التطرف والإرهاب.

 

وحدة البحوث والدراسات

 

طباعة