نظام الحسبة.. بين ما أقره الإسلام وممارسات التنظيمات المتطرفة

  • | الإثنين, 14 نوفمبر, 2022
نظام الحسبة.. بين ما أقره الإسلام وممارسات التنظيمات المتطرفة

     الحسبة من الأمور التي اهتم بها الشرع الشريف وحض عليها، وقد جاءت الآيات والأحاديث التي تحث على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع عدة في معرض الوصف بالخيرية تارة كما في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]. وبصيغة الأمر تارة، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وتارة بالوصف المستقر للمؤمنين، كما في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [سورة التوبة: 71] ... إلى غير ذلك من الآيات.
وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". إلى غير ذلك من الآيات التي تحث على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. [أخرجه مسلم في صحيحه (1: 69)].
وقد أجمع العلماء على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات، [يراجع: شرح النووي على مسلم (2: 22)] وهو في حقيقة الأمر تذكير وتنبيه للغافل، وإرشاد وزجر للمجترئ والخارج على أمر الشرع والعرف؛ ذلك أن السكوت على ظهور المفاسد فيه نوع من إلفها وانتشارها، ومن ثم تكون الكارثة الكبرى والتي في الغالب لا تنفع معها الحلول البسيطة، بل تتطلب جهدًا وعملًا كبيرًا.
وقد ذكر العلماء استنباطًا من هذه الأحاديث وغيرها كثيرًا من الضوابط التي يمكن من خلالها تطبيق هذه الفريضة ومنها:
أولًا: ينبغي أن يكون عالمًا بما يأمر به وينهى عنه، وبمواطن الخلاف بين العلماء، فلا إنكار في مواطن اجتهاد العلماء واختلافهم، وعليه ألا يسلك طرقًا غير مشروعة حتى يعلم من خلالها ببواطن الأمور كالتجسس وتتبع العورات قال الله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات، 12]، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بالوَحْيِ في عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وإنَّما نَأْخُذُكُمُ الآنَ بما ظَهَرَ لَنَا مِن أعْمَالِكُمْ، فمَن أظْهَرَ لَنَا خَيْرًا، أمِنَّاهُ وقَرَّبْنَاهُ، وليسَ إلَيْنَا مِن سَرِيرَتِهِ شَيءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ في سَرِيرَتِهِ، ومَن أظْهَرَ لَنَا سُوءًا، لَمْ نَأْمَنْهُ ولَمْ نُصَدِّقْهُ، وإنْ قالَ: إنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ" [أخرجه البخاري في صحيحه، رقم: 2641].
الثاني: الرفق بالمنصوح والتدرج معه والصبر عليه، وهذه من الأمور المهمة لمن يتصدى لأمور الحسبة أن يسلك مع الناس طريق الرفق فقد ورد في الحديث، "إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ" [أخرجه مسلم]. وأن يكون صابرًا على أذى المنصوح لأنه قد يؤذيه بلسانه أو بيده حينها لا بد وأن يتحلى الناصح بالصبر كما ورد في وصية لقمان لابنه في القرآن الكريم: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [سورة لقمان: آية 17].
الثالث: النظر في المآلات
من واجبات المحتسب أن يكون عالمـًا بمآلات الأمور، فلربما كان أمره بشيء أو نهية عنه سببًا في زيادة المنكر وعدم زواله.
الرابع: القدرة على الأمر بالمعروف وتغيير المنكر
ودليله قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة، آية: 286]، وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". [أخرجه مسلم، (1: 69)] وقد ذكر العلماء أن التغيير باليد إنما هو للحاكم أو من ينوب عنه، وأن التغيير باللسان للعلماء وأن التغيير بالقلب لعموم الناس.
الخامس: أن يكون مخولًا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهذا الشرط متعلق بما قبله، ذلك أن كثيرًا من الناس يتدخل فيما لا يعنيه، وهو بذلك يخالف قوله عليه الصلاة والسلام: "من حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يَعنيهِ" [أخرجه: الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976)].
هذا والمنوط به تغيير المنكر في زماننا هي تلك الأجهزة المخولة لها التدخل عند مخالفة القوانين والأعراف كأجهزة الشرطة والجهات الرقابية والمفتشين في المصالح الحكومية والأسواق ... وغيرها، ولا يجوز لأحد أن يتعدى حدوده وأن يقوم ببعض واجباتهم ولم يخول له القانون القيام بهذا الحق.
وهذا بعينه مما استحدثته تنظيمات التطرف في أماكن تواجدها؛ حيث إنهم رفعوا شعار (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ومن أمثلة ذلك ما أعلنته تلك التنظيمات في بعض الدول أنهم منعوا تخصيص غرفة للقياس داخل محلات الألبسة؛ ومنعوا عمل الجنسين (الذكور والإناث) في المحل نفسه؛ وكذلك حرموا عرض المانيكانات المجسَّمة وإظهار وجوهها. وقامت هذه التنظيمات بتحذير أصحاب المحلات من مخالفة ما سبق، مستدلين على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكتْ ما بينها وبين الله". وحرموا كذلك إقامة أية أنشطة عامة كإقامة الأعراس وتصويرها أو إقامة سرادقات العزاء في مناطق نفوذهم، معللين ذلك بأنه لم يرد عنه عليه الصلاة والسلام مثل تلك الأمور. والأعجب من ذلك أن هذه التنظيمات قد ضموا إليهم أطفالًا لا تتجاوزُ أعمارهم عشر سنوات، كوّنوا مجموعات خاصة بهم؛ فكانوا يخرجون إلى الشارع العام وإذا وجدوا فتاة حاسرة الرأس رموها بالحجارة عن بعد، أو رشوها بالماء.
ونقول أولًا: لقد خالفت تلك التنظيمات جميع الشروط التي ذكرها العلماء لمن يقوم بهذا الأمر، فقد ثبت أنَّ المنتسبين لهذه التنظيمات والتيارات على جهل عظيم بالدين، وأنه قد بلغ بهم التعصب مبلغًا عظيما بحيث يريدون أن يحملوا الناس على مثل رأيهم وإلا رموهم بالكفر والردة. وظهر كذلك لكل ذي عينين مدى ما يتمتع به أفراد هذه التنظيمات من ثقافة ضحلة وفراغ فكري وبراءة عقولهم من الوعي والمنطق، وخلوها عن الفكر القائم على دقة المعلومات الصحيحة، ولا أدل على ذلك من فتاواهم باستباحة الأموال في ظل هذه الوصاية التي يسمونها (الحسبة).
ثانيًا: هذه الفتاوى الشاذة تمثل انعكاسًا لسماتهم المركزية والتي منها رفض أية أشكال حديثة والتي منها البيع والشراء وكيفية عرض المعروضات. وتحريم هذه الأشياء ومنعها يدل على جهل تام بالمنهجية العلمية في قراءة النصوص الدينية، واستقاء القناعات والأفكار منها، ولا شك أنهم حين أقاموا الدنيا وأقعدوها في هذا الشأن كانوا يعتقدون أنهم بذلك ينصرون دين الله تعالى.
ثالثًا: أن إقامة الحدود والجهاد والأمر بالمعروف وتغيير المنكر من الأمور المخولة للسلطة التي لا يتطاول عليها أحد، وتركه للعامة والصبيان يترتب عليه مفاسد عظيمة، فقد يستغل بعض الناس هذا من أجل تصفية حسابات مع أشخاص بعينهم.
رابعًا: أنَّ هذه التنظيمات لم تخول لها السلطة المختصة بأن يقوموا بهذه الأعمال، والواجب أن يمتثل الجميع لقانون الدولة، وأن يترك الأمر لولاة الأمور ليقوموا بأعمالهم.
ثم نقول: إنَّ إقامة الأعراس أو سرادقات العزاء مما لا يستغني عنها بعض الناس، ولها ضوابطها التي ذكرها العلماء، لكن لم يذكر أحد من العلماء القول بحرمتها على الإطلاق. إن الحديث الذي استدلوا به لا علاقة له بما ذهبوا إليه، قال المناوي في شرحه لهذا الحديث: "والظاهر أنَّ نزع الثياب عبارة عن تكشفها للأجنبي لينال منها الجماع أو مقدماته، بخلاف ما لو نزعت ثيابها بين نساء مع المحافظة على ستر العورة؛ إذ لا وجه لدخولها في هذا الوعيد". [فيض القدير (3/ 147)]. وعلى ذلك فحجرة تغيير الملابس في هذه المحلات لا تدخل تحت هذا الحديث.
وأما الرد على النقطة الثانية فنقول: عمل المرأة والرجل في مكان واحد من المباحات ولا حرمة فيه ولا خلوة، وقد كان النساء يصلين خلف الرجال في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام.
وأمَّا عرض المانيكان المجسمة فلا يدخل تحت اتخاذها كالأصنام أو الأوثان المعبودة، فهي مما يمتهن ولا يقصد منها العبادة كما هو معروف، ولا يقصد بها مضاهاة خلق الله، ولا يقصد بها العبادة والتقديس، ولا تصنع لغرض محرم، وعلى ذلك فالقول بجوازها أولى، سواء كانت كاملة أو غير كاملة، على الحجم الطبيعي للإنسان أو لا، ويجوز أن تستخدم، وأن تباع، وأن تشترى، ولا يجوز تكسيرها كما يفعله بعض الجهال من المنتسبين للتنظيمات المتطرفة.

طباعة