مالقة... مدينة المعرفة والتعايش

  • | الخميس, 17 نوفمبر, 2022
مالقة... مدينة المعرفة والتعايش

 

     تُعد مدينة مالقه من أقدم مدن إسبانيا والعالم، فقد أسسها الفينيقيون وحكمها الرومان ومن بعدهم المسلمون الذين حولوا تلك المدينة إلى مركزًا للعلم والثقافة والفنون، فضلًا عن تقديمهم لها كنموذج يُحتذى به في عملية التعايش بين جميع طوائف المجتمع على اختلاف معتقداتهم وأعراقهم.

 ويذكر المؤرخ الإسباني "فيرجيليو مارتينيز إينامورادو" في هذا الصدد أن مالقة احتلت المرتبة الرابعة ‏بين المدن في الأندلس بعد قرطبة وإشبيلية وغرناطة؛ من حيث الأهمية الفكرية باعتبارها أحد المراكز الثقافية الرئيسية في "الغرب الإسلامي" كما كان يُطلق عليه آنذاك حيث كان يشمل المنطقة الشمالية الغربية من البحر الأبيض المتوسط وشبه الجزيرة الإيبيرية. ويرى المؤرخ الإسباني أن الأهمية التي اكتسبتها هذه المدينة ترجع في المقام الأول إلى الحقبة التاريخية التي قضاها المسلمون على مدار التاريخ الأندلسي، الأمر الذي يُعطي المدينة بُعدًا ثقافيًّا في غاية الأهمية، فضلًا عن ارتباطها الوثيق بالمغرب العربي والشرق من خلال مينائها البحري الذين كان مفتوحًا أمام جميع التدفقات الفكرية، والذي كان يُعد الميناء الرئيسي للأندلس في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، الأمر الذي منح هذه المدينة تعددية ثقافية مهمة للغاية ساهمت بشكل كبير في التعايش السلمي بين أتباع الأديان السماوية الثلاثة آنذاك.

Image

على مدى ثمانية قرون كانت مالقة جزءًا لا يتجزأ من العالم الإسلامي، بل كان البحر الأبيض المتوسط نفسه يُعد إلى حد كبير بحيرة إسلامية بامتياز. وشبه الجزيرة الإيبيرية، جزءًا من دولة الأندلس. وعلى الرغم من المحاولات المستميتة والرامية إلى طمس فترة الازدهار الإسلامي في تلك المدينة منذ سيطرة الملوك الكاثوليك عليها في عام 1487م، وما تبعتها من حركات سعت إلى طمس الهوية العربية الإسلامية بالقتل والتهجير والتنصير القسري لمحو أي أثر إسلامي بالمدينة، ظهر جيل من المستعربين في القرن التاسع عشر آلى على نفسه، وهو يتحلى بالصبر والعزيمة والعمل ‏الدؤوب، أن يقدم الإرث الأندلسي بجميع أبعاده المختلفة، فضلًا عن إظهار الثراء الثقافي والفكري منقطع النظير ‏الذي تركه الأندلسيون على مدار تلك القرون وعلى وجه التحديد في مالقة؛ حيث كانت تُعد مركزًا في غاية الأهمية ‏للنشاط العلمي والفكري بفضل مجموعة الكتاب الذين ولدوا بها وظلت أسماؤهم محفورة في العقول والأذهان وفي ‏الحياة الفكرية أمثال، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو الفكرية، عالم النبات الشهير ابن البيطار (1197م – 1248م) والشاعر والفيلسوف العبري ابن ‏جابيرول (1021م- 1058م)، فضلًا عن مجموعة كبيرة من الشعراء والمؤرخين والجغرافيين والكتاب والعلماء غير ‏المعروفين الذين أثروا الحياة الفكرية بتلك المدينة.

وفي هذا الصدد تشير المصادر التاريخية، إلى أن موسوعة الثقافة الأندلسية الأخيرة سردت أكثر من (250) ‏مفكرًا على صلة بمالقة الأندلسية، منهم (120) من مواليد المدينة نفسها. بالإضافة إلى ذلك، تبين أن هؤلاء هم ‏المفكرون الذين كان لديهم سجل من الأعمال المكتوبة والتي حُفظت حتى يومنا هذا ووصلت إلينا، مع العلم بأن هناك ‏الكثير من المفكرين الأندلسيين الذين لا يوجد لديهم سجل مكتوب، وفي هذه الحالة يمكن أن نتحدث عن وجود ما ‏يقرب من (400) أو (500) عالم في جميع مراحل تطور الثقافة في مالقة الأندلسية في الفترة من القرن الثاني عشر ‏إلى القرن الرابع عشر، وعلى وجه التحديد، ما بين (1150) و(1350) عندما برزت مجموعة من الشخصيات ‏الاستثنائية في المدينة، والتي أضحت فترة من أعظم وأروع الفترات الفكرية.‎

ولعل هذا التفرد التي تتميز به مدينة مالقة عن غيرها من مدن الأندلس يرجع إلى تأسيس أقدم مدرسة ‏إسلامية عرفتها شبه الجزيرة الإيبيرية على يد الشاعر والمعماري الغرناطي أبى إسحاق إبراهيم الساحلي في القرن ‏الرابع عشر في الجانب الغربي من المسجد الكبير، حيث كانت تُدرس فيها علوم القرآن وشتى أنواع العلوم المختلفة، ‏بل كانت النواة الأولى لمجموعة المدارس التي أنشئت فيما بعد في باقي المدن الأندلسية وعلى رأسها مدرسة غرناطة التي ‏أسسها يوسف الأول بعد مدرسة مالقة بحوالي ستة عشر عامًا.‎

وهكذا نبغ علماء تلك المدينة في شتى فروع المعرفة المتنوعة بجميع تخصصاتها في الطب، والتاريخ، ‏والجغرافيا، والشعر، والفلسفة، وغيرها. وبذلك ظلت مالقة على مدار قرون من الزمان أحد أهم مراكز المعرفة ‏الرئيسية ليس فقط في شبه الجزيرة الإيبيرية، ولكن في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط بأكملها خاصة في ‏العصور الوسطى، وأحد أهم مدن الغرب الإسلامي بفضل مكانة علمائها وكتابها. وعندما تمكنت القوات المسيحية ‏التابعة لمملكة قشتالة من الاستيلاء على المدينة، تحديدًا في عام 1487م، كانوا لا يدركون ماهية تلك المدرسة حيث ‏خُيِّل إليهم أن هذه البنية ما هي إلا مسجد صغير وبه مجموعة من الزنزانات، التي كانت هي غرف الدراسة بالمدرسة ‏المخصصة لطلاب العلم، وسرعان ما قاموا بتحويل المسجد والمدرسة إلى كنيسة على غرار ما حدث في المدن الإسبانية ‏الأخرى خلال تلك الحقبة التاريخية. ‎

وعلى الرغم من تلك الحقائق التاريخية التي تبرهن على التطور الفكري والثقافي التي شهدته هذه المدينة على مدار ‏عقود من الزمان إلا أن هناك حالة من الجهل واسع الانتشار بتلك القرون الثمانية من الحقبة الإسلامية، ولعل ‏السبب يرجع في المقام الأول إلى حالة الرفض لكل ما هو إسلامي وعدم دمج هذه الفترة في تاريخ إسبانيا المعاصر، وفي ‏هذا الصدد يؤكد المؤرخ الإسباني على أن "اللغة العربية تمثل إشكالية كبيرة، فضلًا عن حالة الرفض تجاه كل ما هو ‏إسلامي، بسبب عدم دمجه في تاريخنا الإسباني، كما لو كان شيئًا غريبًا علينا"، ويؤكد المؤرخ على وجود مجموعة ‏كبيرة من المبادرات تسعى إلى الكشف عن جوانب قيمة لتلك المدينة الأندلسية تتعلق بالحياة الفكرية لمدينة شهدت ‏تطورًا هائلًا في شتى أنواع المعرفة.‎

و هذا ونؤكد على ضرورة التخلص من كافة الأفكار الهدامة من خلال تغيير المناهج التعليمية التي تسعى إلى طمس تلك ‏الحقبة التاريخية من المقررات الدراسية حتى تتمكن الأجيال الجديدة من التعرف على هذا الماضي المزدهر، وقيمه ‏الأصيلة التي من شأنها بث روح الألفة والتعايش بين جميع أفراد المجتمع على اختلاف معتقداتهم وأجناسهم ‏وأعراقهم. كما نثمن تلك الأصوات العاقلة والمنصفة التي تحاول جاهدة إبراز الجوانب المضيئة التي هي جزء أصيل ‏من تاريخ عبثت به أقلام كارهة للإسلام والمسلمين على مدار عقود من الزمان ورسخت في أذهان الشعب الإسباني ‏مفاهيم مغلوطة عن هذا الدين وأتباعه.‎

 

 

 

 

 

 

 

طباعة