خطورة الفتوى بغير علم.. "فتاوى داعش" أنموذجًا

  • | السبت, 18 فبراير, 2023
خطورة الفتوى بغير علم.. "فتاوى داعش" أنموذجًا

يمكن تعريف الفتوى، بأنها جواب شرعي عن واقعة متعلقة بحكم شرعي أو بغيره بنوع من الإيضاح، أو يمكن تعريفها بأنها: بيان الحكم الشرعي عند السؤال عنه، أو بغير سؤال ببيان حكم النازلة لتصحيح أوضاع الناس وتصرفاتهم.
وقد وردت مادة "الفتيا" في عدة مواضع القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} [النساء: 127]، وقوله تعالى {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُون} [النمل: 32]، قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} [الصافات: 11].
ويفهم من هذه الآيات أنَّ "الفتيا" ربما أتت في القرآن جوابًا عن سؤال يتعلق بحكم شرعي أو بغيره، كالسؤال في الآية الأولى عن النساء، أو طلب المشاورة كما في قصة بلقيس مع قومها حين جاءها خطاب سليمان – عليه السلام، في الآية الثانية، وقد تأتي "الفتيا" بمعنى طلب الجواب عن سؤال، ليس غرضه العلم، ولكن إفحام الخصم وإقامة الحُجة عليه.
ومنصب الإفتاء له مكانة عظيمة، ومنزلة جليلة، ينبغي ألَّا يتصدر له إلَّا المتأهل، المأذون له من قِبَل السلطة المختصة، لأنَّ من يفتي النَّاس إنما هو مُخبرٌ عن الله تعالى، ومُوقِّع عنه، ولذلك اشترط الفقهاء فيمن يقوم بالفتوى عدة شروط لا بد من توفرها؛ وهي أن يكون مسلمًا، ثقة، مأمونًا، صادقًا، ذكيًّا، قويَّ الملاحظة والاستنباط، بصيرًا بمصالح العباد، صاحب مروءة، متحليًّا بالصبر والشفقة، عالمًا بالأحكام الشرعية كحفظه للقرآن، وأحاديث الأحكام، عالمًا بأصول الفقه، عارفًا بأقوال العلماء، واختلافهم.
وعلى ذلك فالفتوى بغير علم حرام قطعًا، فالذي يفتي بغير علم فقد تقوَّل على الله تعالى بما لم يعلم، وقد حذر الحق سبحانه وتعالى من الكذب عليه فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)} [البقرة، الآيتان 168، 169].
ولقد ورد الوعيد الشديد لمن يتجرأ على الفتوى، حتى وإن قصد بذلك نيل الأجر، وتحصيل الثواب، وقد جاء في الخبر "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار"، و[قال العلامة المناوي: فيما أخرجه الدارمي عن عبد الله بن جعفر مرسلًا]، والجريء على "الفتيا" كما جاء في الحديث هو من يُقدم على إجابة السائل عن حكم شرعي من غير تثبت، وتدبر... فإذا أفتى على جهل، أو بغير ما عَلِمَه، أو تهاون في تحريره، أو استنباطه، فقد تسبب في إدخال نفسه النار لجرأته على المجازفة في أحكامه تعالى. [يراجع: فيض القدير (1: 158)].
وقال الزمخشري في تفسيره لقوله تعالى: {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس، آية: 59] " كفى بهذه الآية زاجرةً زجرًا بليغًا عن التجوز فيما يُسئل عنه من الأحكام، وباعثةً على وجوب الاحتياط فيه، وألَّا يقول أحد في شيء جائز، أو غير جائز، إلَّا بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن، فليتق الله، وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله" [يراجع: تفسير الزمخشري (2: 354)].
وعن جابر بن عبد الله قال: "خَرَجْنا في سَفَرٍ، فأصابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ فشَجَّه في رَأْسِه، ثم احتَلَمَ، فسألَ أصحابَه، فقال: هل تَجِدونَ لي رُخصةً في التَّيمُّمِ؟ فقالوا: ما نَجِدُ لكَ رُخصةً وأنتَ تَقدِرُ على الماءِ. فاغتَسَلَ، فماتَ، فلَمَّا قَدِمْنا على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُخبِرَ بذلك، فقال: قَتَلوه قَتَلَهمُ اللهُ، ألَا سألوا إذْ لم يَعلَموا؛ فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ، إنَّما كان يَكفيه أنْ يَتيَمَّمَ، ويَعصِرَ، أو يَعصِبَ -شَكَّ الراوي- على جُرحِه خِرقةً، ثم يَمسَحَ عليها ويَغسِلَ سائِرَ جَسَدِه" [أخرجه أبو داود (336) واللفظ له، والدارقطني (1/189)، والبيهقي (1115)]. وقوله عليه الصلاة والسلام "قَتَلوه"، أي: هؤلاء الَّذين أفتوه دونَ عِلم، "قَتَلهم الله!"، أي: وهذا دعاء منه زجرًا وتهديدًا لهم.
وقال ابن المنكدر: المفتي يدخل بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يفعل، فعليه التوقف، والتحرز لعظم الخطر. وكان ابن عمر إذا سُئل قال: اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلَّد أمر الناس، فضعها في عنقه، وقال: يريدون أن يجعلونا جسرًا يمرون علينا على جهنم، فمن سُئل عن فتوى، فينبغي أن يصمت عنها، ويدفعها إلى مَن هو أعلم منه بها، أو إلى مَن كُلف الفتوى بها، وذلك طريقة السلف. وقال ابن مسعود: الذي يفتي عن كل ما يُستَفتى عنه مجنون" [يراجع: فيض القدير (1: 158)].
وانطلاقًا من أنَّ الإسلام دين أمن، وسلام، وتسامح، وليس دينَ إكراهٍ، وإرهاب، تكمن خطورة فتاوى التنظيمات المتطرفة في أنها تأخذ طابعًا شرعيًّا، ومرجعية مقدسة، ينخدع بها البسطاء من الناس، لكنها في ميزان الشرع سبب للإضلال، والتعدي بالضرر على النفس، والمجتمع، كتلك الفتاوى التي صدرت عن تلك التنظيمات الإرهابية بالقتل، والتفجير، والتعذيب، ومن المعلوم أنَّ أفراد تلك التنظيمات ليسوا علماء، ولا مشهورين بطلب العلم، فلم يدرسوا الأحكام الشرعية من منابعها الصحيحة، وهم كذلك مفتقدون لخطورة، ومسئولية الفتوى، وما يترتب عليها من ويلات، ومفاسد، وعلى ذلك فمرجعيتهم في إصدار فتاواهم هو المزاج، والهوى، حيث يصبُّ فيهما مفتوهم نار غضبهم تجاه الأفراد، والمؤسسات الوطنية، والدينية، ضاربين بعرض الحائط ما ورد في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، من خطورة الاقتراب من الفتوى بغير علم.
ولقد تنبأ النبي عليه الصلاة والسلام إلى مثل هؤلاء، فيما روى الشيخانِ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا؛ [أخرجه البخاري في صحيحه، رقم: 100، ومسلم رقم: 2673].
فالتنظيمات المتطرفة قد صدر منها الكثير من الفتاوى التي تحض على قتل الأنفس التي حرم الله قتلها، وهم في ذلك مخالفون للإسلام معتدون على الحرمات، ولقد بين سبحانه وتعالى في كتابه في أكثر من آية حرمة قتل النفس، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وقوله تعالى: { مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [سورة المائدة: 32].
ولقد ترتبت على هذه الفتاوى كثير من المفاسد، كإدخال المجتمع في دوامة من الفتن، والصراعات بين النسيج الوطني الواحد، ولنا أن نتساءل: ماذا جنى المسلمون من تلك التفجيرات التي حدثت هنا وهناك؟ للأسف كان من نتائجها ويلات؛ أُزهقت فيها الأرواح، ورُملت فيها النساء، ويُتِّم فيها الأطفال، وأحرقت بسببها المصانع، وأماكن التجارة، وترك الناس أوطانهم، مما ألحق الضرر على المجتمع كله، وكان سببًا في نكسته.
ومعلوم أن هذه الفتاوى التي تصدر عن مثل هذه التنظيمات إنما هي وسيلة يدخل من خلالها تلك التنظيمات في الصراعات السياسية، ويجعلون من الدين جسرًا لتحقيق أجنداتهم السياسية، ولذلك فلا يهمهم ما يترتب على فتاواهم تلك من ضلال، ومفاسد، ولا يهمهم الحفاظ على أمن المجتمع، واستقراره، ويستغل أعداء الإسلام أفعال هؤلاء المتطرفين وما يفتون به من فتاوى القتل والتفجير، ليعلنوا أمام شعوبهم أنَّ هذا المسخ هو الإسلام الذي جاء به محمد، وأنه من الواجب مواجهته، ومن ثم يتسلطون على البلاد، ويتدخلون في شؤونها، ويسلبون خيراتها.
ويرى مرصد الأزهر أنَّه من الواجب على العلماء أن يبينوا للنَّاس خطورة الفتوى بغير علم، وأن فتاوى تنظيمات التطرف للأسف لن تحفظ للمجتمع أمنه، واستقراره، وأنَّه من الواجب على جميع المواطنين أن يغلقوا الباب أمام هؤلاء المتطرفين الجاهلين، وأن يتمتعوا بالثقة في المؤسسات الدينية الرسمية، فإنها أجدر من غيرها بحفظ الشريعة، وأسرارها، وتعليمها، وتبليغها.


وحدة رصد اللغة العربية

طباعة