"لِتَعارَفُوا".. مبدأ قرآني ضدَّ العنصرية

  • | الخميس, 6 أبريل, 2023
"لِتَعارَفُوا".. مبدأ قرآني ضدَّ العنصرية

     تُعد العنصرية أحدَ الأمراض المجتمعية المنتشرة في كثير من المجتمعات، وهي ظاهرة تتغذى ببعض الروافد التي تقويها وتؤجِّجها، أبرزها: انتشار الجهل، والفقر، وغياب التشريعات القانونية التي تجرِّم التمييز العنصري وما يترتب عليه من خطابات الكراهية، وعليه فقد أصبحت العنصرية ظاهرةً في بعض المجتمعات يجب مكافحتها ومقاومتها، إذ إنها تنتهك كرامة الإنسان وشرفَه، بل وحياتَه أيضًا.

 

وبالرغم من عدم وجود تعريف موحَّد لمصطلح العنصرية، إلا أن الشروح المختلفة للمصطلح توضح أنه يشتمل على نوع من التمييز والسخرية من أفراد أو جماعات معينة، بسبب اختلاف الدِّين، أو اللون، أو العِرق، أو الجِنس، وما إلى غير ذلك من الاختلافات التي لا دخلَ للإنسان فيها، والتي لا ينبغي لها أن تؤثر على علاقته بالمجتمع من حوله. وتهدف السخرية الناتجة عن التمييز العنصري إلى الانتقاص من قدر الآخَر والحطِّ من منزلته، وتتفاوت درجاتُ السخرية حسبَ الظروف والأحوال، وحسبَ الفاعل والمتلقي للسخرية، فتصل إلى درجة التهديد في كثير من الأحيان، فضلًا عن الشعور بالخوف، أو الرعب الذي يتملك الضحية الواقعة تحت تأثير العنصرية، هذا الشعور الذي يجعل الإنسان غير قادر على التصرف بصورة سليمة، فضلًا عن قيامه برد فعل غير متوقع تجاه التهديد الذي يخضع له بشكل مستمر، وعليه فإنَّ العنصرية في هذه الحالة لا تمثل تهديدًا للمجموعة، أو الشخص الموجَّه له الخطاب فحسب، بل تمثل تهديدًا للمجتمع بكامله؛ إذ إنه يؤثر على استقراره، وتماسكه، وترابط أفراده، وعليه ينبغي مكافحته بشتى الوسائل الممكنة.

دوافع العنصرية

كثرت في السنوات الأخيرة الدراسات حول دوافع العنصرية؛ حيث تبيَّن وجود دوافع مختلفة، أكثرها اختلاف العرق أو بلد القدوم، وفق إحصائية عن التمييز العنصري في المجتمعات الأوروبية لعام 2019م([1])، فيما يعني أن العنصرية توجه في المقام الأول ضد الأجانب بما فيهم اللاجئون، خاصةً إذا كان من الممكن تمييز أنهم ليسوا من أصول أوروبية، سواءٌ بسبب اسمهم الشخصي المختلف عن الأسماء الأوروبية النمطية، أم بسبب لون بشرتهم، وعليه تتجلى بعض مظاهر العنصرية ضدَّهم، ومن ذلك معاملتهم بشكل سيء في الشارع ووسائل المواصلات العامة، وتوجيه السباب لهم، أو معاملتهم بعنف، أو وصفهم المستمر بأنهم لاجئون، حتى وإن كانوا يقيمون في البلد بسبب العمل، أو الدراسة، أو غيرها من الأسباب التي لا علاقة لها باللجوء، ومن هذه المظاهر أيضًا حرمانهم من بعض الوظائف، وصعوبةُ الحصول على سكنٍ مناسب.

 وجاء اختلاف الجنس في المرتبة الثانية بوصفه دافعًا لممارسة العنصرية، أي إنها في هذه الحالة تُوَجَّهُ في أغلبها ضدَّ النساء، وفي حالات أقل من النساء ضدَّ الرجال، وهذه الظاهرة لا تقتصر على المجتمعات الأوروبية فحسب، وعليه لا ينبغي اتهام مجتمعات بعينها بأنها عنصرية ضد النساء، أو أنهم يعامِلون النساء بشكل سيء؛ إذ هي توجد في مختلف المجتمعات، مع اختلاف نسبة وأساليب حدوثها. ثم جاءت الإعاقة الجسدية، أو الذهنية في المرتبة الثالثة دافعًا محركًا للعنصرية، وذلك من خلال التنمُّر على أصحاب هذه الإعاقات، وهو ما يدل على خطورة هذا الأمر؛ إذ إنَّ الإعاقة ينبغي أن تكونَ محرِّكًا للتعاطف، والتعاون، وتقديم يدِ العَون في المقام الأول، أما أن تكون دافعًا للعنصرية فهو ما يعني غياب المشاعر الإنسانية عند من يمارس هذا الأمر. وفي المرتبة الرابعة جاء اختلاف العمر بوصفه أحد أسباب التمييز العنصري، حيث يمارسها الشباب ضد كبار السن في حالات، وفي حالات أخرى تتم بطريقة عكسية، وهو ما يدل أيضًا على غياب القيم المجتمعية، والتربية السليمة التي تجعل الاحترام المتبادل هو السائد بين الصغار والكبار. وقد جاء اختلاف الدين في المرتبة الخامسة بنسبة (7%)، وهي نسبة ليست قليلة، خاصة أن هذه الإحصائية في المجتمعات الأوروبية التي تنص دساتيرها على حرية العقيدة، واحترام العبادة، وعلى الرغم من أن حرية العقيدة مطبقة بشكل كبير في هذه الدول، فإن هذه الاستثناءات ينبغي أن تدقَّ ناقوس الخطر للحفاظ على المجتمعات وسلامتها، جدير بالذكر أن الإحصائية شملت أسبابًا أخرى بنسب مختلفة لا يتسع المقام لذكرها جميعًا، كما أن هناك إحصائيات أخرى عن العنصرية، جاءت الأسباب المذكورة سابقًا في معظمها، حيث جاء أيضًا في مقدمتها اختلافُ العِرق، والجنس، والإعاقة، والدِّين، كأبرز الأسباب المحركة للعنصرية.

هذه الأسباب وإن وردت في إحصائيات تتعلق بالمجتمعات الأوروبية، إلا إنه يمكن القول بأن هذه الأسباب تمتد لمجتمعات أخرى، سواء العربيةُ منها أو غيرُ العربية، ويترتب عليها بلا شك آثار سلبية على الأمن المجتمعي، وتمتد هذه الآثار لتؤثر على الأحوال الاقتصادية والسياسية؛ ولذا فإن محاولة بناء الوعي للحفاظ على الهُوِية العِرقية، أو الدينية، أو الثقافية، مع الاندماج في المجتمع دون محاولة التماهي، والدعوة لقَبول الآخر، ومعاملته بطريقة لا تمييز فيها، هي أمور تسهم في مواجهة مظاهر العنصرية.

وفي هذا السياق نشير إلى انتشار مظاهر العنصرية في الفضاء الإلكتروني، ومواقع التواصل الاجتماعي، حتى أضحت أمرًا ملحوظًا، وكثرت عنه الكتابات، والمقالات، وتم توجيه النقد حينًا، والتحذير حينًا آخر إلى المسئولين عن هذه المواقع للحد من مظاهر العنصرية، وخطابات الكراهية، فبدأت تلك المواقع في اتخاذ بعض التدابير، والإجراءات التي من شأنها أن تحد من العنصرية، وعليه بدأت مواقع التواصل الاجتماعي تكتب نشرات تحذيرية عن المحتويات العنصرية، وتضع ذلك في شروط استخدام الموقع، والتي يجب الموافقة عليها عند البدء في الاستخدام، وعلى الرغم من أن بعض المواقع بدأت في حذف بعض المنشورات، وحظر بعض الأشخاص، والكِيانات ممن يقومون بنشر محتويات غير مناسبة، فإن أغلب مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي لا يقرأون النشرات التحذيرية، أو شروط الاستخدام الخاصة بهذه المواقع، فأغلب المستخدمين يوافقون على الشروط بصورة تلقائية دون قراءتها، ولذا توجد صور مختلفة للعنصرية على هذه المواقع، بل إن بعض المستخدمين قد وجدوا طرقًا مختلفة للتغلب على خوارزميات مكافحة العنصرية على هذه المواقع، وعليه تظل كثير من مظاهر التمييز، والتنمر موجودة بشكل لافت للنظر في الفضاء الإلكتروني؛ ولذا فإنها تتطلب وسائل أكثر فاعلية في مكافحتها.

مواجهة الإسلام لكافة أشكال العنصرية

ونجد أن الإسلام قد استشعر خطورة هذه الظاهرة منذ نشأته، حيث جاء الإسلام في مجتمع تنتشر فيه أفكار تفرق بين الحر والعبد، والأبيض والأسود، والرجل والمرأة، والفقير والغني، وما إلى غير ذلك من الأفكار التي تحمل بين طياتها صورًا من صور التفاخر، ومعاني مختلفة للعنصرية بشكل مباشر، أو غير مباشر، فكافح الإسلام هذه الظاهرة بطرق مختلفة، حتى كادت تختفي بشكل كبير في فترة قليلة من الزمن، فكان صاحب البشرة السمراء هو من يؤم المسلمين في الصلاة، دون فرق في ذلك بينه وبين غيره، وكان الفقير يتولى الإمارة والقيادة، وذلك دون فرق بينه وبين الغني، إلى جانب كثير من الصور الإيجابية الأخرى التي لا يمكن حصرها في هذا المقال، وهنا نشير إلى الآيات التالية من سورة الحجرات، والتي وضحت أسس التعامل بين البشر، فيقول سبحانه عز وجل:

"يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" (الحجرات: 11)

ويقول عز وجل:

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات: 13)

ففي هذه الآيات يوضح القرآن الكريم أن العلاقات الإنسانية ينبغي أن تُبنَى على الأُخُوَّة، والاحترام، وعدم التنابز بالألقاب، ثم وصف من يستمر في فعل هذه الأمر بالفسوق بعد أن أوضح له الدين حرمة هذا الأمر، والآيات الكريمة من سورة الحجرات توضح ضرورة اجتثاث العنصرية من أساسها، حيث إن العلاقة بين الإنسان وخالقه تُبنَى على التقوى والعمل الصالح، وهما أساس تفضيل أيِّ إنسان على آخَر عند المولى عز وجل، وهذ أمر لا يعلمه إلا الله، والعلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان المختلف عنه دينًا، أو لونًا، أو عِرقًا تُبنَى بداية على أساس التعارف، فالتعارف هو نقطة الانطلاق في العلاقات الإنسانية، حيث بيَّن القرآن أن جميع الناس على الرغم من اختلافهم إخْوَة في الأصل، فالأب واحد، والأم واحدة، وهو ما بيَّنه المولى عز وجل في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) فيُذَكِّر البشر بأن الأصل واحد رغم الاختلاف، فيكون الاختلاف في هذه الحالة هو الدافع للتعارف، حيث يبحث الإنسان عن المشترك الديني، أو الإنساني، أو الثقافي مع الآخَر، وعليه ينبغي ألا يتسبب هذا الاختلاف في تنازع، أو شقاق، أو أن تَسُود العنصرية في التعامل بينهم.

وقد قال رسول الله (ﷺ) تأكيدًا لمعنى الآيات السابقة: "ألا لا فضلَ لِعربيٍّ علَى عجمي، ولا لِعجميٍّ علَى عربي، ولا لِأحمرَ على أسودَ، ولا لِأسودَ على أحمرَ إلا بالتقوى، إنَّ أكرمَكم عندَ الله أتقاكم". وفي فتح مكة خَطَب (ﷺ) في الناس قائلًا: " يا أيُّها الناس، إنَّ اللهَ قد أَذْهَبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية، وتَعاظُمَها بآبائها، فالناسُ رجلان بَرٌّ تَقِيٌّ كريمٌ على اللهِ، وفاجرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ على الله، والناسُ بنو آدمَ وخلَقَ اللهُ آدمَ مِن الترابِ" فبمثل هذه الأحاديث الشريفة وغيرها، ينهى (ﷺ) عن التفاخر والسخرية من الآخَر وما إلى غير ذلك من خطابات العنصرية والكراهية.

آليات مكافحة العنصرية

تشمل مكافحة العنصرية محاورَ عدة، منها جودةُ التعليم، وتكثيفُ جهود القادة الدينيين والمثقفين بشكل عام؛ إذ إنَّ شرح الثوابت الدينية للعامة -بطريقة صحيحة-، وتعليمهم تعليمًا صحيحًا يمثل الأساس في التخلُّص مِنَ الأحكام المسبقة المبنية على معلومات خاطئة، وهنا يمثل شرح النصوص الدينية التي جاءت في سياق المساواة بين الناس أهمية كبرى، وهي مبادئ عامة توجد في كل الأديان السماوية.

ومن النقاط المهمة في مكافحة العنصرية بناء ودعم ثقافة التسامح، والاحترام بين الناس، وذلك من خلال دعم العلاقات الإنسانية بين أصحاب الثقافات المختلفة، من خلال بعض الأنشطة الاجتماعية، وورش العمل، بمشاركة المؤسسات الاجتماعية، والإعلامية، ومواقع التواصل الاجتماعي أيضًا.

كذلك لا ينبغي إغفال الدور القانوني والتشريعي في مكافحة العنصرية؛ إذ ينبغي سَنُّ قوانينَ تُسهم في مكافحة العنصرية وانتشارها، وتجرم خطابات الكراهية بشتى أشكالها المختلفة، سواءٌ في الإعلام أو على مواقع التواصل الاجتماعي، وتمنع الممارسات العنصرية في المدارس، ومواقع العمل.

 

[1]  من إحصائية بعنوان: Diskriminierung hat viele Gesichter  (صورة مختلفة للتمييز العنصري) منشورة على الرابط التالي:
https://de.statista.com/infografik/21934/anteil-der-personen-die-wegen-folgender-merkmale-diskriminiert-wurden/ تاريخ النشر (9/6/2020)

وحدة رصد اللغة الألمانية

طباعة