عبد المجيد عبد الباري.. من مغني "راب" إلى قيادي في صفوف داعش

  • | الأربعاء, 19 أبريل, 2023
عبد المجيد عبد الباري.. من مغني "راب" إلى قيادي في صفوف داعش

قد يكون من الخطأ الظنّ بوجود شريحة معينة من الناس تستهدفها التنظيمات المتطرفة بعمليات الاستقطاب والتجنيد، أو أنّ ثمّة سمات معينة أو معايير تتوفر لكل من ينتمي لتلك التنظيمات بما يمكن اعتباره هويةً لهم أو وسمًا مميّزًا لمعتنقي الفكر المتطرف، بل إن الشواهد الواقعية تكاد تجزم بأن بيئة الفكر المتطرّف تجمع شخصيات مختلفة ذات توجهات متباينة إلى حد التناقض في بعض الأحيان، وأنّ انعدام الهوية والاتجاه والرؤية هي السمة الغالبة على المجتمعات التي تسعى تلك التنظيمات لتأسيسها.
ولا عجب في ذلك؛ إذ يأتي في مقدمة المنضمين إلى تلك التنظيمات شباب يعاني الشتات وتزعزع الهوية والسخط على مجتمعه، وأغلبهم من فاقدي الانتماء أو في أحسن الأحوال متذبذبي الهوية والانتماء، فتجد الواحد منهم يأتي من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ويتحوّل تحوّلات جذرية كاشفة لهشاشة مبادئه وضعف عقيدته. ومن هؤلاء مطرب "الراب" البريطاني، عبد المجيد عبد الباري، الذي تحوّل إلى أحد أخطر عناصر تنظيم داعش في حياة متقلبة يحاول التقرير التالي تسليط الضوء عليها. وفي هذا السياق، طالبت النيابة العامة الإسبانية الحكم بالسجن لمدة تسع سنوات على مقاتل تنظيم داعش الإرهابي العائد من سوريا عبد المجيد عبد الباري، الذي كان يعد أهم "الإرهابيين" المطلوبين في أوروبا لسنوات، علمًا بأنه محبوس حبسًا انفراديًّا في إسبانيا منذ أن ألقت الشرطة القبض عليه في عام ٢٠٢٠.
يقبع عبد المجيد عبد الباري منذ إلقاء القبض عليه في زنزانة انفرادية انتظارًا لحكم المحكمة الوطنية العليا عليه. ومن ثمّ، فإن مغني "الراب" البريطاني -الذي يبلغ من العمر اثنين وثلاثين عامًا ودأب على نشر أغانيه بالاسم المستعار "L Jinny"- يواجه وضعًا قضائيًّا معقدًا؛ إذ طالبت النيابة العامة بالحكم عليه بالسجن تسع سنوات مع المراقبة لمدة عشر سنوات أخرى بعد الإفراج عنه بسبب تزعمه خليةً إرهابيةً أقدم على تكوينها بعد مغادرته سوريا.
وعقب مغادرته إلى بؤرة الصراع انضم عبد الباري للقتال في صفوف تنظيم داعش الإرهابي؛ حيث تخصص في أمور منها عمليات الاحتيال البنكية من خلال الإنترنت "لتمويل الأنشطة الإرهابية للتنظيم". وبدون تحديد موعد من جانب المحكمة للنطق بالحكم عليه، ما زال عبد الباري محبوسًا احتياطيًّا في أحد السجون الإسبانية منذ أن اعتقلته الشرطة في عام ٢٠٢٠ في مدينة ألميريّا الإسبانية. كان يومئذٍ أحد أشد الإرهابيين المطلوبين في أوروبا، وكان توقيفه هدفًا رئيسًا لأجهزة الأمن في أوروبا "بسبب أعماله الإجرامية التي ارتكبها في خلال فترة انتمائه لصفوف تنظيم داعش الإرهابي وأيضًا بسبب خطورته الشديدة"، وهو ما أكدته وزارة الداخلية الإسبانية.
واستنادًا إلى المحققين، فإن عبد الباري البريطاني -الذي جرّدته المملكة المتحدة من جنسيتها- قد ترك الغناء في عام ٢٠١٣ بسبب انضمامه إلى تنظيم داعش الإرهابي بصفة مقاتل أجنبي، لكنه غادر سوريا بعد ذلك بعامين بهدف العودة نهائيًّا إلى أوروبا. لكن خروجه من هناك لم يمرّ مرور الكرام؛ إذ كان أحد العناصر الذين شكّلت عودتهم من مناطق الصّراع في سوريا أحد أكبر مصادر القلق لدى شرطة مكافحة الإرهاب.
عكفت المحكمة الوطنية العليا بإسبانيا في السنوات الثلاث الماضية على إعادة تتبع خطواته وتحليل تحركاته؛ فقد كان طريقه غامضًا مليئًا بتساؤلات من قبيل: ماذا كان يفعل بعد أن خرج من سوريا وطوال السنوات التي قضاها بعيدًا عن أنظار أجهزة الأمن؟ ومن ساعده على دخول إسبانيا؟ وإلى أين كان متّجهًا عندما أمكن إلقاء القبض عليه؟
يعتقد المحققون أنهم قد خرجوا ببعض الأجوبة لتلك التساؤلات التي جاءت في اتجاه إدانة عبد الباري، ومن ثمّ أصدرت النيابة العامة الإسبانية مذكرة اتهام ضده نسبت إليه جريمة الانضمام إلى منظمة إرهابية، وهو ما قضت به المحكمة كذلك.
عبد المجيد عبد الباري إرهابي بالوراثة
إنّ بيان عملية ألتيبّا، التي أدت إلى اعتقال الخلية الإرهابية التي يتزعمها عبد المجيد عبد الباري في شهر أبريل من عام ٢٠٢٠، يعيد للأذهان سيرة الإرهابي الأب عبد المجيد عبد الباري، وهو أحد الإرهابيين البارزين بتنظيم القاعدة الإرهابي الذي جرى تسليمه إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام ٢٠٠٢ على خلفية اتهامه بالضلوع في الهجومين الإرهابيين على السفارة الأمريكية بكينيا وتنزانيا. وحسب إفادة المحققين، فإن عبد الباري الابن غادر المملكة المتحدة في عام ٢٠١٣ للانضمام إلى تنظيم داعش الإرهابي. وقد أفادت التحرّيات أن المتهم انتقل إلى سوريا بصحبة صديقه جنيد حسين وانضمّا بعد ذلك إلى التنظيم المسمى "جيش الفرقان".
وتنسب المحكمة لعبد الباري، المحتجز في سجن بويرتو الثالث في قادش، تهمة التطرف العنيف والانضمام لتنظيم إرهابي، فقد نشر في أغسطس من عام ٢٠١٤ على صفحته الشخصية بأحد مواقع التواصل الاجتماعي صورة له وهو ممسك برأس شخص في أحد ميادين مدينة الرّقّة السورية.
وطبقًا للشرطة الإسبانية، ثمة احتمالات لبقاء عبد الباري في سوريا حتى منتصف عام ٢٠١٥ عندما قتل صديقه جنيد حسين في هجوم بطائرة أمريكية من دون طيار. وتشير التحقيقات إلى أن عبد الباري قرر مغادرة سوريا بعد مقتل صديقه، وأنه مر بتركيا أولًا ثم الجزائر بعد ذلك حتى وصل إلى أوروبا في ربيع عام ٢٠٢٠. ورغم وصول عبد الباري إلى إسبانيا إبّان إغلاق حدودها بسبب وباء كورونا، فقد استطاع التعامل مع الأمر وتسلّل إليها عبر ألميريّا في قارب، ثم استأجر شقة سياحية هناك. وبعد ذلك بستة أيام تسنى اعتقاله إلى جانب شريكيه في الخلية - وهما الجزائريان عبد الرزاق صدّيقي وكسيلة شلوة.
عبد الباري وفخّ عمليات الاحتيالات المصرفية
لم يكن توقيف عبد الباري محض صدفة، إذ كان المحققون متأهبين في تلك الفترة عقب التواصل مع المركز الوطني للاستخبارات الذي أصدر تحذيرات من أن الإرهابي كان ينوي العودة لأوروبا، وأنه كان يفكّر في السواحل الإسبانية لتكون بوابة العبور لأوروبا. وبالفعل، لم تخطئ تنبؤات الاستخبارات في ذلك. وهديًا بما كشفت عنه جريدة الباييس الإسبانية، فإن الخلية الإرهابية استخدمت تطبيقات على الهاتف المحمول لطلب توصيل الطعام إلى المنازل، وإثر تعقب مصدره توصّل رجال الشرطة إلى شقة تحمل الرقم ٢٠ في شارع قادش في العاصمة الألميرية، وفيها ألقوا القبض على أفراد الخلية الإرهابية الثلاثة.
وبمداهمة الشقة التي كانت الخلية الإرهابية تقيم بها عثرت الشرطة على أربعة هواتف محمولة وحاسوب محمول وعدة بطاقات بنكية وأشياء أخرى، فتولّت فحصها. وطبقًا للنيابة، فإن البيانات المجموعة أكدت تشكيل المتهمين الثلاثة تنظيمًا إجراميًّا يستهدف تنفيذ عمليات احتيال مصرفية من خلال النظام المعروف باسم carding للحصول على بيانات مالية خاصة ببطاقات الائتمان وبطاقات الخصم المباشر للاستيلاء على جزء من الأموال الموجودة بها – وهو ما يسمح لهم بتمويل أنشطتهم الإرهابية.
دور عبد الباري في تمويل التنظيم من خلال العملات الرقمية
أوضحت النيابة العامة في لائحة الاتهام أن عبد الباري كان مكلفًا بالتواصل من خلال صفحات الويب المظلم (dark web) مع مقدمي البيانات المالية المسروقة من قبل، وأنه تولى دفع المقابل لهم بالعملات الرقمية. وفي هذا السياق يشير تقرير للشرطة الإسبانية إلى أن عبد الباري تمكن من جمع مبلغ ٤٩.٨١٢ يورو في صورة عملات رقمية. كما تخصص شريكه "صدّيقي" في الحصول على البيانات البنكية لضحاياهم، فضلاً عن إدارته محفظة العملات الرقمية للخلية. وطبقًا للتحريات، فإن شريكهم الثالث "كسيلة شلوة" كان يؤدي دوره بفضل اتصالاته وحيله، فتولى نقل الأموال الناتجة من عمليات الاحتيال ليتولى عبد الباري وصدّيقي تحويلها إلى عملات يمكن استخدامها مثل: الدولار والين واليورو والليرة.
وقد طالبت النيابة بتوقيع عقوبة السجن سبع سنوات على "شلوة" بتهمة الانضمام لتنظيم إرهابي وبالحكم بالسجن ثمان سنوات على "صدّيقي" الذي عثروا له على جواز سفر مزور؛ وهو ما يعني اتهامه أيضًا بجريمة تزوير مستند رسمي.
لم يقف عبد الباري صامتًا أمام الاتهامات الموجهة إليه، بل بادر بالدفع ببراءته من محبسه، فتحدث مع بعض الموظفين مؤكدًا أنه ليس "متطرفًا" وأنه لا "يبرر أي نوع من أنواع الاعتداءات التي تقترفها التنظيمات الإرهابية". وطبقًا لروايته فإن سبب دخوله إسبانيا عام ٢٠٢٠ اقتصر على البحث عن عمل في الصوب الزراعية أو لجمع الفاكهة في المزارع".
عبد الباري إرهابي أم واعظ؟!
لم يقدم عبد الباري نفسه باسمه هذا، ولم يقر بأنه عنصر في تنظيم داعش عند توقيفه في أبريل من عام ٢٠٢٠ في ألميريّا، بل قال في بادئ الأمر إنه يدعى "أحمد الأولابي". وقد وجد المحققون على أحد الهواتف المحمولة التي كانت بحوزته وثيقة "إجازة" تفيد بالسماح للمدعو أحمد الأولابي بتدريس كتاب "المقدمة الآجُرّومية"، وهو كتاب في علم النحو يرجع للقرن الثالث عشر الميلادي. من جانبها أكدت النيابة العامة أن الإجازة المذكورة تصدر على الإنترنت وليست ذات طابع ديني متطرف، وأنها قد تكون مفيدة في دعم من يبحث عن وظيفة إمام أو واعظ ديني.

عبد الباري نموذج للشباب فاقدي الهوية
قد لا يكون عبد الباري الأول ولا الأخير الذي يقع فريسة لاستقطاب التنظيمات المتطرفة وتحويل وجهته وتغيير قناعاته؛ إذ إنّ قطاعًا غير صغير من الشباب معرّضٌ لأن يكون نموذجًا آخر لعبد الباري. أما الحلّ فيكمن في تعزيز الشعور بالانتماء وترسيخ الإيمان بالهوية المميزة للفرد عن غيره من الأفراد وبالهوية المميزة للمجتمع عن غيره من المجتمعات. وعليه نوصي بضرورة رفع درجة الوعي لدى الشباب بهويتهم، ومنحهم فرصة لاكتشاف أنفسهم والدفاع عن هويتهم وأفكارهم ومرجعيتهم، حتى تتوفر لهم الحماية الكفيلة بمنع تسلل الفكر المتطرّف إلى عقولهم، فهذا من شأنه اتباع تصرفات تضر ولا تنفع، فنموذج عبد الباري الذي ترك الغناء والترفيه واتجه إلى العنف والتقتيل والتكفير دونما تفكير في عاقبة أفعاله وأفكاره ليس بحالة وحيدة، بل هو نموذج تحوّل إلى أداة يستخدمها تنظيم داعش لتنفيذ مخططاته الإجرامية.
من هنا وجب تنبيه شباب الأمة والعالم أجمع إلى ضرورة تعزيز الهوية والانتماء، وإجراء الأفكار والسلوكيات على ضابط الشرع والعرف قبل الانخراط في أعمال قد تكون وبالًا على الفرد والمجتمع على حد سواء.
المصادر:
جريدة الباييس الإسبانية، مقال بعنوان: "عبد الباري مطرب الراب البريطاني الغامض المتهم بالإرهاب"، منشور بتاريخ ٣٠ من يناير ٢٠٢٣، تاريخ أحدث اطلاع: ٣ من أبريل ٢٠٢٣.

وحدة البحوث والدراسات

طباعة