نظرة على التطورات الإستراتيجية لحركة طالبان الباكستانية

  • | الأربعاء, 24 مايو, 2023
نظرة على التطورات الإستراتيجية لحركة طالبان الباكستانية

منذ أن ألغت "طالبان باكستان" اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه مع الحكومة الباكستانية في يونيو ٢٠٢٢م، ولا سيَّما بعد الاضطرابات التي لحقت بعملية دمج المناطق القبلية في إقليم "خيبر بختون خوا"، وبعد فشل المفاوضات التي أدت إلى عودة المسلحين إلى معاقلهم وإعادة تنشيط الخلايا النائمة، أمرت الحركة عناصرها باستهداف قوات الأمن حيثما سنحت لهم الفرصة في جميع أنحاء البلاد. وجاء أمر استهداف قوات الأمن صراحة في بيانها الذي أصدرته عقب إيقاف الهدنة، والذي تضمن الآتي: "بينما تتصاعد العمليات العسكرية ضد المجاهدين في مختلف المناطق بأنحاء البلاد، يتوجب عليكم شن الهجمات واستهداف قوات الأمن أينما كان ذلك ممكنًا"، وذكر البيان أن الحركة وعناصرها ستشن عمليات داخل المدن الباكستانية الكبرى بما فيها "لاهور" و"إسلام آباد". ومنذ ذلك الحين وطالبان باكستان تنتهج إستراتيجيات جديدة في تنفيذ هجماتها، سواء من حيث كيفية تنفيذ العمليات الإرهابية أو من حيث توسيع نطاق الأنشطة العملياتية، وأخيرًا من حيث توطيد علاقتها بالتنظيمات الإرهابية الأخرى.

تطور أيديولوجية العمليات الإرهابية

تنوعت العمليات الإرهابية التي نفذتها حركة طالبان باكستان ما بين هجمات وتفجيرات وعمليات انتحارية، ولوحظ في الآونة الأخيرة تبني الهجمات التي تبتعد قدر الإمكان عن عنصر المواجهة مع قوات الأمن، على الرغم من كثرة عددها؛ وذلك للحفاظ على الموارد المادية للتنظيم سواء البشرية أو المالية، فقد أصبح توفير التمويل المالي في الفترة الأخيرة صعب المنال، نظرًا للعمليات الاستخباراتية التي تقوم بها قوات مكافحة الإرهاب في أنحاء البلاد؛ ولذا ارتفع عدد التفجيرات التي لا تكلف التنظيم خسارة في الأرواح. وجاءت حرب العصابات التي تهدف إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المقدمة، ثم عمليات القنص والاستهداف لضباط المخابرات وقوات الأمن، والهجوم على الكمائن، وزرع المتفجرات. ووفقًا للمعهد الباكستاني لدراسات الصراع والأمن، ومقره "إسلام آباد"، نفَّذ المسلحون نحو (٥٨) هجومًا خلال شهر فبراير 2023م فقط، بزيادة قدرها 32% مقارنة بشهر يناير لنفس العام.

توسيع نطاق الأنشطة العملياتية

بعد أن كان تركيز طالبان باكستان منصب على المناطق القبلية والنائية الحدودية، ولا سيَّما المناطق المتاخمة لأفغانستان، حيث استفادوا بشكل كبير من الملاذات التي توفرت لهم في أفغانستان بعد عام ٢٠٢١م، أصبحت الحركة تتغلغل إلى عمق باكستان، فتم استهداف المدن الكبرى، وبالأخص "كراتشي" و"بيشاور" و"لاهور" و"إسلام آباد"؛ والسبب في ذلك هو الرغبة في زيادة حدة الاضطرابات، وإثبات حضور الحركة على أرض الواقع وقوتها على تنفيذ الهجمات في جميع أنحاء البلاد، وبث الثقة في نفوس أعضائها، واستمالة المزيد من الشباب.

وخير دليل على ذلك توسيع الأنشطة العملياتية خارج إقليم "خيبر بختون خوا" (شمال غربي البلاد)، وحضرته مدينة "بيشاور" التي كانت مسرحًا للهجوم على مسجد بالقرب من مقر الشرطة، والذي أسفر عن أكثر من (١٠٠) شهيد، وإصابة ما لا يقل عن (١٧٠) آخرين، أغلبهم من قوات الأمن. أيضًا التفجير الانتحاري الذي استهدف دورية للشرطة بالعاصمة "إسلام آباد"، والذي أسفر عن استشهاد شرطي وإصابة (٥) آخرين، وجاء انتقامًا لمقتل أحد قادتها البارزين.

كما حاولت الحركة الترويج لقدرة عناصرها على توجيه الضربات خارج نطاق نفوذها وصولًا إلى "إسلام آباد"، فنشرت عبر منصاتها الإعلامية فيديو يظهر فيه أحد عناصرها من تلال "مارجالا" على بعد بضعة كيلو مترات من العاصمة "إسلام آباد" وهو يسلط الضوء على البرلمان الباكستاني وفي يده ورقة مكتوب عليها (نحن قادمون)، وهو ما يشير إلى أن نشاطها يتجه بقوة نحو العاصمة، بعد أن كانت بعيدة عن الهجمات.

كذلك الهجوم الإرهابي الذي وقع في مدينة "لاهور" الباكستانية، والذي خلَّف (٣) شهداء، بينهم طفل و(٢٢) مصابًا، ويتبين من ذلك أن قوات الشرطة تحملت العبء الأكبر من الخسائر جراء الهجمات الدامية التي نفذتها الحركة، ويرجع ذلك إلى تعاونها مع قوات المخابرات في ملف مكافحة الإرهاب الذي من خلاله تم تصفية العديد من قادة طالبان البارزين، الأمر الذي أكد على الحاجة الماسة إلى مراجعة شاملة لإستراتيجيات مكافحة الإرهاب في البلاد والتحديات الأمنية المتزايدة، حيث تحاول طالبان باكستان جاهدة توسيع نشاطها العملياتي وفرض أيديولوجيتها الفكرية والسيطرة على الأجزاء الحدودية مع أفغانستان، والتي تخضع للإدارة الفيدرالية، مُستغلة انشغال الحكومة في مجابهة التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية، لا سيَّما في ظل الوضع الراهن حيث التهديدات الأمنية المتصاعدة التي من شأنها تقويض قدرة الحكومة على إرساء معادلة أمنية مستقرة.

توطيد علاقتها بالتنظيمات الأخرى لدعم الإستراتيجية المشتركة

وعن النشاط المتزايد لحركة طالبان باكستان، فإن الحركة تحاول جاهدة زيادة قوتها العسكرية وتعزيز الدعم البشري بشكل كبير. وفي سبيل ذلك طورت علاقاتها بالتنظيمات الانفصالية البلوتشية، والتنظيمات المتشددة التي على خلاف مع الحكومة، والفصائل التي كانت قد انفصلت عام ٢٠١٤م، مما ينذر بإمكانية تنفيذ هجمات إرهابية مشتركة في الفترة المقبلة، والتي تمثل الخطر الأكبر على الأمن القومي لباكستان، ومن بين هذه التنظيمات المسلحة التي انضمت إلى حركة طالبان باكستان، ثلاث مجموعات باكستانية مسلحة تابعة لتنظيم القاعدة، وهم: مجموعة "محمد عمرنا" قائد منطقة "تحصيل دومايل" التابعة لمدينة "بانو" بإقليم "خيبر بختون خوا" الذي أعلن انتماءه إلى التنظيم في 16 مارس 2023، ومجموعة "حاجي أفتاب دوار" من شمال “وزيرستان” الذي أعلن الانضمام إلى الحركة في 21 مارس، وبالمثل مجموعة مولانا "قطب الدين" من مدينة “بانو” في 23 مارس. والأمر الأشد خطورة أن جميعهم بايعوا قائد حركة طالبان باكستان المفتي "نور والي محسود" على السمع والطاعة، وتعهدوا له بالولاء، مما عزز قوة التنظيم العسكرية بشكل كبير. وبناءً على هذا، تقوم حركة طالبان باكستان بتوسيع نطاقها للحصول على المزيد من القوى الداعمة، والعمليات المتزايدة التي تقوم بها الحركة هي علامة على أن التنظيم المتشدد قد أعاد تنظيم هيكلته من جديد، ما ينذر بمزيد من العمليات الإرهابية في الأيام القادمة.

وفي ضوء ما سبق من تصور لتطور إستراتيجية حركة طالبان باكستان، أصبح من المنطقي تزايد عمليات الحركة وتصاعد وتيرة الإرهاب والاضطرابات الطائفية، حيث أعلنت طالبان باكستان مسؤوليتها عن معظم العمليات في مقاطعتي "ديرا إسماعيل خان" و"وزيرستان الجنوبية" الواقعتين عند تقاطع "البنجاب" و"بلوشستان"، علاوة على "كراتشي" و"كويتا" في إقليم "خيبر باختون خوا". ووفقًا لمؤشر الإرهاب العالمي السنوي (GTI) الصادر عن المعهد الأسترالي للاقتصاد والسلام (IEP)، احتلت باكستان المرتبة الثانية في العالم من حيث عدد الوفيات الناجمة عن الإرهاب خلال عام 2022م، حيث ارتفع العدد بشكل كبير بزيادة قدرها 120٪ عن العام الماضي، كما أن 55٪ من ضحايا الإرهاب هم من قوات الأمن، وكان جيش تحرير بلوشستان وحركة طالبان الباكستانية مسؤولين عن معظم الوفيات المرتبطة بالإرهاب في باكستان، وتهدف طالبان باكستان في الغالب من وراء تنفيذ هجمات إرهابية ضد قوات الأمن الباكستانية إلى إقامة دولة إسلامية على غرار ما أسسته طالبان أفغانستان.

ورغم أن العمليات الأمنية من جانب الحكومة الباكستانية للتصدي لانتشار العمليات الإرهابية قد تكللت في ظاهرها ببعض النجاحات التكتيكية التي تمثلت في استهداف العديد من القادة المؤثرين في حركة طالبان باكستان ومنهم القائد البارز "خالد خراساني" وغيره، فإن هذه الإستراتيجية تحتاج لمزيد من التطوير والدعم للقضاء على الإرهاب، فلا تزال طالبان باكستان تحكم سيطرتها على بعض المناطق والأجزاء الحدودية مع أفغانستان، ولا تزال تتمسك بهدفها المعلن المتمثل في فرض تطبيقها المتشدد للشريعة الإسلامية حسب تفسيراتها الخاطئة في جميع أنحاء البلاد. ومن المحتمل أن يزداد الأمر سوءًا في ظل الاضطرابات السياسية الحزبية التي تشهدها البلاد، حيث ستحاول طالبان باكستان اغتنام تلك الفرصة جيدًا في ابتزاز للمواطنين، وجمع التبرعات لتوفير التمويل، والخطر الأكبر وهو اجتذاب الشباب، وتجنيد المزيد، وانضمامهم إلى صفوفها. ومن المؤسف أنه في ظل غياب الاستقرار، وتزايد توغل التنظيمات الإرهابية واندماجها، فهناك احتمال أن تتضافر تلك الأسباب جميعها في زيادة الاضطرابات التي ستزكي بدورها نيران العنف والإرهاب، تلك المصطلحات التي أصبحت الأكثر انتشارًا في العالم، والتي تؤكد أن الحلول الأمنية وسبل المواجهة العسكرية وحدها لا تكفي للقضاء عليها، وإنما لابد من أن تتضافر القوى جميعها سياسية واجتماعية وفكرية؛ لتتم مواجهة ذلك التطرف والإرهاب القائم على الفهم الخاطئ وإلباس الحقائق أثوابًا مغايرة تعمد إلى تزييف الواقع.

فلم تدعُ الأديان قط إلى القتل والعنف والعصبية، وإنما إلى التسامح والرحمة واحترام حقوق الآخر، وهذا هو المنهج الذي دعا إليه الإسلام، والذي كان له بالغ الأثر في نفوس الناس فدخلوا في دين الله أفواجًا، لما لمسوه فيه من رحمة ولين وعفو وسلام حتى مع الآخر المخالف له في الرأي والعقيدة، وهو المبدأ الذي تنادي به المؤسسات الدينية كالأزهر الشريف، امتثالًا لقوله تعالى "وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ". [الانفال:61]، وقوله تعالى "فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ ۚ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" [الزخرف، 89].

طباعة