التنشئة الفكرية ركيزة أساسية في مواجهة التطرف

  • | الخميس, 1 يونيو, 2023
التنشئة الفكرية ركيزة أساسية في مواجهة التطرف

     اكتنف ظاهرة التطرف كثيرٌ من التغيرات العالمية والتحولات الكبرى والتطورات السريعة التي أثرت بدورها في حياة الشعوب والمجتمعات، بما أعقبها من موجات للعنف والإرهاب بلغت ذروة التمدُّد والوحشية في بعض البلدان. وقد أضحت الأيديولوجيات المتطرفة تسعى إلى قولبة الأفراد وتنميطهم وَفق ما تمليه أجندات أصحاب هذه الأيديولوجيات، ويتجلى سعيها الدؤوب إزاء إجهاض وعي الأفراد، وتعمد خلق مجتمع هش يسهل العبث به والتحكُّم في عقله.

ولا شك أن ما أفرزته الأيديولوجيات الفكرية المتطرفة ما هو إلا هشاشة فكرية كانت من مظاهرها الخطيرة، الانشغالُ بسفاسف الأمور عن الجادة منها، والركون إلى الانحرافات الفكرية. وبرغم ذلك، أضحت بعض العقول الشابة ترتوي من أفكار التنظيمات ذات الأيديولوجيا المعتلة وتنزوي إلى الأباطيل من معتقداتها، فنراها تصم الآذان عن الاستماع إلى صوت الحق، وإن بدا جليًّا أمام ناظريها. وعليه، تصبح فريسة مستساغة لأصحاب الفكر الهدام، وتتربى بين أحضانهم وتنهل من معينهم العطب، بما يعزز رؤيتهم الأحادية للأمور وحصرهم لها في اتجاه واحد، وتصبح المفاهيم والتصورات لدى أصحاب تلك العقول مغلوطة؛ لافتقاد أصحابها إلى مهارة التفكير النقدي التي تُعين من يمتلكها على التمييز بين الخطأ والصواب، فضلًا عن عدم اعترافهم بمجانبتهم الصواب، بل وتصل الفاجعة إلى حد تباهيهم وتفاخرهم بتلك الأفكار السقيمة والممارسات العنيفة التي لا تتقبلها الفطرة السوية.

وتعيش المجتمعات في إطار مكافحتها للعنف والتطرف تحدياتٍ معاصرة، تستهدف إقصاء الفكر المنحرف عن طريق تفنيده، وإقامة الحجج على بطلانه، وإحلال قيم بديلة تقوم على نبذ العنف والتطرف. ومِن ثَمَّ، تنعقد الآمال على تربية العقول وتثقيفها وتنمية قدراتها وتزكية وعيها، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال تنشئة فكرية قويمة تقوم على أسس صحيحة وواعية بهدف تزويد الأفراد بحصانةٍ ثقافية تقيهم الانشقاق عن عُرى المجتمع، تلك الحصانة التي تشكل الوعي الفكري لدى الأفراد، وتوجه أفكارهم وسلوكياتهم، وتحيطهم علمًا وإدراكًا ووعيًا بمخاطر التطرف وما له من آثار سلبية، وتمكنهم من مواجهة الأفكار المنحرفة بالعلم الصحيح والحجة الدامغة. وتأسيسًا على ما سبق، يفتح هذا المقال آفاقًا بحثية يمكن أن ترفد موضوعه بمزيدٍ من عمل الاستقصاءات والتحري، حيث يتمركز حول مناقشة أبعاد ومقومات التنشئة الفكرية في مواجهة التطرف، وهو ما سنحاول تجليته على النحو التالي:

دَور التنشئة الفكرية وأهميتها

إن تمكينَ الفرد من حيازة وعي نقدي يجعله قادرًا على فَهم واستيعاب واقعه، مِن خلال أُطُرٍ من التحصينات الفكرية، هو أحد أهم عوامل التنشئة الفكرية القويمة. ومما لا شك فيه أن مسألة التحصين الفكري للأفراد تتطلب خُططًا وجهودًا من المجتمع، من أهمها بَلْوَرة حياة ثقافية تتجاوز تحديات الواقع، وتلبي احتياجاته، وتسعى نحو تأمينه من الوقوع في المحاذير، وتُجَنِّبُ الأفرادَ الانزلاقَ في الأيديولوجيا الهدامة.

والتحصين الفكري لا يقتضي تحديد قائمة ممنوعات بعينها، بل ينبغي أن يشمل أساليب وقائية، وإجراءات في مواجهة شتى المخاطر التي تحدق بالأفراد، على أن تتسم تلك الأساليب بالتجدد والحيوية في مواكبة التغيرات التي تحيط بالمجتمع، فالمجتمع الذي يغطيه الركود هو الأقرب والأسهل في الاختراق والعبث بأفراده، وعليه فإن صبغ التحصين الفكري بالحيوية والتجديد وَفق معطيات العصر هو الرهان الأكبر لمجابهة المخاطر والتهديدات، وهنا يأتي دور العقل الإنساني الذي هو أجل نعمةٍ أنعم الله بها على الإنسان وميزه بها عن غيره من المخلوقات، ومِن ثَم صار العقل جوهر الإنسان، وكلما أعمل الإنسان عقلَه ازدادت إنسانيتُه، وازداد وعيُه، ولهذا، قال "الإمام الغزالي" عن العقل: "أنموذج مِن نور الله" وقال عنه "الجاحظ": "وكيل الله عند الإنسان".

ولا ريبَ أن ذلك تتأصل دعائمه في الفكر الإسلامي، حيث يحث الإسلام على تنشئة فكرية قوامها الفِكر المستنير، ومناطها الوعي النقدي، والمستندان إلى آليات التدبر والتفكر وإعمال العقل، معولًا على كون الإنسان محور الكون ومرتكزه، مما يبرهن على قدرة الخطاب الديني على احتواء جميع أساسيات تلك التنشئة المعاصرة التي هي القوة الضابطة والمقومة لسلوك الأفراد والأداة الحصينة الفكرية لهم والضامنة للحفاظ على المقومات الثقافية للمجتمعات، وضمان عدم الخروج على المعايير والضوابط الرائجة فيها.

دَور المؤسسات التربوية والتعليمية في التنشئة الفكرية

إن تنشئة الفرد على الفكر الصحيح من الأمور المهمة في حياة الفرد؛ لأنها الدعامة الأولى التي ترتكز عليها مقومات شخصيته، ويكون ذلك بمثابة سياج أمني يحصنه من أي فكر هدام، ويجعله أكثر قدرة على الحفاظ على نفسه ووطنه وثقافته وقيمه ومُثُله، ويعزِّز انتماءَه إليهم، ويجعله أكثر وعيًا بأخطار الفكر الضال.

والتنشئة الفكرية تتم عبر عدة مؤسسات داخل المجتمع مثل: الأسرة، والمؤسسات التربوية والتعليمية، والمساجد، والكنائس، ووسائل الإعلام والدراما..، إلا إنَّ المؤسسات التربوية والتعليمية تأتي في طليعة هذه المؤسسات، حيث تتم فيها هذه التنشئة بشكل علمي ومدروس وَفق أُطُر تم التخطيط لها، كما أن القائمين عليها يتم إعدادهم للقيام بالدور المنوط بهم، فهُم حراس العقول وحماة الأذهان، ويُعهَد إليهم تنشئةُ أجيال واعية محصنة في مواجهة المخاطر التي تحدق بهم من شتى الجوانب. ومِن ثَم ينبغي تنسيقُ الجهود بين المؤسسات التربوية والقنوات الإعلامية من أجل صياغة برامج وأعمال فنية للأطفال تنمي بداخلهم القيم الدينية والأخلاقية واحترام الإنسان باعتباره أفضلَ مخلوقات الله أيًّا كان لونه أو جنسه أو معتقده.. بالإضافة إلى تدريبهم على مهارة التفكير النقدي وإعمال العقل فيما يصل إليهم من معلومات.

صفوة القول، أن التنشئة الفكرية القويمة، تنعكس تلقائيًّا على منظومـة حمايةِ وتحصينِ المجتمع بكل جوانبها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والصحية والسلوكية، فهي صمام أمان ذلك المجتمع من الانحرافات الفكرية، والتـي مـن شأنها تقويض دعائم البناء الفكري القويم، وإحلال أفكار ومفاهيم مغلوطة ذات مرجعيات هدامة لا تنتج إلا أفرادًا يشكلون معاول هدم وتخريب لمجتمعاتهم. وتبرز أهميتها كذلك كونها الأسـاس المتـين والمرجعية الرشيدة التي يُبنَى عليها قوام الأمن الفكري الذي يشكل الحصانة الفكرية اللازمة ضدَّ أي تيارات فكرية منحرفة.

وبناءً عليه، ينبغي دعوة الأنظمة التربوية إلى تطوير نفسها وتحديد مسئولياتها تجاه مناهضة العنف والتطرف، ومواكبة التطورات والتغيرات العالمية التي تطرأ على المجتمع. كما ينبغي الاهتمام بالمبادئ التي تؤسس لتنشئةٍ فكرية قويمة، والنظر في الأسس التي تنهض عليها، وتأسيس مراجعات نظرية تمكِّن مِن تكوين رؤية تؤصل لممارسات تطبيقية تؤتي ثمارها وتَفِي بما هو مطلوب في هذا الصدد.

كما ينبغي السعي إلى بلورة مشروع فكري وطني يحتضن كل فئات المجتمع، ويوظف جميع الإمكانات المتاحة فيما يعمل على النهوض بالمشروع وتحقيق الأهداف المرجوَّة منه، وينفتح على كل التطورات الثقافية، ويتفاعل مع كل القوى والوسائط الثقافية الموجودة، ويتواصل مع منابع الثقافة والمعرفة بتنوعاتها ومختلف مستوياتها ومجالاتها.

وقد أحسنت مؤسسة الرئاسة صنعًا بمنتديات الشباب التي تعتبر وجبة توعوية مهمة تسعى إلى حماية الشباب من الأفكار الهدامة. كما تضطلع مؤسسة الأزهر الشريف من خلال تعاونها مع وزارة التربية والتعليم، ووزارة الشباب والرياضة، ووزارة التعليم العالي بدور مهم للغاية في التنشئة الفكرية للشباب، وتنمية مهارة التفكير النقدي لديهم.

وحدة رصد اللغة التركية

طباعة