المادية التي قتلتنا

  • | الأربعاء, 7 يونيو, 2023
المادية التي قتلتنا

     قبل أيام تداولت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، خبرًا يثير الحزن والكآبة لحال مجتمعاتنا؛ حيث نشرت صفحة سكاي نيوز عربية تحت عنوان (وفاة طفل لبناني توقف قلبه خوفًا.. والسبب فيديو "تيك توك") قصة وفاة الطفل اللبناني "محمد اسطنبولي" الذي لم يتجاوز السابعة، إثر أزمة قلبية نتيجة مشاهدة فيديو على تطبيق (تيك توك) يصور مجموعة من الشبان يركضون، بينما يرتدون ملابس مخيفة ويحملون سيوفًا في أيديهم، بمدينة (صور) اللبنانية في منطقة على مقربة من محل إقامة الطفل. والسؤال: ما الذي ساهم في تردي مجتمعاتنا إلى مثل هذا المستوى من التافهة والرعونة، التي كانت سببًا في مقتل طفل لا لشيء إلا للحصول على مبلغ من النقود؟!

الحقيقة أن مواقع التواصل الاجتماعي تزخر بكم هائل من المحتويات التافهة، والتي لا تناسب الأطفال. ويمكن القول إن السبب إنما يكمن في طغيان المادة دون الأخذ في الاعتبار لمشاعر الآخرين؛ حيث أصبح المعيار الرئيس للكثير من توجهاتنا الحالية هو العوائد المادية والمكاسب الشخصية. لذلك لم يكن من المستغرب أن يقدم المعلم الدرس دون أن يربى (على فرض أنه التزم بما يجب عليه في الدرس). وبلغ الأمر ببعض من يعرفون بالحقوقيين حد تحريض الزوجات (كلما واتتهم الفرصة) ضد زوجها وأسرتها. ففي وقت سابق، نشرت إحداهن ردًا على من أنكر جهود الزوجة في بيتها، تضمن مطالبة الزوجة بعائد مالي قدرته بنحو (17000) جنيه مقابل التفرغ لتربية الأبناء والقيام بأعباء المنزل من نظافة وطهي وتعليم الأولاد. وعلى فرض صحة هذا التصور عند بعض العائلات، فإنه لا يصح في أخرى لا سيما مع الواقع الاقتصادي الحالي الذي يجعل رب الأسرة بالكاد يوفر احتياجات بيته، فضلًا عن أن يتجه للادخار.

وعلى كل فإن هذا الدعوات سبيل للخراب حتى لو تزينت في شكل ردٍ على من أنكر جهد المرأة في بيتها، فكم خربت بيوتًا. والسؤال: لماذا لم نكن نسمع مثل هذا الحديث عن جدتنا فضلًا عن أمهاتنا؟ ولو أن الزمان قد تغير بفساد مَن فيه، وأن الزوجة تحتاج إلى ضمان فهل تكون معالجة المشكلة بهذه الطريقة التحريضية؟! أين المبدأ الذي أقام الله الزوجية عليه، أين التعامل بالفضل المذكور في قوله تعالى: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}[البقرة:237]؟ وهل لو ترك الزوج زوجته بعد هذه المدة، فهل الأولاد يتركون من تركت العمل، والثروة لأجلهم؟! ثم إن معالجة مثل تلك المشكلات تكون خلال التوعية بعدم الظلم، وسنِّ القوانين المنصفة الرادعة، وتنفيذها بكل حسم لكل من يفكر في هضم حق زوجته التي أفنت عمرها في خدمة بيتها،

وأين الجزاء الأخروي لكل من الظالم والمظلوم، بل وقبل حدوث المشكلات ما هو جزاء المرأة التي تقوم على بيتها بالصفة التي ذكرتها تلكم الحقوقية؟ ولماذا تتناسى، أو تنسى هذه الحقوقية هذا الأمر العظيم الذي يحركنا، ويحكمنا كمسلمين مؤمنين باليوم الآخر ؟!

وهذا المثال ليس سوى نقطة في بحر؛ إذ الأمثلة على المادية التي تغلغلت في مجتمعاتنا كثيرة لا حصر لها، وربما يتساءل أحدهم: ما علاقة تحريض المرأة بموضوع المقال؟ الرابط والعلاقة هي المادية التي تمكنت من أصل وأساس المجتمع الأسرة، التي لو صلحت وقام كل من الوالدين فيها  بما عليهما، لما رأيت شبابًا بهذه التفاهة الساذجة، بل التفاهة التي قتلت طفلًا بريئًا من أجل مصلحة مادية ضئيلة.  

ومع الأسف فإن هذا التوجه جاءنا من الغرب الذي يؤمن بالمادية دون ما سواها، وهذه الطريقة وإن نجحت في جعل الغربي متقدمًا تكنولوجيًّا، إلا إنه من الناحية الإنسانية ليس هو النموذج المثالي، وهذا ليس من كلامنا، بل من كلام المنصفين فيهم الذين يبحثون عن حضارة حقيقة تقترب من المثالية، وعلى سبيل المثال صاحب رواية الخامسة والعشرين "كونستانتان جيورجيو" الذي قال: «إن هذا الانبهار الآلي سيعقبه اعتراف بالمواهب الإنسانية؛ وسيشرق هذا النور العظيم من الشرق ولا شك؛ من آسيا... سيكتسح رجل الشرق المجتمع الآلي.. إنه لن يضيء بنور النيون خطوط الفكر والقلب. إن رجل الشرق سيجعل من نفسه سيدًا للآلات والمجتمع الآلي».

ويوضح الخطورة بشكل أوضح في التمسك بالمادية بقوله: «إننا لن نستطيع أن نتحوَّل إلى الآلات، غير أنَّ الاصطدام بين الحقيقتين: الحقيقة الآليَّة والحقيقة البشريَّة سيولّد الكارثة.. إذ لن يكون حينئذٍ للمرءٍ حق في الحياة؛ بل سيُعامل وكأنه مكبس، أو قطعة آلة، حتى إذا شاء أن يعيش عيشة إنسانيَّة تعرَّض لسخريَّة العالم بمجموعه».

والعلاج من وجهة نظرنا هو مراجعة الجانب الروحي بالتركيز على أن الحياة لن تستقيم إلا بالإيمان والعمل الصالح، فالإنسان إن تخلَّى عن هذا نزل من رتبة الإنسانية إلى الحيوانية، فالإنسان الحضاري هو إنسانُ الإيمان والأخلاق، والمبادِئ، والاستقامةِ، والمسؤوليةِ. والعقلُ الإنسانيُّ وحدَه لا يمكن ولا يستطيع أن يستقل بالقرار الصائب –كما يتوهم مَن نزعوا الدين من حياتهم- قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]؛ لأن الإنسان ذو نزَعَاتٍ نفعيَّةٍ ضيِّقةٍ؛ بل إنه بعقلِه وهواه يُحاول قدر الإمكان أن يغتصِبَ ما يقدر على اغتِصابه. فتنصيب الإنسان صانِعًا للقيم دون الدين، جعله –مع الأسف- لا يؤمن بوجود حقائِق ثابتة للعدل والحرية، ولا معايِير واضحة ومستقرة للأخلاق والمصالح، ولكنها النسبية المدمرة، فلا عداوة ولا صداقة إلا من خلال المصلحة وحكم الأقوى.

وحدة اللغة العربية

 

 

 

طباعة