التطرف: نظرة حسيرة.. وعجز بصيرة

  • | الأحد, 11 يونيو, 2023
التطرف: نظرة حسيرة.. وعجز بصيرة

 

     من خصائص لغتنا العربية الجميلة أن الجذر اللغوي فيها مادة مرنة تلين في عقل اللسانيّ ذي القريحة المتقدة، فتعينه على اشتقاق الألفاظ والمعاني. وبالمثال يتضح المقال: فمادة "فــ – س – ق" تعني الخروج، ومن ذلك قول أحدهم "فسقت الرطبة"، أي أنها نضجت حتى عن انفصلت عن القشرة وفسقت منها؛ فإذا غيّرْت مواضع أحرف الجذر اللغوي لم يبتعد المعنى كثيرًا عن أصله. فمن هذه المادة نفسها جاء لفظ "الفسوق" الذي يعني مخالفة الصواب الديني، فهو "خروج" أيضًا عن جادة الصواب. وبالجريان على هذا المثال نتناول في هذه الأكتوبة مادة "بــ – ص – ر" التي تفيد الرؤية (بالعين التي هي حاسّة الإبصار)، ومنها اشتُق لفظ "أبصر" (الذي يفيد النظر بعين الرأس أيضًا، وبعين القلب كذلك – أي: البصيرة). والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ (الملك: ٤).

نسعى من هذا المدخل اللساني إلى استجلاء حقيقة ما يمكن تسميته "متلازمة النظر الحسير" عند بعض التيارات حيال أمور الدين، والبصيرة العاجزة عن استبصار سعة الدين ورحمة واجده بالناس كما تتجلى في يُسْر التشريع وفي اختلاف الرحمة بين العلماء والفقهاء لتكون في شئون الحياة سعة وفي فهم النصوص بَسْطة؛ أو حتى لا تطغى علومنا على عقولنا كما قال الإمام الزركشي منذ قرون.

ولذلك أمثلة محددة معلومة للقاصي والداني لأنها مادة للخلاف المتجدد في استيعاب أوامر الدين ونواهيه، وتكييف مقتضياتها فهمًا وتنفيذًا، وحُسن إسقاطها على الواقع، وعدم تكليف الناس عنتًا. والمثال الأول من قضية الحدود في شريعة الإسلام؛ إذ لطالما عكفت التيارات المتطرفة والجماعات الإرهابية على ربطها بمفهوم "الحاكمية" الضيق عندهم، ووصم كل بلد لا يطبق الحدود (من قَطْعٍ ورَجْمٍ وخلافه) بالجاهلية وبالخروج عن صحيح الإسلام حتى أوصلها بعضهم إلى الوصم بالكفر - والعياذ بالله. وليس أيسر على هؤلاء من انتزاع الآيات والأحاديث من سياقها، واجترار بعض آراء من عصور سبقت؛ وهذا عين متلازمة البصر الحسير في فهم الدين، والبصيرة العاجزة عن فهم مراميه – إذ إن تطبيق الشريعة يراد لغيره (تحقيق الردع وضبط حياة الناس)، ولا يراد لذاته. أضف إلى ذلك أن الحدود بمفهومها المقصود في فهم هؤلاء (إن كان لهم فهم أصلاً!) لا تتجاوز ٤٪ من جُملة الشريعة السمحة؛ ففيمَ انحسار أبصارهم عن الجُملة العظمى من الشريعة وقيمها ومُثُلها وأوامرها ونواهيها التي -لو فقهوها- لما ولغوا فيما ولغوا فيه من وصم.

ومن الأمثلة الأخرى المناداة بالجهاد مناداةً تقصره على المجهود الحربي، حتى صار مفهوم الجهاد عند بعضهم تعليلاً لثراء المسلمين وقوة اقتصادهم وراحتهم الدنيوية في عصور سابقة! بذلك استحالت فضيلة "الجهاد" لكيكةً على اللسان، وباعث حسرة على فائت الزمان. الحق أن الجهاد في الميدان الحربي -كما علمنا سيد الخلق محمد (ﷺ)- هو الجهاد الأصغر، وهو ليس بواجب على كل الناس – أما الواجب على كل مُكَلَّف فهو الجهاد الأكبر: أي جهاد النفس، وردعها عن كل سوء؛ كيف لا و"الدين المعاملة". وعلى ذلك، فمتلازمة النظر الحسير والبصير الكليل عند هؤلاء هي ما دعتهم إلى قَصْر مفهوم الجهاد على شيء واحد؛ فكأن نفوسهم نازعتهم إلى صَرف الجهاد إلى الميدان لما استعسروه من تطبيق هذا المفهوم -بمعناه الأكبر- على النفس في كل ثانية من ثواني الحياة، وما أعظم جهاد النفس إلا على المصابرين.

أما المثال الثالث لهذه الأكتوبة فهو موضوع إخراج زكاة الفطر، وإصرار بعض التيارات على قصرها على أصناف قليلة من الأطعمة، وعدم إخراجها نقدًا؛ غافلين بذلك عن كل اجتهاد آخر وعن واقع الناس الذي بات يرجح إخراجها نقدًا. وفي هذه المسألة تأصيل علمي وبسط تدليلي لم تُقَصِّر فيه مؤسسات الدولة الدينية – لا سيما دار الإفتاء. لكن النظرة الحسيرة عند بعض المنغلقين على ما تناقلوه لا تأل جهدًا في التعسير على الناس وتصعيب حياتهم؛ وكأنهم يخاطبون ثلة من البشر في محيط واحد بظروف واحدة وأحوال لا تتغير؛ وتناسوا أن دين الله قد بلغ أطراف الأرض، وتناسوا اجتهاد المجتهدين وفعل الصحابة والتابعين، بل تناسوا المقاصد الكلية المبتغاة من الشرع الحكيم في هذه المسألة وفي غيرها.

وأما المثال الأخير فهو أن تقوم قيامة تيارات عجيب فهمها، ضيق أفقها، اعتراضاً على دعوة وزارة الأوقاف المصرية إلى الصلاة على الحبيب المصطفى (ﷺ) في ربوع مصر بعد صلاة الجمعة يوم ٦ من ذي العقدة ١٤٤٤ (الموافق ٢٦ من مايو ٢٠٢٣)، واصمين أهل مصر كافة بالابتداع. والمتلازمة ذاتها هاهنا هي ما دعتهم إلى إطلاق الأحكام في حق المؤسسات والناس، وهي ما دعتهم إلى تسكير البصر والبصيرة عن كل رأي مؤيد بالأدلة، وهي ما دعتهم إلى التوسع العجيب في معنى البدعة والإحداث في الدين؛ والمعلوم أن الصلاة على الحبيب (ﷺ) من أفضل الذِّكر وأقرب القربات، وأعظم الطاعات، وأن الاجتماع على الذكر المشروع يعدُّ من قبيل التعاون على البر والتقوى (بل إن جمهرة من آيات الذكر في القرآن وردت بصيغة الجمع: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ﴾ (الأحزاب: ٣٥) وقوله سبحانه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ (البقرة: ١٥٢))، وقد نصَّ أهل العلم على مشروعية تخصيص زمان معين أو مكان معين بالأعمال الصالحة، كما أن ذِكر الله تعالى والصلاة على نبيه من العبادات المطلقة المشروعة سرًّا وجهرًا فرادى وجماعات، وأن العلماء الثقات قالوا باستحبابِ تخصيص يوم الجمعة وليلته بالإكثار من الصلاة على سيدنا محمد (ﷺ).

مما سبق يتجلى أن القصور في الفهم وضعف العلم والتقليد المتعصب والضيق بسعة الفقه واجترار بعض أفكار الأقدمين إنما يمكن توصيفه "بمتلازمة النظر الحسير" بلغة علم النفس الحديث؛ ولا بأس أن يفوت الإنسان -بل العالِم- شيءٌ وأشياء، لكن الاستدراك على ما فات يكون بالنظر البصير لا الحسير، وبطلب العلم من المهد إلى اللحد. فاللهم لا تحرمنا فضلك وأفض علينا من فيوض بركات الفقه السديد. آمين.

 

وحدة رصد اللغة الإنجليزية

طباعة