الموضة والانسلاخ من الهوية!

  • | الأحد, 11 يونيو, 2023
الموضة والانسلاخ من الهوية!

 

 

في أثناء دراستي بالمرحلة الثانوية أتذكر جيدًا العقاب الذي نلته بعد التخلي عن حجابي ذي اللون الأبيض واستبداله بلون آخر، كان عقابي حينئذ الوقوف في طابور المخالفين للتعليمات المدرسية، رغم أن الأمر قد يبدو محرجًا وقاسيًا إلا أنه علمني درسًا في الانضباط والالتزام بالقواعد المعمول بها.

واليوم ... أصبح الحديث عن ذلك ضربًا من الدعابة السوداء عند البعض من طلابنا بل ومن تخطوا عتبة الثلاثين وأكثر؛ إذ تحولت الملابس إلى أسلوب للتعبير عن الحرية والفكر المنفتح المتقدم كما يخيل إليهم، وبلغ الأمر بالبعض إلى اعتبار مخالفة القيم المتعارف عليها سواء المجتمعية أو الدينية –رغم عدم وجود تعارض فيما بينهما- نوعًا من التعبير عن الذات المتحررة الرافضة لأية قيود يفرضها المجتمع أو الدين.

لكن الأمر في الحقيقة تخطى فكرة "الزي" أو "الموضة"، فالواقع أثبت لنا وجود أبعاد أكثر خطورة تتعلق بالهوية التي تحفظ كينونة الفرد من الانصهار كليًا في ثقافات لا تتناسب مع خلفيته الثقافية أو الدينية، أو تجره إلى سلوكيات غير سوية، فمع ظهور دعوات للانسلاخ عن الهوية بزعم التمدن ... وغيرها من شعارات وكلمات رنانة ظاهرُها إيجابي وباطنها تهديدٌ باندثار قيم ومبادئ دينية مثل الاحتشام والحياء، وهي قواسم مشتركة في جميع الأديان، فلا نعتقد بوجود دينٍ يحث أفراده على العُري أو ارتداء الرجال أزياء تخص النساء أو العكس. والحقيقة أن هذه القيم لا تتعارض مع الحرية كما يصور البعض لدى العامة من الناس، بل تحفظ للفرد إنسانيته وتميزه عن باقي المخلوقات.

وعند الحديث عن العلاقة بين الموضة (الأزياء) والهوية لا نقصد هنا ما يتعلق بالجاليات المسلمة المقيمة في الدول الغربية وغيرها، التي تكافح من أجل الحفاظ على هويتها وسط محاولات رسمية ومجتمعية لسلخهم عنها وصهرهم في هويات أخرى تتعارض مع قيمهم ومعتقدهم، بل حديثنا هنا في العموم؛ إذ بات طمس الهوية الإسلامية (أو "إعادة تشكيل الهوية الإسلامية"، إنْ شئنا التخفيف) اتجاهًا محمومًا عبر أدوات متعددة من بينها الموضة، وذلك بأيدي بعض العلامات التجارية العاملة في مجال الأزياء عبر اختيار شخصيات معروفة بعناية للترويج لملابس لا تتناسب إطلاقًا مع هويتنا أو قيمنا المجتمعية.

 

ومع ما نراه من توجه لإقحام نماذج معينة من الملابس على مجتمعاتنا العربية والإسلامية... يصبح السؤال المشروع: هل تعد الموضة أداة لإعادة تشكيل الهوية الإسلامية؟!

الناظر إلى وضع الجاليات المسلمة في العالم يجد أن هذا الأمر يحدث بصورة مباشرة ومكثفة عبر القوانين التي تضيق الخناق على مظهر المسلمين الخارجي مثل ربط الحصول على الوظيفة بعدم ارتداء الحجاب ببعض الدول الأوروبية، وإن بدا هذا التوجه محصورًا في الشكل الخارجي للمسلمين إلا أنه يمس عمقَ هويتهم. وعن هذا تقول إيفون حداد، أستاذة تاريخ الإسلام والعلاقات بين المسيحيين والمسلمين بجامعة جورجتاون: "بالنسبة للعديد من قادة الحكومات اليوم، لم يعد السؤال متمثلاً في كيفية مساعدة المسلمين على الشعور بأنهم في وطنهم في المجتمعات الأجنبية، بل في كيفية الاطمئنان إلى إنتاج تلك المجتمعات النوعَ المناسبَ من المسلمين... أي كيفية تصميم مواطنين مسلمين مخلصين يحملون القيم الأوروبية"[1].

وهنا نتساءل: هل القيم الأوروبية متفقة مع القيم الإسلامية؟! بالطبع لا، هناك اختلاف. 

تجلى هذا الأمر في رسالة وزير الجاليات في المملكة المتحدة إريك بيكلز (يناير ٢٠١٥) إلى ١٠٠٠ من قادة المساجد، عندما سأل: كيف يمكن أن يكون الإيمان بالإسلام جزءًا من الهوية البريطانية؟ يحمل هذا التساؤل اعترافًا ضمنيًا بوجود أزمة بين أن تكون مسلمًا وبريطانيًا. كما أنه اعتراف بوجود أزمة في اندماج الجاليات المسلمة في بريطانيا بسبب الهوية الإسلامية، علمًا بأن لتلك المشاعر ما يماثلها في عموم أوروبا

في الحقيقة لا فارق بين مظهر المسلم وهويته، فكلا الجانبين يحفظان له كيانه المستقل؛ فالمرجو من الهوية أن تضفي تميزًا على المنتمين إليها، ومن هنا يتحقق التنوع الثقافي الذي يثري الإنسانية. غير أن العولمة والانفتاح على الآخر، واتخاذ هذا الآخر –أيًا كانت أيديولوجيته أو عقيدته أو خلفيته الثقافية- مثالًا يحتذى به مهما كان الاختلاف، يقودنا إلى أزمة "الهوية الانفصامية عند المسلمين" بوجه عام.

هذا الانفصام الحاصل في فكر بعض المسلمين يرجع إلى تصنيف المجتمعات والشعوب بين متقدمة ونامية أو كما يطلق البعض "متخلفة". ورغم أن هذا التصنيف اقتصادي في المقام الأول إلا أنه امتد إلى قطاعات أخرى، ومنها الثقافة التي ينظر للبعض منها بالرجعي أو "المتخلف". هذا التصنيف وإن كان مجحفًا إلا أنه وجد صدى في نفوس المنتمين لهذه الثقافات حتى باتوا ينفرون منها ويتجهون إلى الثقافات الأخرى للأخذ منها دون تفكير في الاختلاف بينها وبين ثقافتهم، والموضة وإن صنفت في إطار ترفيهي إلا أنها أصبحت مثالًا يُساق حول ثقافة المجتمعات وتوجهاتها، وباتت تعبر عن ميول المجتمعات واهتماماتها، لذا وجدنا اتجاهًا عالميًا لتقليد ملابس ثقافات أخرى تقليدًا ملحوظًا وبوتيرة سريعة.

قد يتصور البعض أن التطورَ السريعَ في ميدان تكنولوجيا الاتصال بعيدٌ عن التأثير في الهوية الثقافية والدينية للشعوب، إلا أن هذا التطور في النصف الأخير من القرن الماضي رافقه ما يعرف باسم "العولمة الثقافية" التي أنتجت خليطًا من الثقافات المتعايشة والمتصارعة في آن واحد، ما جعل هذا التطور وما أفرزه يمثل تحديًا للفكر الإسلامي - بل الإنساني عامةً.

ومن أجل إنجاح "العولمة الثقافية"، شُحِذَ العديد من الأدوات المرئية والمسموعة والمكتوبة والشخصيات المعروفة لتوجيه الأفكار والرؤى التي تتناسب مع ثقافات بعينها وتتعارض مع غيرها، مثل الثقافة الاستهلاكية أو المادية القائمة على إحلال الجانب الاستهلاكي والمادي محل الجانب المعنوي والروحي الذي تدعمه الأديان كافة، والذي تحول إلى ثقافة تعاني منها شعوب العالم بلا استثناء، واعتبار من يتخلف عن ركب تلك الثقافة رجعيًا. وقد بلغت خطورة الثقافة الاستهلاكية إلى حد الترويج للمنكرات المتعارضة مع الشرائع السماوية كافة، وإباحتها تحت مسميات مغايرة باعتبارها أحد أوجه المادية التي رسخت لها تلك الثقافة، ومن بينها الشذوذ الجنسي، وما يعرف بالمساكنة والمشروبات الروحية وكلها منكرات وكبائر نهت عنها الأديان - لا الإسلام فحسب. إلا أنها وجدت السبيل إلى العقول تحت تلك المسميات المغايرة لحقيقتها فالمساكنة هي الزنا، والمشروبات الروحية هي الخمور، وهذه المسميات هي الأصل المذكور في الأديان، فيما تُستَخْدَم مصطلحات بديلة لتزيين تلك الرزائل عند الترويج لها.

ووسط محاولات التمويه والتلطيف واستخدام العبارات غير المباشرة، وتنوع الأدوات المستخدمة من أجل تسريب تلك الأفكار إلى داخل المجتمعات وعقول الشباب واليافعين في ظل الطفرة الرقمية التي أتاحت تعميق تأثيرها وسرعة انتشارها، فقد استُغِلَّت "الأزياء" بوصفها أداةً لتنفيذ ذلك، فأصبحنا اليوم نرى عروض أزياء تُنفذ خصيصًا من أجل دعم ما يعرف بـ "مجتمع الميم"، وإدراج ألوانه في الكثير من التصميمات بل والألعاب المخصصة للأطفال وشعارات البرامج التقنية التي يستخدمها الكثير حول العالم.

ومن أجل إحداث الأثر المطلوب من محاولات التمويه والتلطيف تلك، ثارت مزاعم رجعية الإسلام وشريعته، وعدم مواكبة الزي الإسلامي للموضة العالمية في حين أن الزي الإسلامي ليس له مواصفات قياسية بل الصفة الرئيسة له هي "الحشمة" وحفظ إنسانية الفرد من الجنسين. ورافق هذا الاتهامَ ميلٌ نحو إدخال تغييرات على الزي الإسلامي واستعارة مسميات من ثقافات مختلفة وتعديل صيغتها اللغوية وهيئتها الشكلية ضمن محاولات التلطيف والتمويه تلك. ولعل ما رأيناه من أزمة "البوركيني" خير مثال على هذا التوجه، فبينما يتجه المصممون إلى ابتكار أزياء تتماشى مع الإسلام وتناسب الفكر الغربي المصنف بـ "المتحضر" من وجهة نظرهم بغية إمساك العصا من المنتصف، أمكن سلخ شباب وفتيات من هويتهم الإسلامية تحت شعار مواكبة الموضة.

وما يزيد من تأثير هذا التوجه الاستعانة بشخصيات معروفة لدى قطاع كبير من الجمهور المستهدف لعرض تلك الأزياء؛ بهدف حصد القبول لها واستمالة هذا القطاع لتجربتها تحت شعار "مواكبة الموضة" –كما سبق وذكرنا- وإن تعارض مع القيم الدينية، بل والمجتمعية أيضًا.

هنا نقول إن الأزياء أداة من أدوات كثيرة وُظِّفَت لسلخ الشباب المسلم من هويته، واستبدالها بأفكار ورؤى أخرى تتعارض -ولا شك- مع الهوية الإسلامية، وهذا التوجه ليس شكليًا فحسب؛ بل له مسارات متعددة منها الفكري والعقائدي وكذلك السلوكي.

وإن كان النداء الموجه دومًا يدعو إلى احترام التنوع الثقافي إلا أن ما نراه عالميًّا يؤكد لنا وللجميع أن التنوع كلمة مرفوضة في قاموس كثير من الراغبين في فرض فكرهم ورؤيتهم على الجميع لتشكيل عُصبة موحدة لا تعارض السلوكيات الناتجة عن هذا الفكر وإن شذت ونتج عنها انفلاتات أخلاقية وسلوكية تضر الجميع وتخالف الشرائع السماوية، فلسان حال هؤلاء هو الدفاع المستميت عن الحرية في ازدواجية شرسة تشتت أذهان الشباب وتقودهم نحو الانسلاخ من هويتهم وضياع المعالم المميزة لهم عن غيرهم، ليتحولوا إلى تابعين دون وعي وفهم لتبعات ذلك عليهم وعلى مجتمعاتهم بل ودينهم أيضًا.

 

 


[1]. Warping FaithBig Brands & Government Are Refashioning Muslim Identity, Amina Shareef, BYLINE TIMES ,September 2020. https://bylinetimes.com/2020/09/04/warping-faith-big-brands-and-government-are-refashioning-muslim-identity/

 

 

طباعة
الأبواب: قضــايا أخرى