تصاعد النهج العملياتي لداعش.. قراءة في الأبعاد والدلالات

  • | الأحد, 10 سبتمبر, 2023
تصاعد النهج العملياتي لداعش.. قراءة في الأبعاد والدلالات

     شهدت الآونة الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في العمليات الإرهابية لتنظيم داعش الإرهابي مقارنة بالفترات التي سبقتها، وكان أشهرها إعلان التنظيم في حسابه على تطبيق تيليجرام، مسؤوليته عن تفجير استهدف تجمعًا سياسيًّا في باكستان، مما أسفر عن مقتل (54) شخصًا، وإصابة (200) آخرين، بحسب ما ذكره موقع العربية، يوم الإثنين 31 يوليو 2023م.

وقد سبقه بأيام قليلة إعلان التنظيم مسؤوليته عن هجوم بعبوة ناسفة استهدف منطقة "السيدة زينب" في جنوب دمشق، في سوريا، مما أسفر عن مقتل (6) أشخاص، وإصابة (20) آخرين، وقد ذكر التنظيم الإرهابي في بيان بثه على تطبيق تيليجرام، مساء الجمعة، 28 يوليو 2023م، أن مقاتلين تابعين له نجحوا في اختراق التشديدات الأمنية في المنطقة سالفة الذكر، وتمكنوا من تفجير دراجة نارية مفخخة في أحد التجمعات البشرية، بحسب موقع الحرة. وكان التنظيم قد أعلن أن "تفجيرًا آخر" نفذه مقاتلوه، يوم الثلاثاء 25 يوليو 2023م، "بالطريقة ذاتها، استهدف حافلة لنقل الركاب قرب المنطقة نفسها، وأدى لسقوط جريحيْن على الأقل، وتدمير الحافلة".

ويشير النهج العملياتي المتصاعد لتنظيم داعش، إلى أنه استطاع بدرجة أو بأخرى، التكيف مع الملاحقات، والتضييقات الأمنية المتتالية التي يتعرض لها، بل تجاوزها وصولًا إلى تبنيه هجمات استباقية، عبر عدد من العمليات المتتالية والمؤثرة التي قام بها أفراده على فترات متقاربة، مبرهنًا على أنه لا يزال مؤثرًا في المعادلة الدولية، مما يثير تخوفات من إمكانية إعادة تموضعه في المناطق التي كانت يبسط نفوذه عليها سابقًا.

وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول بأن التنظيم الإرهابي وإن كان قد فقد سيطرته المكانية، إلا أنه لم يفقد قدرته على التمدد فكريًّا وعملياتيًّا، وهذه هي أهم سماته التي مكنته من البقاء، والقيام بعمليات نوعية استباقية، معتمدًا إستراتيجية اللا مركزية، تلك التي تعد قبلة الحياة بالنسبة له، وهو ما سنحاول تجليته في مقالنا هذا، طارحين عددًا من التساؤلات، من بينها: ما هي العوامل التي أسهمت في تكثيف التنظيم لنشاطاته؟ وهل هناك احتمالية لتصاعد العمليات الإرهابية في الأشهر القليلة المقبلة؟ وما هي دلالات تصاعد عمليات داعش الأخيرة؟ وسنقوم بتقديم الإجابات على تلك التساؤلات من خلال المحاور التالية:

عوامل تكثيف العمليات

لا يمكن فصل استمرار تنظيم داعش في شن هجماته في عدد من المناطق الجغرافية عن السياق العام الذي تعيشه تلك المناطق، فضلًا عن بعض المتغيرات السياسية، والاجتماعية، والتي أسهمت -في إطار تلك السياقات- في إفراز عدد من العوامل، أدت إلى تصاعد تلك العمليات الإرهابية، نذكر من بينها:

الفراغات الأمنية:

يحضرنا في هذا السياق الحالة الأمنية في سوريا على وجه الخصوص، فالناظر إليها يجد فراغًا أمنيًّا كبيرًا خلفته الصراعات المحتدمة بين التنظيمات المتطرفة المختلفة، مثل الصراعات التي بين هيئة تحرير الشام وتنظيم داعش الإرهابي، والذي اتضحت معالمه منذ انشقاق داعش عن تنظيم القاعدة، ووصل الصراعُ مؤخرًا إلى ادعاء داعش في مقطعه الصوتي الأخير بأن خليفتهم المزعوم "أبو الحسين الحسيني" قد لقى حتفه على أيدي مقاتلي الهيئة، وأن متحدثهم الإعلامي "أبو عمر المهاجر"، قد أُسر على أيديهم أيضًا. كما تحضرنا أيضًا الحالة الأمنية في باكستان التي تشهد صراعات سياسية محتدمة بين العديد من الكتل والفصائل السياسية، فبحسب تقرير الباحث "صبغة الله صابر"، المنشور بتاريخ 15 مارس 2023م، بعنوان: "داعش يوسع اعتداءاته في باكستان: استغلال الاحتقان السياسي"، حيث استغل تنظيم داعش حالة الاحتقان السياسي التي تمرُّ بها باكستان، وأخذ ينشط بقوة، فكان الهجوم الدموي على مسجد للطائفة الشيعية في "بيشاور" في الرابع من مارس الماضي ٢٠٢٣م، أكبر الهجمات التي نفذها، وأدى إلى مقتل أكثر من (60) شخصًا. كما تبع ذلك هجوم على رتل للجيش الباكستاني في جنوب غرب البلاد في الثامن من الشهر، إضافة إلى الهجمات التي تنفذها حركة "طالبان-باكستان"، والاغتيالات التي لا تتبناها أي جهة، لكن الشرطة تؤكد أنها أعمال إرهابية.

الجغرافية المكانية:

تشكل بعض الأماكن الوعرة، والتي يغلب عليها الطابع الجبلي ملاذات آمنة، وأوكارًا تشهد تمدد التنظيم، ومحاولات إعادة بناء قوته، وتمكنه من الاختباء بداخلها، فضلًا عن قدرته على إنشاء معسكرات للتدريبات العسكرية، والأيديولوجية المتطرفة. كما تحافظ تلك المواقع على استمرارية حصول التنظيم على مصادر الدعم اللوجيستي من الداخل، والخارج على حد سواء، عبر شبكات التهريب التى تتشكل بسهولة بفضل الانفتاح الجغرافي لصحاري تلك المناطق. ولضمان عودته مجددًا، يقوم التنظيم بتطوير هياكل أمنية في ولاياته المختلفة؛ فيعمل على نشر خلايا صغيرة تتخذ من الصحاري نقطة انطلاق للانتشار إلى مناطق متاخمة لها، ومن ثم تنفذ المهام الموكلة إليها، من عمليات إرهابية وغيرها، كما هو الحال في البادية السورية أيضًا، والتي تشهد مسرحًا لأنشطة داعش الإرهابية، وفق تقرير ليورونيوز منشور بتاريخ 8 أبريل 2023م بعنوان: "البادية السورية.. العمق الإستراتيجي لتنظيم داعش"، حيث جاء في التقرير أن حصيلة القتلى خلال العمليات العسكرية ضمن البادية السورية منذ مطلع العام الحالي، بلغت (119) قتيلًا، منهم (108)، قُتلوا في (59) عملية إرهابية لعناصر التنظيم ضمن مناطق متفرقة من البادية، تمت عبر كمائن، وهجمات، وتفجيرات في غرب الفرات، وبادية "دير الزور". كما قُتل (112) مدنيًّا في هجمات للتنظيم في البادية السورية، وفق التقرير سالف الذكر.

الرد على استهداف قادة التنظيم:

لاشك أن استهداف قادة التنظيم يشكل انتكاسة كبيرة له، وخاصة بعد خسارته لقادة الصف الأول، ووقوع خلخلة في الصف الثاني، مما يخلف حالة من عدم الاستقرار الداخلي بين صفوف أعضائه، وفي بعض الأحيان تفضي إلى وقوع انقسامات داخلية بين أعضائه، حيث ظهر هذا جليًّا عندما تأخر في الإعلان عن مقتل زعمائه، وهو ما حدث بالفعل من خلال تعاطيهم مع خبر مقتل "أبو الحسين الحسيني"، حيث تأخر الإعلان عن مقتله نحو (3) أشهر من إعلان تركيا مسؤوليتها عن مقتله. وعليه يسعي التنظيم على الدوام إلى رأب تلك الصدوع، وتبييض صورته أمام مناصريه، عن طريق توجيه مفارزه بشن هجمات، يوجه من خلالها رسائل، مفاداها أنه يمسك بزمام الأمور، ويمتلك زمام المبادرة، حتي في أصعب الظروف.

هل هناك احتمالية لتصاعد العمليات الإرهابية في الأشهر القليلة المقبلة؟

في ظل تنامي العوامل المحفزة في بعض المناطق الجغرافية التي تأخذ منحنى تصاعديًّا للأنشطة الإرهابية المرتبطة بتنظيم داعش كما وضحنا سابقًا، وتأسيسًا على بعض المؤشرات البارزة خلال التتبع العملياتي في الفترات الأخيرة، وفي ظل التغيرات في الإستراتيجيات، والأيديولوجيات التى يتبناها التنظيم، فمن المتوقع زيادة في النشاط الإرهابي لداعش في الفترات القادمة، وخصوصًا في بعض الأماكن داخل القارة الإفريقية، للاستفادة من موارد القارة، ومنافسة تنظيم القاعدة هناك. وهو ما ظهر جليًّا في الشهور الأخيرة وفقًا للإحصائيات التي قام بها مرصد الأزهر، حيث بلغ عدد العمليات التي شهدتها القارة في شهر يونيو (36) عملية إرهابية، أسفرت عن مقتل (295) شخصًا، وإصابة (114)، واختطاف (70) آخرين، فيما شهد شهر يوليو الماضي ٢٠٢٣م سقوط (254) قتيلًا، و(126) مصابًا، واختطاف اثنيْن آخريْن في (٣٤) عملية إرهابية. كما شهدت الفترة سالفة الذكر تصاعدًا عملياتيًّا لداعش غرب إفريقيا، وبوكو حرام.

ومن الملفت للنظر في هذا السياق أن الفترة المقبلة تأتي في أعقاب إعلان التنظيم عن تنصيب خليفة مزعوم له، وعن احتمالية تصاعد العمليات الإرهابية بعد هذا الإعلان، ومن المتوقع أن يتجنب التنظيم في الوقت الراهن تنفيذ هجمات في محيط إقامة زعيمه الجديد، لتأمينه وتجنبًا للفت الأنظار إليه، حرصًا على الاستمرار في نهج التخفي الذي يسير عليه التنظيم بعد مقتل "البغدادي" عام 2019م، حيث حرص على إخفاء شخصية زعيمه، مخالفًا الضوابط التقليدية، والفكرية التي تفضي بضرورة إعلان شخصية القائد حتى تصح ولايته، وتندرج تلك التكتيكات جمعيها تحت بند الضرورات الأمنية. ولكن من المتوقع أن يقوم الزعيم الجديد بتوجيه مفارز التنظيم بالقيام بعمليات إرهابية على أن تكون في نطاقات بعيدة نسبيًّا عن أماكن تواجده.

دلالات تصاعد عمليات داعش الأخيرة

تحمل الهجمات الأخيرة لتنظيم داعش جملة من الدلالات، نذكرها أهمها على النحو الآتي:

إعادة التموضع

يسعى تنظيم داعش إلى إعادة تشكيل صفوفه في الصحاري السورية والعراقية، بغية بسط سيطرته من جديد، استنادًا إلى المزايا الجيوإستراتيجية لتلك المناطق، والتي جعلته يختارها معاقل لدولته المزعومة في السابق. فمنذ دحر التنظيم، وسقوط آخر معاقله في محافظة "دير الزور" على الحدود السورية العراقية، يتخذ من تلك المناطق وجهة لإعادة تموضعه، وإعادة تشكيل هياكله الأمنية والتنظيمية، وبسط نفوذه، وإعادته السيطرة من جديد كما كان في السابق، فيعمد إلى تنفيذ العديد من العمليات النوعية بتلك المناطق، أو بالقرب منها.

هجمات ذات طابع هجومي واستباقي

من خلال متابعة الأنشطة المتطرفة لتنظيم داعش في الآونة الأخيرة، يتبين أن العمليات التى يقوم بها أخذت طابعًا استباقيًّا كشفت عنه التحركات شبه المكثفة للتنظيم، الذي كان يعيش فترة من التخفي، الأمر الذي يؤكد خطورة خلاياه اللوجيستية، وذئابه المنفردة التى يستحثها بين الحين والآخر لتنفيذ عمليات استباقية تبرهن على قدرته على التأقلم رغم المحاذير الأمنية التى تحيطه من كل جانب.

تعدد النطاقات والتحولات الجغرافية للنشاط العملياتي

يتضح من خلال التفاصيل المعلنة عن العمليات الإرهابية، أنها جاءت في نطاقات جغرافية متعددة، مما يشير إلى تحرك التنظيم على نحو أكثر كثافة، وعلى نطاقات أكثر اتساعًا من ذي قبل، سعيًا في تأسيس قواعد ارتكازٍ احتياطية، وساحاتٍ مرشحة لقيادة مركزية للتنظيم عندما يفشل في إعادة تموضعه في أماكن سيطرته سابقًا.

توقيت الهجمات

تؤكد توقيتات الهجمات سالفة الذكر أنها تأتي في عدة أُطُر، منها إثبات الوجود، وإثبات امتلاك المبادرة، ومنافسة تنظيم القاعدة، والرد على استهداف قادة التنظيم وزعمائه. ويأتي هجوم "داعش خراسان" الإرهابي بعد نحو شهر من إعلان الجيش الباكستاني، 26 يونيو الماضي ٢٠٢٣م، مقتل قيادي في تنظيم "داعش" الإرهابي، وثلاثة مسلحين آخرين كانوا في رفقته، خلال غارة شنتها القوات الباكستانية في منطقة "باجور" بإقليم "خيبر بختونخوا"، الواقع بالقرب من الحدود مع أفغانستان، فيما يعرف لدى داعش بإستراتيجية "أخذ الثأر". كما تزامن تبني تنظيم داعش لتلك الهجمات مع إدلاء المتحدث الإعلامي له بتسجيل صوتي يعلن فيه مقتل "أبو الحسين الحسيني"، وتنصيب "أبو حفص الهاشمي" خلفًا له.

إثبات الوجود الداعشي والأغراض الدعائية

غالبًا ما توظف داعش تلك العمليات الإرهابية دعائيًّا، تأكيدًا على بقائها، وقدرتها على تنفيذ عمليات أخري، ويكون الهدف من نسبة تلك العمليات له الإيحاء بتمدده عبر أذرعه، وفروعه المختلفة. كما يسعى التنظيم أيضًا من خلال هذه العمليات إلى رفع الروح المعنوية لمقاتليه بعد الضربات التي يتلقونها في أماكن كثيرة.

ختامًا، يمكننا القول: إن الحديث عن عودة داعش ارتبط بتصاعد العمليات الإرهابية للتنظيم في الآونة الأخيرة، وبعوامل أخرى أسهمت في خلق سياقات ساعدت على تناميه مرة أخرى، لا سيما بعد خسارة التنظيم جغرافيته، وقادته التاريخيين، وما تلاه من أزمات بنيوية ترتبت على ذلك. وعليه، قد بات من الأهمية بمكان الاستمرار في الضغط المستمر على فلول التنظيم، وملاحقاتهم في العراق وسوريا، وتعزيز الجهود الجماعية لدحر فروعه، وأذرعه، وتفكيك خلاياه النائمة في جميع أنحاء العالم، تلك التي يعقد عليها كل آماله منذ سقوط معاقله الرئيسة.

وحدة رصد اللغة التركية

طباعة