صيحة التكبير بالنصر.. بين الاعتدال والتطرف

  • | الخميس, 5 أكتوبر, 2023
صيحة التكبير بالنصر.. بين الاعتدال والتطرف


     تحتفل مصر، بل الأمة العربية كلها، كل عام بذكرى انتصار العاشر من رمضان ١٣٩٣هجرية، السادس من أكتوبر ١٩٧٣ ميلادية؛ تلك الذكرى المجيدة التي سُطرت بحروف من نور، تلك الملحمة التي خاضها الجندي المصري العظيم بعد التخطيط، والإعداد، والقرار المناسب من القيادة السياسية.
لم يكن ذلك النصر ليأتي من فراغ؛ فالأخذ بأسباب النصر والثقة في وعد الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد، آية: ٧] كانا عماد النصر، وفي القلب من ذلك كان التدريب الجيد للجنود على حمل السلاح والاشتباك والمناورات لإعداد جندي قوي متحل بالصبر، يسير جنًبا إلى جنب مع الجانب المعنوي من أجل بث روح التضحية والفداء للوطن، مع استخدام ما تيسّر من معدات وإعمال العلم والصبر في الاستدراك على الفجوات الضخمة بين تسليح جيش العدو وجيشنا الباسل.
ولقد كان الجانب المعنوي متمثلًا في رجال الأزهر الشريف الذين استعانت بهم قواتنا المسلحة لإلقاء المحاضرات والخطب والدروس التي تحث الجنود على القتال والصبر حتى النصر، وكان من أبرز هؤلاء العلماء الشيخ محمد الفحام، وفضيلة الدكتور عبد الحليم محمود، وفضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ محمد الغزالي، وغيرهم من علماء الأزهر الشريف الذين كانوا يرافقون الجنود في الخنادق والثكنات أو كانوا مجنّدين يلبون نداء الجندية، كما كان المسلمون يرفعون أكفّ الدعاء للجنود على المنابر في صلاة الجمعة، وبعد الصلوات الخمس في المساجد؛ كل ذلك من أجل أن تتساوى الروح المعنوية مع الروح القتالية التدريبية.
وبعد أن حطم الجيش المصري خط بارليف الحصين كان صوت المعركة (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر) نعم كانت صيحات التكبير هي وقود الجنود للإقدام، إذ استشعروا مددًا من الله سبحانه، وعمّتهم مشاعر الفخار والعزة؛ لأنهم كانوا يسعون إلى استرداد الحقوق المغتصبة، التي لطالما راودتهم في أحلامهم، وفي يقظتهم. فكانت تلك الصيحات باعثة لهؤلاء الجنود على الإقدام والتضحية بالنفس دون تردد، نابعة من عقيدة راسخة من الإيمان بالله، ومن حب الوطن، ومن ذكر الله تعالى؛ فهو وحده الناصر المعين.
لقد ظهر المعدن الأصيل للمصريين في هذه الحرب؛ فهم لا يبدؤون بالظلم والعدوان؛ لكن إذا اعتُدي عليهم فلا بد أن يردوا العدوان. ومن المسلّمات عن تلك الحرب أنها جاءت دفاعًا لا ابتداءً بالعدوان، إذ انطلقوا كالأسود لاسترداد أراضيهم التي اغتصبت في ١٩٦٧، وهذا من الأصول المتفق عليها مهما اختلفت الأديان والثقافات، يقول تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ}، [البقرة، آية: (١٩٠)].
وظهر معدن المصريين كذلك في معاملة أسرى الأعداء؛ إذ تعاملوا معهم انطلاقًا من الأخلاق والدين؛ لا بمنطق العين بالعين ردًّا على ما فعله جيش العدوان بالأسرى المصريين في حرب ١٩٦٧، فلم يعامل المصريون أسرى الحرب إلا المعاملة الحسنة، فالإسلام دين رحمة وعدل، قال تعالى في معرض الثناء على المؤمنين وبيان ما أعده لهم في الجنة، موضحًا أنهم كانوا يعاملون الأسرى معاملة حسنة ويقدمون لهم الطعام والشراب: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان، آية: ٦].
فإذا ما أردنا أن نقارن بين ما فعله جنودنا البواسل من قواتنا المسلحة وبين ما تنتهجه التنظيمات المتطرفة كتنظيم (داعش) وغيره، لرأينا أن تلك التنظيمات تقتل الآمنين في بيوتهم؛ وهدفهم الأول هو الاستيلاء على السلطة، وفرض الهيمنة على مناطق وجودهم، زاعمين أن المجتمع كله أصبح كافرًا، وأنهم وحدهم المسلمون.
إنَّ المواد الإعلامية التي بثها هؤلاء عبر مواقع الإنترنت شاهدة عليهم بأنهم كانوا يقتلون المسلم وغير المسلم بلا رحمة، فقتلوا المسلمين في المساجد، وفي بيوتهم، وفي متاجرهم، ومصانعهم بحجة ارتدادهم عن الإسلام؛ ولقد حذر الإسلام من تكفير المسلم وقتله إذ قال عليه الصلاة والسلام: "إذا قال الرجلُ لأخيهِ يا كافِرُ باءَ بِه أحَدُهما " [أخرجه البخاري في صحيحه، رقم (٦١٠٣)]. ويقول تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء، آية: (٩٣)]. 
كما انحطّ المتطرفون إلى قتل المواطنين المسيحيين وتفجير كنائسهم، وهذا من الكبائر التي نهى عنها الشرع الشريف، كيف وقد أوصانا بهم النبي عليه الصلاة والسلام؛ يقول تعالى: {لا إِكْرَاه في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: ٢٥٦]. وقد وصَّى النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مصر وصيةً خاصةً؛ فعن أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى عند وفاته فقال: "الله الله في قبط مصر؛ فإنكم ستظهرون عليهم ويكونون لكم عدة وأعوانًا في سبيل الله" [أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (٢٣/٢٦٥)]. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استوصوا بهم خيرًا؛ فإنهم قوة لكم وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله" يعني قبط مصر. [أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده (٣/٥١)، رقم (١٤٧٣)].
 لقد رأينا كيف يصيح المتطرفون صيحة التكبير بعد قتل الأبرياء، أو عند تفجير الآمنين وترويعهم، أو عند استهداف مؤسسات الدولة وغير ذلك، وصيحتهم هذه ما هي إلا صيحة حق استخدمت في الباطل، فهي تطابق صيحات الخوارج، وذلك أنه بعد الأحداث التي وقعت بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قام الخوارج بتكفير عموم الناس، (علي وأتباعه ومعاوية وأتباعه، ومن اعتزل ولم يكن مع أحد منهما)، فعاثوا في الأرض فسادًا يقتلون كل من خالفهم، وكان ممن استُشهد على يد الخوارج عبد الله بن خَبَّاب بن الأرتِّ، وحين أراد أن يذكرهم بأن ما يحدث بين المسلمين إنما هو فتنة، قتلوه وبقروا بطن امرأته، وهي حُبلى. ولقد كان الخوارج يصيحون بالتكبير في أثناء إعمالهم القتل في الصحابة والمسلمين ممن خالفهم، من أجل إرهابهم وإلقاء صبغة دينية على جرائمهم، وسارت على دربهم الجماعات المتطرفة في العصر الحديث، فصيحات المتطرفين بالتكبير لا تعبر إلا عن جهل بالدين، والمتاجرة به، واتخاذه شعارًا لتحقيق أجندات خبيثة، لا هدف من ورائها إلا الفساد والإفساد. 
ويرى مرصد الأزهر أنَّ المصريين عليهم أن يتذكروا ملحمة السادس من أكتوبر وأن يشعروا بالفخار والعزة؛ وأن جيش مصر منصور بنصر الله تعالى، فهو ما زال يبذل الجهد والمال والنفس في سبيل المحافظة على هذا الوطن وأبنائه ومقدراته.

طباعة
الأبواب: قضــايا أخرى
كلمات دالة: