سلسلة الصهيونية (2).. الجذور الدينية للفكر الصهيوني الحديث والمعاصر.. مزاعم وردود

  • | الأحد, 26 نوفمبر, 2023
سلسلة الصهيونية (2).. الجذور الدينية للفكر الصهيوني الحديث والمعاصر.. مزاعم وردود

      عرضنا في المقال الأول من هذه السلسلة تاريخ بروز مصطلح الصهيونية وتطوره، وما يتداخل معه من مصطلحات كالصهيونية السياسية، والثقافية، والعملية، والتوفيقية، والدينية، وغيرها وصولًا إلى المقصود بالمصطلح المستخدم في الوقت المعاصر، وفي هذا المقال الذي يمثل الحلقة الثانية من السلسلة نتناول الجذور الدينية للفكر الصهيوني الحديث والمعاصر، ونعرض بعض المزاعم التي يرددها الفكر الصهيوني، والتي يتم ربطها بسياق ديني، مع تفنيد هذه المزاعم، والرد عليها. وقبل الشروع تجدر الإشارة إلى بعض الملاحظات التي تجدر مراعاتها على النحو التالي:

  • ينبغي ألا تقتصر الدراسات الصحيحة والموضوعية عن الصهيونية، على تتبع ظهور الفكرة بين اليهود في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (أي: بلورتها في صورة حركة سياسية)، وإنما لا بد من العودة لجذور الفكرة وتفنيدها لهدم ما يترتب عليها من كوارث ومصائب يعاني المجتمع العربي المسلم من ويلاتها منذ ما يزيد عن الـــ ٧٥ عامًا.     
  • وظَّفت الحركة الصهيونية النصوص الدينية، للقضاء على الفلسطينيين في إطار المشروع الاستعماري الاستيطاني، عبر اقتطاعها من سياقاتها التاريخية، ومن ثم إسقاطها على الواقع الراهن؛ فيصبح الفرد الصهيوني وكأنه مأمور من قبل الله بإبادة الفلسطينيين.
  • (إمبريالية المقولات) هو مصطلح تحدث عنه أحد علماء الاجتماع الغربيين، ويعني اضطلاع إحدى القوى بتحديد المقولات التحليلية الأساسية بطريقة تعكس إدراكها للواقع وتخدم مصالحها، وتستبعد إدراك الآخرين وتهمل مصالحهم. وهذه الظاهرة تتضح بشكل واضح في الصراع العربي الصهيوني، فالمقولات التحليلية الأساسية قد تم صياغتها بعناية فائقة داخل التشكيل الحضاري الغربي. وهي مقولات مستمدة أساسًا من العهد القديم، بعد أن تم علمنتها، فــــ "الشعب المختار" يصبح "الشعب اليهودي"، و"أرض الميعاد" تصبح "الوطن القومي اليهودي"، و"العودة في آخر الأيام حينما يتحقق الوعد الإلهي"، تصبح "استيطان اليهود في فلسطين حسب وعد بلفور"([1]).        

اليهود استمدوا عقيدتهم من تاريخهم:

        يعدُّ التاريخ اليهودي عنصرًا أساسيًّا من عناصر العقيدة اليهودية، فلا نستطيع أن نكتب عن مشكلات العقيدة اليهودية دون أن نعرض تاريخ اليهود بالتفصيل. ومع أن الشرائع السماوية تنزل مقررة من السماء بعيدة كل البعد عن الظروف البشرية وتطوراتها، فإن اليهود استمدوا عقيدتهم من تاريخهم وما حدث لهم، حيث أصبح الاعتقاد اليهودي في حقيقته بلورة ونتائج لما حدث لليهود على مدى تاريخهم.

ويكاد اليهود أن يكونوا الأمة الوحيدة التي كتبت تاريخها بيدها حسب أهواءها، ووضعته في إطار من المقدسات بحيث جعلته كله وحيًا سماويًّا مقدسًا لا يقبل الجدل أو المناقشة.

      ويتلخص التاريخ عند اليهود في أن كل عملية الخلق والتدبير الإلهي على مسرح السماوات والأرض كانت لهدفٍ واحدٍ هو: اختيار "بني إسرائيل"، واصطفاؤهم، وتسليمهم دور البطولة الأبدي على مسرح الإنسانية، أما الأمم الأخرى فليست إلا كومبارسًا لا أهمية لها إلا بقدر (خدمتها لليهود)([2]).    

 الوعد الإلهي في العهد القديم:

 تتحدث مرويات المِقرا (العهد القديم)([3]) عن الوعد الذي قطعه الرب على نفسه مع إبراهيم ونسله بإعطائه أرض فلسطين وما حولها فــــ (أرض الميعاد)، أو (الأرض الموعودة)، أو (أرض إسرائيل) أسماء مختلفة لمعنى واحد، وهي: (أرض فلسطين).([4])

و(أرض الميعاد) هي إحدى المرتكزات الأساسية للفكر اليهودي، ومؤدى هذه الفكرة ينصرف إلى القول: (إن الرب قد وعد إبراهيم ونسله بملكية فلسطين وما حولها ملكية أبدية)([5]).  

وباستعراض النصوص المذكورة في العهد القديم، نرى أن الوعد رغم أنه تكرر في أسفاره مع اختلاف في الصياغات اللغوية، فإن مضمون (الوعد) بقي واحدًا تسانده فكرة (الشعب المختار)، وذلك للتلازم الوثيق بينهما، وهذا ما أشار إليه (فيريلوفسكي). أحد مُنَظِّري الحركة الصهيونية بقوله: (إذا كان هناك شعب مختار، فثمَّة أيضًا أرض مختارة، أو أرض ميعاد)([6]).   

 مستندًا في ذلك إلى العهد الذي قطعه الرب للشعب اليهودي حين جعله (الشعب المختار)، ووعده بملكية "أرض كنعان"([7]) ملكية أبدية([8]).

        ويبدو أن منطوق (الوعد) في أسفار التوراة قد تطور تطورًا واضحًا في تضخيم مفهوم (الوعد) ماديًّا ومعنويًّا([9]).  ففي البدء (قال الرب لأبرام انطلق من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك، وأعظم اسمك، وتكون بركة، وأبارك مباركيك، وألعن لاعنيك، وتتبارك فيك جميع أمم الأرض)([10])، ثم تجلَّى الربُّ لأبرام، وقال: لنسلك أُعطِي هذه الأرض)([11])، ثم (قال الرب لأبرام بعدما فارقه لوط: ارفع طرْفك، وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، إن جميع الأرض التي تراها أعطيها لك ولنسلك إلى الأبد)([12])، ثم (قطع الربُّ مع أبرام عهدًا قائلًا: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات)([13])، ثم نقلت التوراة (الوعد) من (إبراهيم) إلى ابنه (إسحاق)؛ إذ ورد فيها: (وأَفِي بالقسم الذي أقسمت لإبراهيم أبيك، وأُكثِرُ نسلَكَ كنُجُوم السماء، وأعطي نسلك جميع هذه البلاد، وتتبارك في نسلك جميع أمم الأرض)([14]). ومن (إسحاق) انتقل (الوعد) إلى ابنه (يعقوب)، (والأرض التي جعلتها لإبراهيم وإسحاق لك أجعلها، ولنسلك من بعدك أجعل الأرض)([15]).

        وهكذا يستمر (الوعد) لــ (بني إسرائيل) حتى مجيء (موسى) (عليه السلام) لينتقل (الوعد) له؛ إذ نصت التوراة على: (وقال الرب لموسى: أقمتُ معهم عهدي أن أعطيَهم أرض كنعان، أرض غربتهم التي تغرَّبوا فيها)([16]). 

ثم كلم الرب موسى قائلًا: (مُر بني إسرائيل، وقل لهم إنكم داخلون أرض كنعان، وهذه هي الأرض التي تقع لكم ميراث أرض كنعان بتخومها)([17])، ثم كلم الرب (بني إسرائيل) قائلًا: (كل موضع تطؤه أخامص أقدامكم يكون لكم)([18]).

تفنيد لما ورد من نصوص (الوعد الإلهي):

      على فرض تسليمنا بصحة ما ورد في تلك النصوص التوراتية التي لم تسلم من تحريفٍ وتبديلٍ بنص القرآن الكريم؛ فإننا سوف نُفَنِّد ما ورد من الصياغات المختلفة (لنصوص الوعد الإلهي)، والتي أوردناها في الشق الأول من هذا المقال، فيما يلي([19]):

  1.  تجدر الإشارة هنا إلى أن (الوعد) بالأرض الذي أُعطِيَ (لإبراهيم) (عليه السلام) لم يكن جزءًا من الوعود الأولى، لكنه برز لاحقًا كواحد منها([20])، ولذا فإن (الوعد) بأمةٍ تكون شعبَ الربِّ له الأولوية على (الوعد) بالأرض، لذا فاليهود (غير الصهيونيين) يعتقدون أن لا عودة للأرض (الموعودة) إلا في آخر الزمان على يد المسيح المخلص (המשיח-همّاشِيَّح)، الذي سيجمع شمل اليهود المُشتتون في العالم تحت قيادته، ويحكمهم ألف عام من العدل والخير والبركة. فقد ورد في سفر [التثنية: 30/ 3- 5 ] "يَرُدُّ الرب إلهك سبيَك ويرحمك ويعود فيجمعك من جميع الشعوب الذين بدَّدك إليهم الرب إلهك، إن يكن قد بددك إلى أقصاء السموات فمن هناك يجمعك الرب إلهك ومن هناك يأخذك ويأتي بك الرب إلهك إلى الأرض التي امتلكها آباؤك فتمتلكها ويحسن إليك ويكثرك أكثر من آبائك".

       وهذا ما أدى إلى صدام بين رواد الحركة الصهيونية الأوائل -الداعين لإنشاء وطن قومي لليهود في أرض فلسطين- وبين حاخامات اليهودية (اليهود الأرثوذكس) الذين يعتقدون أن ذلك تدخل سافر في مشيئة الرب، وأن العودة لن تكون إلا في آخر الزمان. (وسوف يتم تناول هذا بالتفصيل في مقال لاحق ضمن هذه السلسلة بإذن الله تعالى).

       يضاف إلى ذلك أن الوعد بالأرض في أسفار التوراة هو جزء من غرض إلهي أوسع يشمل الناس أجمعين، ويأتي بالبركة لجميع الجنس البشري، ولجميع الناس في مختلف بقاع العالم([21])، "قال الرب لأبرام: ... وتكون بركة... وتتبارك فيك جميع أمم الأرض" [التكوين: ١٢/ ١-٣].

  1. النصوص المتعددة التي تضمنتها (التوراة) لمفهوم (الوعد) توضح مدى التطور الذي طرأ على هذا المفهوم، إذ يبدو في النصوص الأولى وعدًا بسيطًا لا تحديدًا فيه لشيء من المعالم والحدود الجغرافية، إلى أن تم تحديد (أرض الميعاد) (من الفرات إلى النيل) في الوعد الأخير (لإبراهيم) (عليه السلام)([22]).
  2. على الرغم من أن (الوعد) الإلهي بأرض كنعان قد أُعطيَ (لإبراهيم) (عليه السلام) وذريته من بعده، فإن النصوص التوراتية أجرت إقصاءات، واستثناءات عديدة داخل ذرية (إبراهيم) (عليه السلام)؛ إذ جرى في البداية إقصاء واستبعاد (إسماعيل) (عليه السلام) وذريته من هذا (الوعد) بحجة أنه (ابن جارية)، مع أن (الوعد) جاء قبل ولادة (إسحاق) (عليه السلام)، ونصَّ على أن يكون للابن البكر "ابن الجارية أيضا سأجعله أمة، لأنه من نسلك" [التكوين: ٢١/ ٩- ١٣].

        فضلًا عن ذلك، فإن علامة العهد التي أعطاها الرب (لإبراهيم) (عليه السلام)، هي (الختان)، "وكل من لا يختتن يخرج من عهد الله" [التكوين: ١٧/ ١٤]. فكان أول من تم ختانه (إسماعيل) (عليه السلام)؛ لأن أخيه (إسحاق) لم يكن قد ولد في ذلك الوقت، فإن كان ثمة وريث مستحق (للعهد) فهو (إسماعيل)، أو على الأقل تكون (الأرض الموعودة) مناصفة بينه وبين أخيه!

       وبعد ذلك تمَّ إقصاء (عيسو) ابن (إسحاق)، وتفضيل أخيه (يعقوب) عليه بحيلة من أمه (رفقة) زوجة (إسحاق)، والتي كانت تحب (يعقوب) أكثر من (عيسو)، إذ تروي التوراة: أن رفقة تآمرت مع ولدها (يعقوب) وألبسته ثياب أخيه (عيسو)، وقدمته لأبيه الضرير (إسحاق) على أنه (عيسو) ليباركه، وبعد أن تمت المباركة علم الأب بالخدعة، ولكن بعد فوات الأوان. أما (عيسو)، فصرخ وبكى بمرارة عندما علم بالأمر ([23]).

     وبعد أن نال (يعقوب) مباركة أبيه، وأصبح وريثه الشرعي، تصل مرويات التوراة إلى ذروتها؛ إذ تصارع (يعقوب) مع (الرب) كما يتصارع البشر، "وبقي يعقوب وحده، وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حُقَّ فخذه، فانخلع حُقَّ فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقني لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني، فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل (إسرائيل)؛ لأنك جاهدت مع الله، والناس، وقدرت" [التكوين: ٣٢/ ٢٤- ٢٩].                     

       من هنا جاءت كلمة (إسرائيل) بمفهومها التوراتي، وهي التسمية الجديدة التي أطلقها الرب على (يعقوب)، وبما أن (يعقوب) الذي أصبح اسمه الآن (إسرائيل) هو الوريث الشرعي (لإسحاق)، وجده (إبراهيم)، فإن (الوعد الإلهي) بإعطاء أرض كنعان من حقه، ومن هنا أيضًا أصبح اسم (الأرض الموعودة) أو (أرض الميعاد) بـــــ (أرض إسرائيل)، وذرية (يعقوب) بـــــ (شعب إسرائيل). (وسوف نشير في هذه السلسة إلى ما يسمى بالعرق اليهودي أو النقاء اليهودي، حيث تنفي بعض الدراسات صله اليهود بيعقوب عليه السلام، بل هم خليط من أجناس مختلفة).  

     والسؤال: إذا كانت (التوراة) قد استثنت (إسماعيل) من الوعد لأنه يُعد (ابن جارية)، فلماذا انصرف الوعد من (عيسو)، وانحصر في (يعقوب)؟ علمًا بأنهما من أُمٍّ واحدة، لا فرق بينهما من تلك الناحية، وكيف ينتقل (الوعد الإلهي) و(الإرث الشرعي) بطريق الحيلة والخداع؟!... هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى نصوصًا في (التوراة) تدل على رضا الرب عن (إسماعيل)، و(عيسو)، وأنه لم يكن غاضبًا عليهما. "وأما إسماعيل فقد علمتُ قولك فيه وها أنا ذا أباركه وأُنمِّيه وأُكثَّره..." [التكوين: ٢٧/  ٣٨- ٣٩].، "فقال عيسو لأبيه: باركني أنا أيضًا يا أبت.. فأجابه إسحاق أبوه". [التكوين: ٢٧/ ٣٤- ٤٠].

الحلولية الإلهية في المعتقد اليهودي: 

        يُلاحَظ أن فكرة (الوعد الإلهي) أخذت تتطور تطورًا ملحوظًا لتتحول من مجرد هدية (منحة) من الإله إلى حق من حقوق الشعب اليهودي، بل أصبحت حقًّا مقدسًا. 

       ولفهم طبيعة هذا التطور لا بد من الرجوع إلى الفكرة الإلهية عن (الحلولية الإلهية) في الشعب، والأرض، وهو ما يعبر عنه بالثالوث الحلولي (الإله، والشعب، والأرض)، فتقوم وحدة مقدسة بين الأرض والشعب لحلول الإله فيهما، وتوحُّده معهما؛ إذ يحل الإله في الشعب، فيكتسب طابعًا مُقَدَّسًا([24]).       

معيار التفاضل عند الله (التقوى):

      تَتَّهم التوراةُ المولَى عزّ وجلّ -وحاشاه– بأنه يُميِّز أناسًا على آخرين، أو جماعة على أخرى بناء على أساسِ العنصر، أو اللون، أو النَّسب، فهو القائل سبحانه: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [سورة الحجرات، الآية: ١٣]، وقال نبيُّه (صلى الله عليه وسلم) "يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إنَّ أكرَمكمْ عند اللهِ أتْقاكُمْ" أخرجه أبو نعيم في (حلية الأولياء). وقال أيضًا "و مَنْ أبْطأَ بهِ عملُهُ لمْ يُسرِعْ بهِ نَسبُهُ". (رواه مسلم)

تعلق الأمر بالاستقامة على منهج الله تعالى:    

        فاليهود الصهاينة يبنون احتلالهم لفلسطين على مزاعم دينية وتاريخية، فيدَّعون من خلال نصوصهم المقدسة أن الله سبحانه وعدهم بهذه الأرض، كما يشيرون إلى ارتباطهم التاريخي بها، نظرا لحكمهم جزء منها فترة من الزمن، وارتباطهم النفسي والروحي بها، وقدسيتها عندهم.

         ونحن المسلمون نؤمن بحرية أهل الكتاب الدينية، فلا يحق لأحد إجبار اليهود على تغيير عقائدهم، ومن المنطلق ذاته لا يجب على اليهود إلزام الآخرين بعقيدتهم وممارساتهم اللاإنسانية في حق الشعب الفلسطيني والمقدسات الإسلامية، تحت دعاواهم الدينية المزعومة تلك. فالمسلمون لا يرون لليهود حقًا في هذه الأرض؛ فمن الناحية الدينية، فإن هذه الأرض أُعطِيَت –وفق معتقدهم- لبني إسرائيل عندما أطاعوا ربهم واستقاموا على نهجه، تحت قيادة رسلهم وصالحيهم. ولكنهم انحرفوا، وبدَّلوا، وقتلوا أنبياءهم، وعاثوا في الأرض فسادًا بعد ذلك، ففقدوا تلك الشرعية. والمسلمون يؤمنون بأنهم الورثة الحقيقيون للمنهج الرباني، وأنهم الامتداد الحقيقي الوحيد لأمة التوحيد ودعوة الرسل، وأن دعوة الإسلام هي امتداد، واستمرار لدعوة إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى.. عليهم السلام.

        فالمسلمون الآن هم أحق الناس بهذا الميراث بعد أن انحرف الآخرون عن الطريق المستقيم الذي دعت إليه الأديان السماوية. والمسألة غير مرتبطة بالجنس، أو النسل، أو القومية، وإنما مرتبطة باتباع المنهج، فتاريخ الأنبياء هو تاريخنا، والشرعية التي أعطاها الله للأنبياء وأتباعهم في حكم الأرض المقدسة هي دلالة على شرعية المسلمين وحقهم في هذه الأرض.

قال تعالى: {ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين. إن أَولَى الناس بإبراهيم لَلَّذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين} [سورة آل عمران، الآية: 67 ]، وقال تعالى: {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بَني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [سورة البقرة، الآية: ١٣٢]، وقال سبحانه: {ولقد كَتَبْنَا في الزَّبور من بعد الذِّكر أنَّ الأرضَ يَرِثُها عباديَ الصالحون} [سورة الأنبياء، الآية: ١٠٥]، وقال تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين} [سورة البقرة، الآية: ١٢٤].

        وهكذا فإن الله أخبر إبراهيم (عليه السلام) أن الإمامة والقيادة لا ينالها الظالمون من نسله وذريته؛ لأن الأمر مرتبط بالاستقامة على منهج الله، ولو كان الأمر مرتبطًا بالتناسل فلا ينبغي لبني إسرائيل أن يقصروه على أنفسهم، ولاستحق إسماعيل عليه السلام ونسله هذا الوعد الذي أُعطي لإبراهيم، ولاستحقه العرب المنتسبون إلى إسماعيل جد العرب العدنانية، ومنهم قريش وسيدها محمد (صلى الله عليه وسلم). هذه من ناحية، أما من ناحية أخرى فهناك دراسات تؤكد على أن يهود العالم حاليًا لا ينتسبون لسلالة بني إسرائيل.

        أما من الناحية التاريخية، فإن حُكم بني إسرائيل لفلسطين كان فترة ضئيلة في عمر التاريخ، لم تتجاوز الأربعة قرون، أما الحكم الإسلامي فقد استمر نحو (١٢) قرنًا (٦٣٦-١٩١٧م) قطعته لفترة ضئيلة الحروب الصليبية. وإذا كان معظم اليهود قد غادروا فلسطين، وانقطعت صلتهم الفعلية بها مدة (١٨) قرنًا منذ (١٣٥م وحتى القرن العشرين) فإن أهل فلسطين الأصليين لم يغادروها طوال الـ(٤٥٠٠) سنة الماضية؛ فيتضح مما سبق أن اليهود ليس لهم أية أحقية في أرض فلسطين من الناحية الدينية، أو حتى من الناحية التاريخية.

وفي مقالات تالية من السلسلة نواصل كشف حقيقة الصهيونية، ونسب بني إسرائيل، وموقع صهاينة اليوم منهم..

وحدة البحوث والدراسات

 

[1] - عبد الوهاب المسيري: الجماعات الوظيفية اليهودية (نموذج تفسيري جديد)، دار الشروق، القاهرة 2002م، ص7.

[2] - سعد الدين السيد صالح: العقيدة اليهودية وخطرها على الإنسانية، دار الصفا للطباعة والنشر، ط2، القاهرة 1410هــ0 1990م، ص43. نقلًا عن: د. حسن ظاظا وآخرين: الصهيونية العالمية وإسرائيل، الهيئة العامة للكتب والأجهزة العلمية، القاهرة 1971م، ص13.

[3] - العهد القديم: يتألف العهد القديم أو (المقرا) من (39) سفرًا، مقسم إلى ثلاثة أقسام:

      - القسم الأول: مكون من 5 أسفار تسمى (أسفار موسى الخمسة)، ويطلق عليها اسم (التوراة)، والتي يزعم اليهود أنها الشريعة المكتوبة التي

    تلقاها النبي موسى عليه السلام عن الله عز وجل، نحو (1250 ق. م) وهي: (التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية).

  • القسم الثاني: ويشمل مجموعتين: الأولى/ خاصة بالأنبياء الأوائل، وهذه الأسفار هي: (يشوع، والقضاة وصموئيل الأول والثاني، والملوك الأول والثاني، وسفرَي أخبار الأيام الأول وأخبار الأيام الثاني). والمجموعة الأخرى خاصة بالأنبياء المتأخرين، ويتألف من (14) سفرًا وهذه الأسفار هي: (اشعيا، وإرميا، وحزقيال، ويوئيل، وعاموس، وعوبديا، ويونان، وميخا، وناحوم، وحبقوق، وحفنيا، وحجي وزكريا، وملاخي).
  • أما القسم الثالث فهو الخاص بالكتابات والأشعار ويتألف من (12) سفرا هي: (مزامير داود، وأمثال سليمان، وأيوب ونشيد الأناشيد، وراعوث، وهوشع، ومراثي، وارميا، وارميا، وإستير، ودانيال، وعزرا، ونحميا). ينظر: أحمد سوسة: مفصل العرب واليهود في التاريخ، سلسلة دراسات ع (243)، دار الحرية للطباعة، بغداد 1981، ص230- 232.        

[4] - عبدالوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية: نموذج تفسيري جديد، ج5، دار الشروق، القاهرة 1999م، ص 78- 80.  

[5] - نديم الجابري: الأصولية اليهودية، مؤسسة الفضيلة للدراسات والنشر، بغداد 2006م، ص91.

[6]  - زفي فيريلوفسكي: بنو إسرائيل في الفكر الصهيوني المعاصر، مركز الأبحاث، بيروت 1977م، ص38.   

[7] - يطلق اسم "كنعان " على فلسطين (أرض الموعد) الواقعة غربي نهر الأردن، والتي استوطنها بنو إسرائيل بعد عبورهم نهر الأردن بقيادة يشوع، وكثيرًا ما كانت تشمل أجزاء من جنوبي سورية، فلم تكن تخومها الشمالية محددة تمامًا. وكان يطلق على سكانها بعامة (باستثناء بعض المناطق مثل أوغاريت على ساحل البحر المتوسط) اسم الكنعانيين.  ينظر: قاموس الكتاب المقدس | دائرة المعارف الكتابية المسيحية: شرح كلمة (أرض كنعان)، موقع الأنبا تكلا هيمانوت، آخر دخول: 27/ 8/ 2023م، الرابط:  https://st-takla.org/Full-Free-Coptic-Books/FreeCopticBooks-002-Holy-Arabic-Bible-Dictionary/22_K/K_101.html

[8] - عبير سهام مهدي: (التعصب في الفكر الصهيوني)، رسالة ماجستير (غير منشورة)، مقدمة إلى كلية العلوم السياسية/ جامعة بغداد، 2001م، ص50 . 

[9] - ينظر: عبير سهام مجدي: أرض الميعاد في الفكر الإسرائيلي المعاصر، دار الجنان للنشر والتوزيع، عمان (الأردن) 2015م، ص15- 18.

[10] - [التكوين: 12/ 1- 3].

[11] - [التكوين: 12/ 2، 7].

[12] - [التكوين:13/ 14- 15].

[13] - [التكوين: 15/ 18].

[14] - [التكوين: 26/ 3].

[15] - [التكوين: 35/ 12].

[16] - [التكوين: 6/ 4].

[17] - [العدد: 34/ 1- 2].

[18] - [التثنية: 11/ 24].

[19] - ما يلي من نقاط مقتبس من: عبير سهام مجدي: أرض الميعاد في الفكر الإسرائيلي المعاصر، دار الجنان للنشر والتوزيع، عمان (الأردن) 2015م، ص17، 18.

[20] - ينظر: [التكوين: 12/ 7، 22/ 17].

[21] - ينظر: أرض الميعاد في الفكر الإسرائيلي المعاصر، مرجع سابق، ص 18، نقلا عن: كولن تشامبن: أرض الميعاد لمن: الصراع الفلسطيني

    الإسرائيلي المستمر، سلسلة عين، الشركة العالمية للكتاب، لبنان 2004، ص261، 543.  

[22] - نديم الجابري: الأصولية اليهودية، مؤسسة الفضيلة للدراسات والنشر، بغداد 2006م، ص92.

[23] - نظر: [التكوين: 27/ 7].

[24] - عبد الوهاب المسيري: الجماعات الوظيفية اليهودية (نموذج تفسيري جديد)، دار الشروق، القاهرة 2002م، ص60.    

طباعة