مدى قدرة الحضارة الإسلامية على المواجهة

  • | الثلاثاء, 14 يونيو, 2016
مدى قدرة الحضارة الإسلامية على المواجهة

بسم الله الرحمن الرحيم

من المقطوع به تاريخيًّا، أن الفكر الإسلامي بثوابته، وأصوله المستقرة، ذو هوية خاصة، وطبيعة فريدة، لا تتأثر بالغير، وإنما قد تؤثر فيه، والتاريخ أثبت أن حضارة الإسلام تتعامل مع الآخرين، ولا تذوب حتى في أشد الأزمات، ويرجع ذلك إلى ما يأتي:

1-أن قيم الإسلام قيمٌ فطرية، تتوافق وفطرة الناس جميعًا، بمعنى أنها تتعدى حدود المحلية إلى العالمية؛ لأن الخطاب القرآني نزل ليحمل القيم لكل الناس، أيًا كان موطنهم، أخذًا من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168].، وقوله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].

ومن هذا المنطلق يتعاظم دور الأمة الإسلامية في المحافظة على هويتها الثقافية وسط هذا الطوفان القادم من كل الثقافات، لتحميها من الثقافات الوافدة الخارجة عن القيم الإنسانية، لكي تنهض بحضارتها المتميزة لتأخذ مكانها اللائق، وفقًا لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110].

وهذا يقتضي أن تراجع موقفها لما هي عليه في الحاضر، وما تكون عليه في المستقبل من حيث الكيان وإثبات الوجود، والأخذ بأسباب التكتل حتى تقوى على التحدي الحضاري، عملا بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].

2- الحضارة الإسلامية، هي الحضارة الوحيدة التي تجمع بين عناصر البقاء والتجديد في عالم اليوم والغد؛ لأنها ترتكز على قاعدتين أساسيتين:

القاعدة الأولى: ختميّة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مما جعلها تملك مقومات الخلود والبقاء، والدليل على ختمية الرسالة، قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40].، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ "مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ "([1]).

ومما يُعضّد هذا أن شريعة الإسلام تجمع بين الثبات والتجديد، لتوائم معطيات كل عصر إلى يوم الدين.

القاعدة الثانية: عالمية رسالة الإسلام، ومقتضى ذلك أن قيمها وأحكامها عابرة للحدود، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، وأنها جاءت مراعية لمصالح الإنسان أيًا كان، ملبيةً لرغباته المشروعة في إطار الحلال والحرام.

والأدلة على عالمية رسالة الإسلام جاءت في الكتاب والسنة:

فمن الكتاب: قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]،  وقوله عز وجل: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]. والمعنى الجامع لذلك..ما أرسلناك إلا لتكون لكل الناس بالإنذار والبلاغ([2]).

وقد سجل القرآن الكريم بشارة عيسى عليه السلام – في رسالته لبني إسرائيل- برسالة محمد صلى الله عليه وسلم الخاتمة، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6]. وأحمد مشتق من مادة الحمد التي منها محمد.

ومن السنة: ما رواه أبو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ "([3]).

 

 

 

معالم الحضارة الإسلامية:

 من خلال عالمية الإسلام وختمية رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تبرز معالم الحضارة الإسلامية كعنوان  لقوة هذه الحضارة وثباتها وقدرتها على التعامل مع ثقافة الحضارات الأخرى دون أن تفقد هويتها.. ويمكن إجمال هذه المعالم فيما يلي:

1-الحضارة الإسلامية قائمة على ثوابت محفوظة بالوحي الإلهي، تتمثل من وجه، في عقيدة تفرّدت في الإسلام بالوحدانية، أخذًا من قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}[الكهف:110].

فإذا كان الإذعان في الإسلام لقوة إلهية تملك مفاتيح الغيب وبيدها مقادير كل شيء، فإن ذلك أدعى لبعث الاطمئنان، وخلق روح التفاؤل لدى الموحدين دائما؛ لأنهم ركنوا إلى الذي يملك سنة التغيير والتبديل أخذًا من قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].

والتوحيد هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، لقوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[الروم:30].

ومن وجه آخر: تتمثل الحضارة الإسلامية في شرائع عادلة تجمع بين خلق الله تعالى في العبادات وبين حق العباد في المعاملات والأخلاق والآداب وغيرها. قال تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10].

وذلك أدعى أن يراقب الضمير الديني – بعد الامتثال في العبادات-  حقوق العباد في المعاملات، وأن يراعي الآداب والأخلاق، بل إن حقوق العبد في الشريعة الإسلامية، نالت مساحة أوسع في الخطاب الإسلامي مما يدل على اعتناء الحضارة الإسلامية بالجانب الإنساني في التشريع.

2- من معالم الحضارة الإسلامية، تعدد مصادر الفكر فيها مما يؤكد مرونة أحكام الشريعة، لأنها قائمة على نصوص شرعية قطعية الثبوت والدلالة، وأخرى قطعية الثبوت ظنية الدلالة، وجميعها مأخوذة من القرآن والسنة والإجماع والقياس، فضلًا عن اعتمادها على المصادر التبعية لسد حاجة الناس في التشريع لمتطلبات الحياة المتجددة كالاستحسان والمصالح المرسلة، والعرف، وسد الذرائع، في نفس الوقت تبنى جزئياتها على قواعد كلية لتستوعب المستجدات وتتعامل وظروف الناس في كل زمان، كقاعدة: "الضرر يزال"، وقاعدة: "المشقة تجلب التيسير"، وقاعدة: "درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة"، وغير ذلك كثير، كقاعدة: "الأصل في الأشياء الإباحة"، وقاعدة: "العادة محكمة"؛ ولذلك فهي تجمع بين الثبات والتطور لتوائم معطيات كل عصر، وتسع كل ما تقدم في العلم والسياسة، وكل جديد في واقع الناس.

أي أنها تضم الثابت الذي جاء بنصوص قطعية مفصلة، لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، ولا بالأحوال والأشخاص، وإنما هي صالحة لكل الناس، وتتميز بأن النص فيها حاكم، يطبق في كل الأزمان وعلى كل الناس، لا تحدوه حدود، ولا تمنعه فواصل، كفرائض الإسلام في العبادات، والمواريث، والزواج، والطلاق، والجرائم والحدود، وغير ذلك مما هو ثابت بنصوص الكتاب والسنة.

كما تضم المتغيّر من الأحكام استنباطًا من النصوص المجملة الحمّالة الأوجه، والقواعد الكلية التي تبنى عليها أحكام الجزئيات، وهذا النوع هو الأساس الذي يقوم عليه الاجتهاد لاستنباط أحكام تناسب الواقع وظروف الناس؛ مما يدل على مرونة التشريع الإسلامي، وأنه يفسح المجال للمكلفين لتوفيق أوضاعهم وفقًا لأحكام الشرع، وقد أفصحت عن ذلك نصوص القرآن والسنة.

منها قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، وقوله عز وجل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159]؛ فاللفظ هنا مجمل وترك تفصيله، وكيفية تنظيم أمر الشورى، لاجتهاد أهل الحل والعقد، وفقًا لظروف العصر وأحوال الناس، وهو واقع تكشف عنه تطبيقات الشورى في كل دول العالم الإسلامي.

ومنها، دفع المشقة في التكاليف، ورفع الحرج عند الضيق، وإباحة المحظورات عند الضرورة أخذًا من قوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، وقوله عز وجل: {يرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقوله سبحانه: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173]. مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"، فهذه النصوص تثبت مبدأ الشريعة في السعة، ومراعاة ظروف الناس في وقت الضيق، لرفع الحرج عنهم، وإرادة اليسر بهم؛ لأن الأصل في المضار والمشاقّ ألا تكون مشروعة.

وهذه الخاصيّة التي تفرد بها الفكر الإسلامي من خلال مرونة الشريعة، إنما تضمن له بجانب البقاء والأصالة، التجديد والتطور، للتأقلم مع الواقع ومعايشة العصر، مما يؤكد عالمية الإسلام، وصلاحية شريعته لكل الأمكنة والأزمان؛ لأنها بجانب العدل والرحمة، تعتني بأسباب الصلاح ومد جسور المودة.

قال ابن القيم – رحمه الله-:"إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة"[4].

فشريعة بمثل ما وصف ابن القيم جديرة بأن تكون أحكامها عابرة الحدود لتناغمها ومصالح كل الناس، وأن تكون حضارتها قادرة على التعامل مع مفردات الحضارات الأخرى.

3- من أبرز معالم الحضارة الإسلامية أن جذورها امتداد طبيعي لرسالة الأنبياء جميعا؛ لأن دينهم هو دين الإسلام، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19]، وأن شريعته جمعت رسالات الأنبياء، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرائد الأول لها. جاء ذلك في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].

وهذا يدل على أن رسالة الإسلام وحضارتها، إنما جاءت لتبقى؛ لأن معطياتها متجددة وأصولها محفوظة بحفظ الله للقرآن الكريم وفقًا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].

والحاصل أنه من الأمانة أن تراجع الأمة الإسلامية نفسها، وتضبط إيقاعها مع إيقاع حضارة الإسلام الخالدة، وحركيّة منهجها العابر للحدود، فتحمل على عاتقها تصدير هذه الحضارة وبث مفرداتها عن طريق الإعلام لمجابهة الإفرازات الناتجة عن ظاهرة العولمة؛ لأن الله عز وجل ربط بقاء الأمة والتمكين لها في الأرض، بأداء عناصر التكليف الإلهي لرموز الأصالة في الحضارة الإسلامية، جاء ذلك في قوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40،41].

 

 

 

([1])  أخرجه البخاري في صحيحه (4/186- رقم: 3535).

([2])  تفسير القرطبي (8/5570).

([3])  رواه مسلم في صحيحه (1/371- رقم: 523).

[4]إعلام الموقعين (3/14).

طباعة
كلمات دالة: