دعوى جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيوني.. الهدف والإجراء والنتائج المتوقعة

  • | الجمعة, 26 يناير, 2024
دعوى جنوب إفريقيا ضد الكيان الصهيوني.. الهدف والإجراء والنتائج المتوقعة

قراءة في تقرير الدياريو الإسبانية عن الدعوى الدولية ضد الكيان الإرهابي

لا يزال العدوان الإسرائيلي الآثم يحصد أرواح الفلسطينيين العُزَّل. ومن المقرر أن تصدر محكمة العدل الدولية قريبًا حكمًا تدعو فيه إلى وقف القتال، وقد اكتسبت دعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية -للمطالبة بوقف العمليات القتالية- أهمية كبرى، لكن ربما يكون من المستحيل حسم الموضوع في ١٥يومًا. في المقابل، أعلن "الكيان الصهيوني" تشكيل فريق للدفاع في لاهاي، في تراجع واضح عن سياسة استمرت مدة عقود تتمثل في مقاطعة أعلى محكمة في الأمم المتحدة والقضاة الخمسة عشر الذين يمثلونها.

وقد تطرق تقرير صحيفة الدياريو الإسبانية إلى مطلب جنوب إفريقيا بإصدار أمر قضائي مؤقت يتماشى مع الاتجاه العام لمحكمة العدل الدولية لإصدار أحكام من هذا النوع. وقد طلبت الأطراف (وأُجيبَت إلى) استصدار أوامر قضائية في السنوات الماضية؛ ففي العقد الماضي أصدرت المحكمة أوامر قضائية في ١١قضية، مقارنة بعشر قضايا في الخمسين سنة الأولى من تأسيس المحكمة (١٩٤٥-١٩٩٥). وتهدف تلك الأوامر القضائية المؤقتة إلى تجميد الوضع القانوني بين الأطراف لضمان نزاهة الحكم النهائي في المستقبل؛ أي إن شأنها في ذلك شأن الأوامر الصادرة عن المحاكم الوطنية.

استمرت الشكوك لبعض الوقت في ما إذا كانت محكمة العدل الدولية تعتبر هذه الأوامر ملزمة، لكن المحكمة بددت تلك الشكوك في حكم "لاغراند" (بين ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية) الصادر في يونيو ٢٠٠١، إذ قررت فيه أن الأحكام ملزمة، نظرًا "للوظيفة الأساسية المتمثلة في إصدار قرار قضائي في المنازعات الدولية" للمحكمة.

أَمَا وقد تقررت إلزامية تلك الأوامر، يظل السؤال: هل هي حقًّا كذلك؟

بحسب دراسة المحامي الأمريكي "ماتي أليكسيانو"، فقد التزمت الدول الأطراف بأوامر المحكمة في ٥٠٪ فقط من القضايا، فيما شهدت بعض القضايا تحديًا من الدول الصادرة ضدها أوامر المحكمة – وهذا ما جرت به العادة في القضايا الأكثر شهرة، مثل قضية أوكرانيا ضد روسيا في عام ٢٠٢٢، ودعاوى الإبادة الجماعية التي أطلقتها غامبيا ضد ميانمار في عام ٢٠٢٠، وناغورنو كاراباخ والعقوبات الأمريكية على إيران. وليس من المستغرب أنه كلما كان قرار المحكمة أشد تدخلًا في السيادة الوطنية لدولة ما، تراجعت احتمالات امتثال الدولة للحكم الصادر.

وبقطع النظر عن التزام "الكيان الصهيوني"، من عدمه، بقرار محكمة العدل الدولية، والتوقف عن الجرائم المصنفة تحت بند الإبادة الجماعية، لا يمكن تجاهل تأثير الحكم في مكانة الكيان الصهيوني. ولأن إسرائيل اختارت الدفاع عن نفسها أمام محكمة العدل الدولية، وهي هيئة ترعاها الأمم المتحدة، وأنها من الدول الموقعة على اتفاقية تجريم الإبادة الجماعية، فإن هذا يزيد في صعوبة تجاهل قرار المحكمة ضدها.

والسؤال: ما احتماليات صدور حكم ضده؟

قبل الإجابة، تجدر الإشارة إلى إحكام جنوب إفريقيا أوراق الدعوة المرفوعة أمام محكمة العدل الدولية؛ إذ تتسم بقوة الوثائق والأسانيد القانونية، وهي مؤلفة من ٨٠ صفحة، ومليئة بإشارات مفصلة إلى كبار مسئولي الأمم المتحدة وتقاريرها، ونادرًا ما تحيد عن هدفها الأساس المتمثل في إثبات انعقاد نية الكيان على ممارسة الإبادة الجماعية، والأهم استنادها إلى حكم محكمة العدل الدولية بشأن الأوامر القضائية المؤقتة في قضية غامبيا ضد ميانمار في عام ٢٠٢٠؛ علاوةً على تفوق فريق المحامين الذي يمثلون جنوب أفريقيا أمام المحكمة.

ووفقًا للطلب، فإن "أفعال الكيان الصهيوني وتجاهلها [...] يدخل في إطار الإبادة الجماعية، لأنها ترتكب بنية محددة مقصودة [...] لتدمير السكان الفلسطينيين في غزة بوصفها جزءًا من الجماعة الوطنية العرقية الفلسطينية"، وأن "سلوك الكيان الصهيوني -من خلال أجهزته ومسئوليها وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناءً على تعليماتها، أو تحت توجيهاتها، أو سيطرتها، أو نفوذها- تجاه الفلسطينيين في غزة يشكل انتهاكًا لالتزاماتها بموجب اتفاقية تجريم الإبادة الجماعية".

ما يتوقف عليه الأمر بوقف القتال

بمقدور جنوب إفريقيا التقليل من أدلة الإثبات قبل أن تأمر المحكمة بالتهدئة المؤقتة، وربما تستبعد بعض الملفات القضائية بتقديم طلب أمر قضائي إلى المحكمة بموجب المادة ٧٤بدلًا عن استصدار حكم نهائي. وتبرهن جنوب إفريقيا على أن "المحكمة ليست مطالبة بإثبات وجود أي انتهاك لالتزامات الكيان الصهيوني بموجب اتفاقية تجريم الإبادة الجماعية"؛ بل "تجدر الإشارة إلى أن المحكمة اطمأنّت سابقًا إلى استنتاج مفاده أن بلوغ عقيدة محددة حيال تقييم وجود نية للقضاء على الفلسطينيين، كليًّا أو جزئيًّا، إنما هي عقيدة لا يمكن أن تتشكَّل لدى المحكمة إلا في مرحلة النظر الممعن في صلب موضوع الدعوى". لذلك، "فما تلتزم المحكمة بفعله في مرحلة إصدار أمر قضائي مؤقت هو تحديد ما إذا كانت الممارسات موضوع الادعاء يمكن أن تندرج ضمن أحكام اتفاقية تجريم الإبادة الجماعية". وعلى ذلك، "فلا يتعين على المحكمة الفصل في انضواء جميع الممارسات موضوع الادعاء تحت أحكام الاتفاقية"، بل يكفي أن "يكون بعضها على الأقل مشمولاً بأحكام الاتفاقية".

وبالمثل، لا إلزام على المحكمة بتحديد ما إذا كان وجود نية الإبادة الجماعية هو الاستنتاج الوحيد الممكن من مُحترزات الدعوى، لأن "هذا الشرط من شأنه أن يرقى إلى مستوى اتخاذ المحكمة قرارًا بشأن الموضوع الأساس للقضية". وعلى ذلك، تسعى جنوب إفريقيا إلى إثبات أن التدابير التي اتخذها الكيان الصهيوني تتجاوز نطاق الدفاع المشروع عن النفس وتهدف إلى القضاء على السكان الفلسطينيين. لذا تتناول الدعوى تفاصيل عدد القتلى المعلن عنه -رغم أنه صادم- والتهجير القسري، والحرمان من الطعام، والقيود المفروضة على حالات الولادة من خلال الهجمات على المستشفيات، مؤكدة أنها أدلة كافية لاستنتاج نية الإبادة الجماعية الواضحة.

وتضيف الدعوى عنصرين آخرين: هما (١) مستوى الهجوم على الحياة الثقافية الفلسطينية، و(٢) مستوى تحريض المسئولين الصهاينة -دونما لوم- مرارًا وتكرارًا على القضاء على جميع السكان الفلسطينيين، لا على عناصر حماس وحدها. .ما تورد جنوب إفريقيا أمثلة عديدة على "التحريض المباشر العلني من مسئولي الكيان على ارتكاب الإبادة الجماعية"، بمن فيهم رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" نفسه. لذلك تخلل هذه الدعوى القضائية توثيقُ التهديدات بتخريب غزة، وجعلها غير مؤهلة للسكنى، والإشارات إلى الفلسطينيين على أنهم "حيوانات بشرية". كما ارتكنت الدعوى إلى دعوات الوزراء اليمينيين المتطرفين "بتسلئيل سموتريتش" و"إيتامار بن غفير" لتوطين الفلسطينيين خارج غزة.

أما داخل الكيان الصهيوني فكتب مسئولون سابقون إلى المدعي العام "غالي باهاراف ميارا"، داعين إلى اتخاذ إجراءات ضد المسئولين الحكوميين والسياسيين المنتخبين الذين دعوا إلى التطهير العرقي. ومن بين الموقعين على هذا الطلب السفير السابق د. "ألون ليل"، والبروفيسور "إيلي بارنافي"، و"إيلان باروخ"، و"سوزي بشار"؛ مؤكدين أن "الدعوات الصريحة لارتكاب فظائع ضد ملايين الأشخاص أصبحت، لأول مرة، جزءًا مشروعًا وعاديًّا من الخطاب الصهيوني".

لعل هذا النوع من الأدلة نابع من تشاؤم صهيوني جديد بشأن إمكانية السلام، وهو نفسه قد يشكّل عقيدة الحُكم لدى القضاة بأن إسرائيل تعتقد أن أمنها يعتمد على طرد الفلسطينيين من غزة. ولكن ثمة تصريحات كثيرة لمسئولين صهاينة ضد هذا الرأي، وسيتعين على المحكمة أن تدرس هذه التصريحات. ويُعتبر إحجام حكومة نتنياهو، لأسباب سياسية داخلية جزئيًّا، عن مناقشة خططها "لليوم التالي" من أسباب تعقيد مهمة المحكمة في استجلاء النوايا الجماعية للكيان.

الدفاع الصهيوني

استعرض المتحدث الصهيوني "إيلون ليفي"، بمجهود خطابي كبير، رد كيانه على المحكمة، مع التركيز على حقها في الدفاع عن نفسها والإجراءات المبتكرة المتخذة للحد من الخسائر في صفوف المدنيين. ومع ذلك، بدأ ليفي بالتساؤل عما إذا كانت جنوب إفريقيا لديها خصومة حقيقية مع الكيان المحتل، وكذلك بالتشكيك في حسن نوايا جنوب إفريقيا إزاء معارضة الإبادة الجماعية، نظراً لدعمها في دارفور للرئيس السوداني السابق عمر البشير. ومن وجهة نظره، فإن جنوب إفريقيا تتصرف بصفة المحامي المجاني عن آلة الإبادة الجماعية والانتهاكات التي تمارسها حركة المقاومة الفلسطينية "حماس".

وقد حاولت جنوب إفريقيا حماية نفسها من هذا المأخذ من خلال انتقاد "حماس" على هجوم ٧ من أكتوبر ٢٠٢٣، وإرسال مذكرة رسمية إلى الكيان الصهيوني قبل الدعوى القضائية وقالت إن الكيان لم يرد عليها حتى الآن. ويؤكد المتحدث الرسمي أن كلا البلدين موقعان على اتفاقية الإبادة الجماعية لعام ١٩٤٨، التي تنص على قبولهما اختصاص محكمة العدل الدولية ترتيبًا على ذلك الانضمام. ويقول "ليفي": إن الكيان اتخذ خطوات غير مسبوقة في تاريخ الحرب لتقليل الخسائر في صفوف المدنيين، مضيفًا: "لقد أوضحنا بالقول والفعل أن هدفنا هو الوحوش الذين [نفذوا هجمات] السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، ونحن نبتكر أساليب للدفاع عن القانون الدولي، بما في ذلك مبادئ التناسب، والاحتياط، والتمييز في سياق معركة ضد الإرهاب لم يواجهها أي جيش من قبل".

كما أضاف: "لهذا السبب أمضينا أسابيع في حث الناس في شمال غزة على الإخلاء قبل الهجوم البري. ولتحذير المدنيين، أجرينا أكثر من ٧٠ ألف مكالمة هاتفية، وأرسلنا ١٣ مليون رسالة نصية، وتركنا ١٤ مليون رسالة صوتية، وأسقطنا ما يقرب من ٧ ملايين منشور لحث المدنيين على الإخلاء مؤقتًا حفاظًا على سلامتهم، وأبلغناهم بالتوقف الإنساني، وطرق الإخلاء الدقيقة". وواصل ليفي دفاعه قائلاً: "ولتحقيق هذا الأمر، خصصنا ممرات إنسانية للمدنيين للهروب من حماس، وخصصنا خطوطًا هاتفية مساعدة للمدنيين الفلسطينيين لإبلاغ جيشنا إذا منعتهم حماس من الفرار، وعلى ذلك حددنا منطقة إنسانية في المكان الوحيد في غزة الذي تختبئ فيه حماس خلف السكان المدنيين". واستطرد: "إن آلة الاعتداء التابعة لحماس تتحمل المسئولية الأخلاقية الكاملة عن جميع ضحايا هذه الحرب التي شنتها في ٧ من أكتوبر ٢٠٢٣، داخل المدارس، والمساجد، والمنازل، ومنشآت الأمم المتحدة".

وبناء على متابعة مرصد الأزهر للقضية، خصوصًا في المرحلة الحالية، فإنه يرى أن هذا التصعيد القضائي برغم انفراد جنوب إفريقيا به فإنه لا شك بادرة أمل لمنحى جديد قد يعتري القضية برمتها، وأن حملها إلى ساحات القضاء يكشف استعار الغضب الذي يعتري العالم كله جراء إجرام الكيان الإرهابي. ومن جهة أخرى، فإن تسجيل الممارسات الإجرامية التي تهدف إلى رصد الإبادة الجماعية تسجيلاً منظمًا، وتحرير صحائف الاتهامات هو إضافة أخرى جديدة إلى تاريخ القضية، ليبرز الإعلام الآن بوصفه طرفًا في هذا الصراع الممتد.

وحدة رصد اللغة الإسبانية

طباعة