حظر المظاهر الدينية داخل المدارس الغربية وإحياء نظرية "أورابيا": دراسة تحليلية

  • | الأربعاء, 31 يناير, 2024
حظر المظاهر الدينية داخل المدارس الغربية وإحياء نظرية "أورابيا": دراسة تحليلية

مقدمة

تبرز في البلدان الغربية من آن لآخر قضية ترتبط من قريب أو من بعيد بشئون المسلمين في القارة، فتُحيي نظرية "أورابيا"([1]) "Eurabia" من جديد، وهو مصطلح مستحدث ومنحوت من جُملة "عَوْرَبَة أوروبا"، ويستخدمه اليمين المتطرف إشارة إلى التخوف من هاجس تعريب أوروبا وأسلمتها والقضاء على الثقافة الأوروبية. كما تطرح هذه القضية تساؤلًا عن مدى توافق الإسلام مع قيم المجتمع الأوروبي، وما إذا كانت ممارسة الشعائر الدينية على الأراضي الأوروبية تشكل انتهاكًا لمبادئ الحرية والعيش المشترك، أم لا؟ وقد وضعت هذه القضايا عددًا من القيم التي تنادي بها الدول الأوروبية على المحك، مثل التنوع الديني والثقافي، ومبدأ العلمانية والحيادية، والحق في التعليم داخل بيئة تعليمية آمنة، والمساواة بين الجنسين، والحرية الدينية.

إن المتأمل في آلية التطرف ومحركها الرئيس ليقف حائرًا أمام الشرارة التي انبثق منها هذا الفكر، ويتساءل: هل هذا التطرف نتاج دوافع خارجية أثرت في الفرد، أم أن مرجعه إلى عوامل نفسية وسلوكية شاذة عند الفرد؟! من خلال البحث نجد أن التطرف -مع تنوع أشكاله- لابُد له من دوافع؛ لأن الشخص المتطرف لا يُولد بهذا الفكر، بل يظل سويًّا حتى تؤثر فيه هذه الدوافع مجتمعة أو متفرقة تأثيرًا تدريجيًّا بشكل أو بآخر، كما أن تأثيرها يختلف من مكان لآخر طِبقًا للبيئة الحاضنة للشخص المُحتَمل سقوطه في براثن التطرف. فربما كان دافع التطرف عند الفرد البيئة التي يعيش فيها، أو ما يُحيط به كالمؤسسات التعليمية والتربوية، أو الأسرة، أو دور العبادة، أو مستوى المعيشة.

ولا شك أن المدارس الأوروبية تواجه تحديًا كبيرًا على مدار الأعوام الماضية في ظل هذه البيئة المتعددة الثقافات، والإثنيات، والأديان، حتى باتت مهمتها شاقة في بناء الروح الإيجابية المرجوة لدفع تلك الثقافات، والأعراق، والأديان إلى الاندماج، والتعايش السلمي داخل نسيج مجتمعي واحد يؤمن بالتعددية وقبول الآخر. ولكن رغم سياسة الحيادية التي تنادي بها كل الدول الأوروبية، نجد كثيرًا من القضايا الملموسة التي تمخضت عنها قوانين وتشريعات تعمل على إقصاء فصيل من النسيج المجتمعي داخل تلك المدارس، وذلك من خلال تضييق الحريات على بعض الطلاب، بحجة حظر الرموز والملابس التي تعبر تعبيرًا ظاهرًا عن الانتماء الديني. ويبدو الأمر كأنه استهداف لنسيجٍ أصيلٍ من أنسجة المجتمع الواحد للحد من حرية أفراده في ممارسة شعائرهم الدينية، وانتهاك للحيادية يُعارض مبدأ المساواة، وعدم التمييز. فإلى أي مدى يتماشى هذا الحظر مع الحرية الثقافية، أو الدينية، أو حتى مع أبسط الحقوق الإنسانية؟!

كان التعليم وسيظل حائط الصد المنيع ضد الأفكار الشاذة والمتطرفة، لأنه الوسيلة الناجعة في ﻓﻬﻢ اﻟﺘﻨﻮع اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، واﻟﺜﻘﺎﻓﻲ، واﻹﺛﻨﻲ، واﻟﺪﻳﻨﻲ ﻓﻲ المجتمع الذي يعيش فيه الفرد، سواء أكان مجتمعه الأم، أم لا؛ الأمر الذي يدفع كل الدول إلى الارتقاء بمستوى التعليم من خلال وضع مناهج تربوية تعليمية شاملة تهدف إلى تعليم الطلاب احترام إنسانية الفرد، وتقبل الاختلاف في الرأي، والتسامح، وإعلاء قِيمة الحوار؛ إذ إن التعليم هو العامل الرئيس في تحصين النشء والشباب من الأفكار المغلوطة، وغرس قِيم المواطنة، والتعايش، والوسطية، وقبول الآخر، ونبذ التعصُّب، والكراهية، والتطرف من خلال مناهجه السويَّة التي تُغلق الباب أمام عوامل التطرف.

 

الإشكالية

تكفل كل المواثيق والدساتير الدولية والمحلية حق الشعوب في التعليم داخل بيئة تعليمية آمنة تعمل على نبذ كل أشكال التمييز، وتوفر المساواة المثالية في فرص التعليم بقطع النظر عن العرق، أو الجنس، أو اللون، أو الدين، أو اللغة. وبدلًا من أن تكون المدارس بيئة تعليمية آمنة، تفرض بعض الدول الأوروبية تشريعات وقوانين داخل المدارس بحجة المحافظة على علمانية الدولة وقيمها الدستورية. لكن تلك التشريعات تفضي إلى التمييز بين الطلاب، وإقصاء فئة منهم؛ ما يجعلها بيئة تعليمية غير آمنة، وربما حاضنة للأفكار الشاذة والمتطرفة، الأمر الذي يؤثر سلبيًا في المجتمع المحيط بها.

نجد على سبيل المثال أن فرنسا فرضت حظرًا صارمًا على ارتداء الرموز الدينية داخل المدارس الفرنسية، وعلى رأسها الحجاب عام ٢٠٠٤، وأقرت أيضًا حظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة في ٢٠١٠ بحجة الدفاع عن العلمانية. وفي عام ٢٠١٦، حظرت فرنسا ارتداء "البُركيني" على بعض الشواطئ ([2]). واليوم، تتخذ حكومة فرنسا خطوة أخرى نحو حظر ارتداء الرموز والملابس الكاشفة للانتماء الديني؛ إذ قرر وزير التربية الوطنية الفرنسي "غابريل آتال" حظر ارتداء العباءة والقمصان الطويلة داخل المدارس قبيل بدء العام الدراسي الجديد في الرابع من سبتمبر ٢٠٢٣، معللاً ذلك باسم العلمانية، وهو القرار الذي أقرته أعلى محكمة فرنسية وأكدته يوم الخميس الموافق ٧ من سبتمبر ٢٠٢٣؛ إذ يرى أنصار هذا الحظر أنه تذكير حميد بالعلمانية، في حين يرى منتقدو الحظر أنه ستارٌ من الدخان يهدف إلى إخفاء مشكلات التعليم الوطني، أو تأجيج ظاهرة "الإسلاموفوبيا". من هنا يتبين وجود جدل آخر بشأن الإسلام والمسلمين؛ يصمهم بالانعزالية، وعدم القدرة على الاندماج والتعايش. فأي سلطة في الجمهورية الفرنسية العلمانية قررت أن "العباءة" مظهر ديني إسلامي، في حين أنها ليست سوى ثوب بسيط؟!

من جانبه ذكر "مجلس الدولة" الفرنسي في بيانه([3]) أنه "بعد البحث والتحقيق، رأت المحكمة أن قرار الحظر المفروض على ارتداء العباءة والقمصان الطويلة لا يشكل انتهاكًا صريحًا للحياة الخاصة، ولا يُحد من حرية ممارسة الشعائر الدينية، ولا يمثل مساسًا بالحق في التعليم، ولا يتعارض مع المصالح العليا للطفل، أو مبدأ المساواة وعدم التمييز". وأشار مجلس الدولة في حيثيات الحكم إلى المادة الأولى من القانون الصادر بتاريخ ١٥ من مارس ٢٠٠٤، وإلى المادة رقم (L141-5-) من اللائحة التنظيمية للتعليم الوطني، التي تنص على أنه "يُسمح للطلاب بارتداء الرموز الدينية غير الظاهرة، دون سواها". ومن ثم، ترى المحكمة أن "ارتداء الثياب ذات الطابع الديني الواضح يُعد مظهرًا مؤكدًا للانتماء الديني... الأمر الذي يعد انتهاكًا صريحًا للحريات التي تكفلها وزارة التربية الوطنية". وبهذا القرار لم يضع "مجلس الدولة" تعريفًا واضحًا يحدد فيه طبيعة العباءة، وهو ما دفع "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" (le CFCM) إلى التدخل، واعتباره ثوبًا تقليديًّا لا يُعبر عن الانتماء الديني.

لذلك، نعرض في ما يلي سياسات بعض الدول الغربية تجاه "حظر ارتداء الرموز الدينية داخل المدارس":

 

فرنسا

على الصعيد الفرنسي، رحب الرئيس "إيمانويل ماكرون" بقرار حظر ارتداء العباءة والقمصان الطويلة داخل المدارس، ودعا إلى التعامل بحزم في تطبيق هذا القرار، مع مساندة المدراء، والمدرسين في مواجهة التحديات التي تعيق تطبيق هذا القرار. وأكد "ماكرون" أن قرار حكومته يهدف إلى الدفاع عن العلمانية ومبادئ الجمهورية الفرنسية، مذكرًا في الوقت نفسه بالهجمات الإرهابية التي شهدتها البلاد، لا سيما مقتل الأستاذ "صامويل باتي" ذبحًا قرب مدرسته، مضيفًا: "أنا لا أقارن بين أعمال الإرهاب، والزي الذي ترتديه بعض الفتيات المسلمات". وهو ما أكده في زيارة لمنطقة "بوم دو فينيس"، في جنوب شرق فرنسا، في الأول من سبتمبر ٢٠٢٣، لشرح السياق العام للأحداث التي جعلت حكومته تتخذ هذا القرار([4]).

وفي مقابلة للسيد "غابرييل آتال" على قناة BFM TV-RMC، أوضح أنه برغم التعليمات، فقد أقدم ٢٩٨ طالبة على ارتداء العباءة والحضور بها إلى المدارس، والتزمت أغلبية كبيرة جدًا بقرار الحظر، في حين رفض ٦٧ فتاة منهن الامتثال لقرار الحظر، وقررن العودة إلى منازلهن ([5]). وأوضح السيد "آتال" الإجراء الواجب اتباعه بالنسبة لمديري المدارس الذين يواجهون حالات الطالبات اللاتي سيرتدين هذا الزي التقليدي لدى مجيئهن إلى الدراسة، فقال إنه "سيُرحَّب بهن جيدًا قبل إجراء حوار معهن لنشرح لهن حيثيات قرار الحظر". ومن الممكن إرسال بريد إلكتروني إلى أولياء أمورهن؛ ثم أضاف: "سنقيم حوارًا لنشرح لهم حيثيات القرار... فالحوار ممارسة تربوية"([6]).

ووفقًا لما ذكرته محطة "أوروبا ١"، حاولت بعض الفتيات تحدي قرار الحظر خاصة في مدرسة "لامارتينيير الثانوية"، في منطقة "لا دوشير"، بمدينة "ليون"؛ إذ حضرت ١٢ طالبة يرتدين العباءة. وتمكنت الفتيات من دخول المدرسة، لكن سرعان ما أُخِذن إلى غرفة منفصلة لمقابلة اثنيْن من "ممثلي العلمانية([7])" إضافة إلى مدير المدرسة. ووافق ثلاث منهن على الفور على التغيير المطلوب، وبالتالي تمكنَّ من الانضمام إلى رفيقاتهن في غرفة الدراسة. أما التسع الأخريات فقد أُجبرن على البقاء في الغرفة، الأمر الذي لم يَرُقْ لـ "يسرا" البالغة من العمر ٢٠ عامًا، فقالت: "أشعر وكأنني أُعامل كحيوان. ولا أفهم حقًا منطقهم". كما أكدت تلك الفتاة الفرنسية المسلمة "إن لباسها ليس عباءة. بل فستان سميك وطويل إلى حد ما بأكمام قصيرة. إنها ليست عباءة على الإطلاق. العباءة ضيقة على الرسغ، وتغطي كل شيء"([8]).

وفي "مدرسة موريس أوتريلو"([9]) الثانوية، الواقعة في "سين–سان–دوني"، أضرب المعلمون اعتراضًا على "قرار حظر ارتداء العباءة داخل المدارس" لأنهم يرون فيه "معاداة للإسلام". وتظاهر أمام المدرسة عدد من المعلمين والطلاب وهم يحملون لافتات تعبر عن رفضهم قرار الحظر، كُتب عليها: "أنتن على حق يا فتيات، إنه مجرد فستان طويل"، و"الحرية تعني أيضًا ارتداء الملابس التي نريدها". كما وُجِدَت صورة مجمعة على جدار أزرق مكتوب عليها: "إن مقارنة فتيات المدارس الثانوية بالإرهابيين أمر محظور". وهذا الشعار صار يتردد صداه مع تصريحات "إيمانويل ماكرون" الحديثة التي أدلى بها، إذ أشار إلى الهجمات الإرهابية واغتيال المدرس "صامويل باتي"؛ لتبرير قرار الحظر.

وفي بيان صحفي منشور على شبكات التواصل الاجتماعي، أوضح معلمو "مدرسة موريس أوتريلو" الثانوية أنهم "ينأون بأنفسهم عن سياسة الحكومة المعادية للإسلام"، ويعلنون رفضهم التام "وصم" الطالبات اللاتي يرتدين العباءة، أو القميص الطويل بالانعزالية، وعدم القدرة على الاندماج، وخلق مجتمع موازٍ. وأضاف أحد المعلمين آسفًا عبر مكبر للصوت: "لا يسمعون صوت الشباب، ولا يدعمونهم أبدًا، بل يهتمون مرة أخرى بتحدي الجمهورية". وأضاف: "لدي الكثير من الصديقات اللاتي يرتدين العباءة".

وعلى هامش الحشد، تدعم كل من "ممتحنة" و"لورا"، البالغتيْن من العمر ١٦ عامًا، هذا الاحتجاج، وتأسف إحداهن (وهي ترتدي الجينز الفضفاض) للمستجدات، قائلةً: "لدي انطباع بأن المسلمين ما زالوا مستهدفين"، في حين تؤكد الفتاة الثانية "أنه مجرد فستان، ليس فيه أي مظهر ديني". وعلى مسافة ليست ببعيدة من هناك، راقب مجموعة من الطلاب الذكور حشدًا من الصحفيين في ساحة مدرستهم الثانوية، وهم يترددون في الإدلاء بشهادتهم. ثم بدأ أحدهم في الإدلاء بشهادته، وهو شاب يدعى "أبو بكر"، يبلغ من العمر ١٧ عامًا، فقال: "لدي الكثير من الزميلات اللاتي يرتدين العباءة. أنا أؤيدهن لأنها لا تعبر عن مظهر ديني، والحظر مبرر بأسباب دينية".

كما دعا ائتلاف "لا تمس عباءتي" (Touche pas à ma abaya) –الذي أُسِس في أعقاب تصريحات "غابريل آتال"، ويضم جمعًا من طالبات المدارس الثانوية، وعائلاتهن– إلى مظاهرة ضد السياسات التمييزية المعادية للإسلام، المتحيزة ضد النساء من منظور جنساني، وذلك أمام مدرسة "لابلين دو نوفل" الثانوية، في بلدية "تراب"([10]). وفي اتصال مع صحيفة "ريفولوسيون بيرماننت" الإلكترونية، أوضحت "إينيس"، وهي أم وعضو في الائتلاف، قائلةً: "لقد قررنا إدانة هذا الهجوم؛ لأننا نجده تمييزيًّا، ومعاديًا للإسلام، ومدمرًا للحريات أيضًا؛ لأنه يمنع الفتيات المسلمات الصغيرات من اختيار ملابسهنَّ، ويُشعرهنَّ بالقمع، والإذلال". وتستنكر هذه الأم الطبيعة العنصرية التمييزية لـ"سياسة الملابس هذه": "إذا كان اسمك "كاميل"، أو "فاطمة"؛ فالأمر يختلف! إذا كان اسمك "كاميل" فهو فستان! وإذا كان اسمك "فاطمة" فهو عباءة! لا أجد ذلك أمرًا طبيعيًّا"([11]).

جدير بالذكر أنه عقب إعلان قرار حظر ارتداء العباءة والقمصان الطويلة داخل المدارس الفرنسية، طلبت بعض وسائل الإعلام الفرنسية من "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية"  (le CFCM)الإفصاح عن موقفه تجاه تلك القضية، فأكد في بيانه([12]) الصادر في ١١ من يونيو ٢٠٢٣ أن المجلس "ليس لديه نية في الدفاع عن ارتداء ثوب معين، ولكن لديه واجب حتمي لدحض أي صلة خاطئة بين ارتداء ملبس ما وممارسة الشعائر الدينية الإسلامية. ومن واجبه أيضًا مكافحة أي شكل من أشكال التمييز الموجه خصوصًا ضد أي شخص بسبب تمسكه الحقيقي أو المفترض بالدين الإسلامي".

ومن جانبه يرى "غالب بن شيخ"، رئيس "مؤسسة إسلام فرنسا"، أن "العباءة ليست دليلًا على عدم توافق الإسلام مع قيم الجمهورية الفرنسية". كما يرى غالب أن من يستند إلى "العلمانية" في مواجهة ارتداء العباءة داخل المدارس الفرنسية، يُظهر خلطًا بين ما هو ثقافي، وما هو ديني. وفي مواجهة توترات الهوية، فإن الأولوية، وفقًا للمتخصص في العلوم الإسلامية، هي إحياء هذا المبدأ، والتعريف بتاريخه للطلاب بصورة أفضل([13]).

وفي ما يتعلق بموقف الساسة الفرنسيين من قرار الحظر هذا، قال السيد "مانويل بومبارد"، منسق حزب "فرنسا الأبية"، النائب عن إقليم "بوش دو رون"، في خلال لقاء له على قناة (سي نيوز) وقناة (أوروبا ١)، يوم الأربعاء الموافق ٣٠ من أغسطس ٢٠٢٣، إن "العباءة ليست رمزًا دينيًّا. وأن هذا القرار يفتح الطريق أمام أعمال التمييز بسبب الممارسة الدينية، بما يؤدى إلى تزايد وتيرة الأعمال المعادية للإسلام والمسلمين"، محذرًا من "وضع لوائح تنظيمية مبالغ فيها بخصوص ملابس النساء، لا سيما الشابات". وأضاف إن "المرجعيات الدينية في العقيدة الإسلامية تقول إن العباءات ليست زيًّا دينيًّا؛ ولذلك فأنا ملتزم بالدفاع عن العلمانية... ولا أرى سببًا لحظرها"، ويؤكد أن قرار وزير التربية الوطنية "لا يسبب سوى إثارة المخاوف والأوهام"([14]).

وردًّا على نائب حزب "فرنسا الأبية"، أدانت رئيسة الوزراء الفرنسية، السيدة "إليزابيث بورن"، خلال لقاء لها على قناة "آر تي إل"([15])، ما أسمته "محاولات الاستفزاز" و"التلاعب" وأي "وصم" بعد قرار منع ارتداء العباءة داخل المدارس الفرنسية مع بداية العام الدراسي الجديد، لا سيما من جانب حزب "فرنسا الأبية"؛ إذ صرحت قائلة: "أستطيع أن أرى التلاعب بوضوح، ومحاولات استفزاز من بعض الأشخاص، خصوصًا حزب فرنسا الأبية. لكنني أريد توضيح الأمر تمامًا: لا يوجد أي وصم. فكل مواطن من مواطنينا، مهما كانت ديانته، له مكانته في بلدنا"، وطالبت قائلة: "أوقفوا الإسلام السياسي"([16]).

من جانب آخر، تناولت عالمة الأنثروبولوجيا، "فلورانس بيرجود بلاكلر"، أصل هذا الزي وإساءة استخدامه من جانب "جماعة الإخوان المسلمين"، لجعله موضوعًا سياسيًّا؛ مشيرة إلى أن "الطبيعة المنظمة، والاتجاه التصاعدي في جرائم العلمانية يثير بالفعل مخاوف من عمل جماعي واسع النطاق لن يتمكن مديرو المدارس من التعامل معه دون المخاطرة بمؤسستهم وموظفيها"([17]).

وفي لقاء على برنامج "كوتيديان"، أصرت السيدة "ساندرين روسو"، نائبة "حزب الخضر" عن باريس، على معارضة قرار الحظر مجددًا، موضحةً أن الموضوع "ليس جوهريًّا بالنسبة للتعليم". وأكَّدت: "لا أعرف إذا كنا ندرك ذلك أم لا"، وأضافت أن "آلة إعلامية ووزارية يجري تحريكها" ضد ٢٩٨ طالبة فقط، من أصل ١٢ مليون طالبة. معربة عن أسفها قائلة: "لم يتساءل أحد عن دوافعهن، ولم نسمع أصواتهن، ولا نعرف ما الذي يبحثن عنه"([18]).

وعلى النقيض من ذلك، ساندت أحزاب "اليمين" و"اليمين المتطرف" قرارَ الحظر؛ فغرد السيد "إيريك سيوتي"، رئيس حزب "الجمهوريون" اليميني على إكس (تويتر سابقًا)، قائلًا: "الطائفية عبارة عن جذام يهدد الجمهورية. لقد طالبنا مرارًا بمنع ارتداء العباءة في مدارسنا. أحيي قرار وزير التربية الذي أنصفنا". وعلى المنوال نفسه، أكد "إيريك زيمور"، زعيم حزب "الاسترداد" اليميني المتطرف، أن "قرار حظر ارتداء العباءة خطوة جيدة في حال تطبيقه على أرض الواقع"؛ لمحاربة أسلمة البلاد. وأضاف: "طالبنا مع أولياء التلاميذ منذ شهور عديدة بمنع ارتداء هذا اللباس، بل الذهاب أبعد من ذلك بفرض زي رسمي موحد على كل التلاميذ؛ لوقف الاستفزازات الإسلاموية داخل المدارس"([19]).

 

كندا

وفي الإطار الكندي، نشر موقع "ذا سياسات ديلي" خبرًا يفيد بمناشدة ست منظمات إسلامية المحكمةَ العليا في البلاد لإعادة النظر في قرار وزير التعليم الكندي، السيد "برنارد درينفيل"، الذي يقضي بحظر أداء الصلاة داخل المدارس الكندية، وذلك بعد عدد من التقارير التي تفيد بأن ما لا يقل عن مدرستيْن سمحتا للطلاب بأداء الصلاة، وعلى إثر ذلك طالبت المنظمتان الإسلاميتان في مقاطعة "كيبيك" المحكمة العليا بإعلان عدم دستورية هذا القرار في المقاطعة، كما وصفت المنظمتان القرار بالتمييز، فضلًا عن انتهاكه للميثاق الكندي للحقوق والحريات. من جانبه دافع وزير التعليم الكندي عن قراره، مؤكدًا حظر أي نشاط ديني، سواء داخل المدارس، أو في مراكز التدريب، أو في مراكز تعليم البالغين، مشيرًا إلى أن "المؤسسات التعليمية لا يمكن استخدامها لأغراض الشعائر الدينية مثل: أداء صلاة الجماعة، أو غيرها من الممارسات الدينية"([20]).

واستنكرت عدة جاليات إسلامية قرار حظر المُصلَّيات داخل المدارس؛ إذ نشر موقع "سي بي سي" خبرًا يفيد بأن ممثلي أمناء عدد من مساجد "كيبيك" قد أصدروا بيانًا مشتركًا يناشدون فيه حكومة مقاطعة "كيبيك" العدولَ عن قرار حظر المساحة المخصصة لأداء شعيرة الصلاة داخل المدارس الابتدائية والإعدادية، كما أعربوا عن استياء الجالية الإسلامية من هذا القرار الذي صدر في منتصف شهر رمضان الماضي ١٤٤٤هـ، الموافق ٢٠٢٣، منتقدين صدور القرار دون مشاورة المنظمات الممثلة للجالية الإسلامية بالمقاطعة.

وبناء عليه، تدرس الرابطة الإسلامية فكرة رفع الأمر للقضاء، إضافة إلى التواصل مع كثير من قيادات المسلمين في "مونتريال". وأوضح أحد ممثلي الرابطة أنهم بصدد "دارسة القضية من الناحية القانونية، والسعي إلى وقف هذا القرار"، في حين صرح وزير التربية والتعليم في مدينة "كيبيك" الكندية، السيد "برنارد درينفيل"، أن "المدرسة ليست مكانًا للصلاة، وينبغي ألا يسمح لشخص أو لمجموعة باستخدام الفصل الدراسي غرفةً للصلاة؛ نظرًا لعدم توافق ذلك مع مبدأ العلمانية، وقانون علمانية الدولة". وأكد أن قرار الحظر خاص بالمدارس العامة دون الجامعات([21](.

 

أستراليا

في ما يتعلق بالقضية ذاتها في السياق الأسترالي، نشر موقع "ذا كونفرسيشن" مقالًا يتناول قانونًا جديدًا تسعى الحكومة الأسترالية إلى سنِّه من أجل حظر عرض "الرموز الممنوعة" في الأماكن العامة؛ وتضم تلك الرموز كلاً من رموز النازية وراية تنظيم "داعش" الإرهابي، ومن ثم فهذا القانون ربما يضع الجالية المسلمة في أستراليا في مرمى الاستهداف العدائي. ووفقًا لما ذكره المدير العام لوكالة "أسيو" (وكالة الأمن والاستخبارات الأسترالية)، السيد "مايك بورجيس"، فإن المشروع قُدِّم في البداية لمنع رموز النازية مثل الصليب المعقوف، وذلك لمكافحة أنشطة جماعات النازية الجديدة الصاعدة في أستراليا، إذ أصبحت تلك الجماعات الأكثر خطورة في ظل محاولاتها تجنيد أعضاء جدد، ونجاحهم في الظهور على الساحة.

لم تكن راية تنظيم "داعش" ضمن مشروع القانون في البداية، غير أن المدعي العام الأسترالي، "مارك دريفوس"، أكد أن راية "داعش" تُمثل "الأفعال الكريهة التي ارتكبتها واحدة من أكثر المنظمات الإرهابية دموية وقتلًا". لذلك، فإن حظر راية "داعش" أو أي شيء "مشابه" يمكن أن يخلق مشكلات كثيرة، والارتباك في الحياة اليومية للمسلمين؛ إذ يَعْرض كثير من المسلمين العقيدة الإسلامية بصيغتها العربية داخل منازلهم، أو على شكل ملصقات على سياراتهم، أو في المساجد، أو على شكل أعمال فنية بأشكال مختلفة. ومع ذلك، فهذه هي الصياغة الدقيقة الموجودة أيضًا على راية "داعش".

هنا يتطرق المدير إلى الأزمة التي قد يثيرها القانون؛ فراية تنظيم "داعش" اتخذت عددًا من الكلمات -المقدسة عند كل المسلمين- شعارًا لها؛ لذا فإن المضي قُدُمًا في هذا الحظر ربما يفاقم الأزمة، ومن ثم لابُد من منع مشروع القانون المعروض على البرلمان، أو يجب تأجيل إصداره على الأقل حتى ظهور أدلة مادية ملموسة بشأن استخدامه. كما أن صياغة مشروع القانون المقترح قد تعزز رواية تنظيم "داعش" الإرهابي التي تتمثل في أن "المسلمين والهوية الإسلامية يتعرضان للهجوم في الغرب". ويؤكد "دريفوس" أن حكومة حزب العمل ستراعي المخاوف التي تحدثت عنها الجالية المسلمة، وأن تغييرًا أخيرًا في الصياغة ما زال مطروحًا([22]).

يأتي هذا في الوقت الذي لم يتقبل فيه كثير من المسلمين هذه الفكرة؛ فقد أفاد موقع "ديلي ميل" البريطاني أن بعض المجموعات الإسلامية بأستراليا -مثل "المجلس الوطني لأئمة أستراليا"- عبر عن انتقاده قرارَ السلطات بحظر استخدام علم تنظيم "داعش" خوفًا من أن يكون هذا الأمر بداية لسلسلة حظر مظاهر إسلامية أخرى مثل استخدام اللغة العربية أو بعض الشعائر الدينية، مؤكدين ضرورة إعادة صياغة القرار عرضه على البرلمان لاحقًا؛ لأن المواطن الأسترالي بطبعه لا يتحدث اللغة العربية ولا يفهمها، كما أنه ليس بالضروري أن تكون كل راية سوداء معبرة عن "داعش" أو مثيلاتها من التنظيمات الإرهابية، فمثل هذا القرار قد يحظر نص الشهادتيْن، أو غيرها من العبارات الإسلامية. وقد قدَّم النائب العام الأسترالي، "مارك دريفوس"، مشروع القانون في يونيو الماضي، وأكد أن الحكومة الأسترالية تدرك تمامًا الفرق بين الرموز الإرهابية لتنظيم "داعش" وغيرها من الرموز الدينية الإسلامية الصحيحة التي تمثل جزءًا من التنوع الثقافي أو الاجتماعي الأسترالي، وأضاف أن داعش ذاتها تنفذ عمليات بحق المسلمين، وغير المسلمين في الشرق الأوسط وكل أنحاء العالم([23]) .

يأتي هذا القرار في الوقت الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا بالإجماع يدين أعمال العنف ضد الرموز الدينية، والكتب المقدسة، ودور العبادة، باعتبار ذلك انتهاكًا للقانون الدولي. وتأتي هذه الخطوة في أعقاب عدة حوادث لإحراق نسخ من القرآن الكريم، وتدنيسه على يد متطرفين في عواصم من السويد والدنمارك حديثًا. كما يسهم القرار في تعزيز حوار الأديان والثقافات، ويدعو المجتمع الدولي إلى اتخاذ إجراء تجاه خطاب الكراهية الذي ربما يثير توترات دينية، ويتسبب في أعمال عنف. وبحسب المصدر فثمة حاجة ماسة في الوقت الراهن إلى تعزيز التفاهم، والاحترام المتبادل بين الأفراد، وأتباع الأديان، والثقافات المختلفة.

وفي ما يخص مبدأ حرية التعبير، وحساسية الرموز، والمقدسات الدينية، فلا ينبغي السماح للمتطرفين بتدنيس المقدسات تحت مسمى حرية الأديان، فحرية التعبير لا يمكن أن تستخدم ذريعة لتدنيس المقدسات؛ إذ يؤدي ذلك إلى إفساد الوئام، وإثارة الكراهية، وأعمال العنف في المجتمع، ولذا شمل القرار تلك الأمور في بنوده.

ورغم معارضة بعض الدول الغربية سابقًا للقرار، حاول مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة إصداره في ١٢ من يوليو ٢٠٢٣ بتجريم تدنيس المقدسات، فإن الإجماع كان سيَّد الموقف هذه المرة بين الدول الأعضاء؛ فتقدم المغرب الاقتراح ووافقت عليه ١٩٣ دولة عضوًا. وبهذا القرار ترسل الجمعية العامة للأمم المتحدة رسالة مهمة باحترام كل الأديان والثقافات، ومن المتوقع أن يكون القرار بمثابة حافز للدول كافة على احترام الرموز، والمقدسات الدينية، ودور العبادة، وعدم انتهاكها تحت مسمى حرية التعبير الزائفة([24](.

ثمة ردود فعل على القرار الفرنسي بحظر ارتداء العباءة والقمصان الطويلة داخل المدارس الفرنسية، فقد أعربت لجنة الولايات المتحدة الأمريكية للحريات الدينية الدولية عن قلقها إزاء التوسع الفرنسي في مفهوم حظر الزي الديني داخل المدارس الحكومية؛ وصرح رئيس اللجنة بأن الحكومة الفرنسية تتعدى بهذا القرار على الحريات الدينية لتبنيها تفسيرًا محددًا للعلمانية تعتمد من خلاله ترهيب المجتمعات المتدينة، واستهدافها، لا سيما المسلمين. وأكد رئيس اللجنة أنه لا يحق لأي حكومة فرض سياسة دينية معينة على شعبها، وأن أي حكومة تعمل على تقييد الممارسات السلمية بمظنة دعم العلمانية، فإنها تستحق الإدانة، وليس أدلّ على ذلك مما أصاب الجالية المسلمة التي أصبحت تواجه تدقيقًا وتضييقًا ملحوظين أسفرا بدورهما عن إعادة عشرات الفتيات إلى بيوتهن في أول أيام الدراسة من شهر سبتمبر ٢٠٢٣ بسبب رفضهن تغيير العباءات، والالتزام بالزي المدرسي المفروض من جانب وزارة التعليم الفرنسية.

كما أوضحت اللجنة أن قرارات حكومة فرنسا في هذا الشأن تتناقض تناقضًا مباشرًا مع المادة رقم ١٨ من الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، اللذيْن يكفلان الحرية الدينية للجميع بما في ذلك حرية إظهار المعتقد عبر الرموز أو الملابس، وذلك رغم أن فرنسا ذاتها بذلت جهودًا في إقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وصوتت لصالحه، كما أنها دولة عضو في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ([25]).

 

إسبانيا

يُعد ارتداء الملابس ذات الطابع الديني داخل المدارس الإسبانية من الأمور المثيرة للجدل التي تتعدد حولها وجهات النظر؛ إذ لا توجد لائحة رسمية تحظر على وجه التحديد ارتداءها داخل المدارس. ورغم هذا توجد بعض الاعتبارات واللوائح التي تُطبق في مختلف المناطق والمراكز التعليمية؛ فطبقًا للأنظمة الإقليمية في إسبانيا، تخضع العملية التعليمة لمسئولية مقاطعات الحكم الذاتي، بحيث يمكن لكل مقاطعة أن تضع لوائحها التعليمية الخاصة بها، بما في ذلك ارتداء الملابس ذات الطابع الديني داخل المدارس، وهذا يعني أن اللوائح قد تختلف من إقليم إلى آخر.

ومن القواعد الأساسية العامة التي يستند إليها النظام التعليمي في إسبانيا: العلمانية والحياد، فعلى الرغم من عدم وجود حظر عام فإن مبدأيْ العلمانية والحياد الديني في المؤسسات العامة يعدان قيمتين ذات أهمية في إسبانيا، إذ يكفلان بيئة شاملة لجميع الطلاب بقطع النظر عن الدين أو المعتقد([26]). وهذا لا يمنع وجود مدارس ومراكز تعليمية تحدد قواعد لباس خاصة بها، أو قواعد داخلية تنظم استخدام الرموز الدينية، وقد تختلف تلك اللوائح باختلاف المركز واستقلاليته.

وعلى سبيل المثال، ثمة نقاش دائر حول ارتداء الحجاب، ومدى فرضيته في الإسلام، فإذا كان اختياريًّا فمن الممكن أن تحظره المدارس العامة دون أن يشكل ذلك تعديًا على الخصوصية الدينية للمسلمات، سواء الطالبات أو العاملات في مجال التعليم من المسلمات بوجه عام. ويختلف الوضع بالنسبة لمن يرى فرضيته؛ إذ يوجب ذلك إتاحة ارتدائه من منظور حرية الاعتقاد، وممارسة الشعائر الدينية. واختلاف وجهات النظر في هذا الأمر هو ما يؤدي إلى وجود تباين في الآراء، واختلاف في وجهات النظر مع عدم وجود نص واضح، ولائحة تعليمية محددة لحظر تلك الرموز الدينية.

لذا فمن الضروري أولًا مراعاة أن النساء هن من يخترن استخدامه، أي أنهم لا يُجبَرن على ذلك. ورغم هذا، فالتحقق من ارتداء الحجاب طوعًا يمثل صعوبة كبيرة. لكن هذا لا يعني أن هذا الأمر، رغم صعوبته، يمثل مشكلة يجب أن يحلها المجتمع المسلم حصرًا دون تدخل خارجي. وانطلاقًا من كوننا جميعًا مواطنون متساوون في الحقوق، فإذا أُجبرت امرأة أو فتاة لأي سبب -سواء أكان دينيًّا أمو ثقافيًّا- على ارتداء ملابس معينة فهذا يُعد اعتداءً على حرياتها إنسانيًّا، ولكن يجب توخي الحذر الشديد في التعامل مع هذه القضية؛ إذ ينبغي تجنب الوقوع في فكرة أن المجتمع الغربي متفوق عرقيًّا، أو اجتماعيًّا، بما يعطيه الحق في الحكم على الثقافات الأخرى وتغييرها([27]).

نص قانون الحرية الدينية في إسبانيا لسنة ٢٠١٠ على أنه لا يجوز عرض الرموز الدينية في الأماكن العامة باستثناء الرموز ذات القيمة التاريخية والفنية والمعمارية والثقافية التي يحميها القانون. وقد أدى ذلك إلى حظر الصُلبان داخل الفصول الدراسية الإسبانية، لكن لم تلتزم به جميع المدارس في إسبانيا. وينص الدستور الإسباني في المادة ٣/١٦ على أن إسبانيا دولة غير طائفية، أي أنه "لن يكون طابع الدولة تابعًا لأية طائفة، وتأخذ السلطات العامة في الاعتبار المعتقدات الدينية لأطياف المجتمع الإسباني، وتحافظ على علاقات التعاون اللاحقة مع الكنيسة الكاثوليكية، والطوائف الأخرى"([28]).

وعلى الرغم من أن الدولة علمانية بنص الدستور الإسباني، ففي كثير من الأحيان يكون الواقع الذي تعيشه المدارس مختلفًا تمامًا؛ إذ يشير خبراء مختلفون إلى هذه الحقيقة باعتبار أن الواقع الذي يجب أن يواجهه الطلاب في نظام التعليم العام يختلف عما يقرره القانون. وذكر البعض أنه لا يمكن البدء في الحديث عن هذا الأمر، أي ارتداء الحجاب في المدارس، فيما تظل صلبان كثيرة معلقة في المدارس الحكومية الإسبانية، وهناك راهبات يُدرِّسن للطلاب بأموال الدولة، ويحافظن على مظهرهن الديني.

وكما توضح "جلاديس نييتو مارثينيث"، أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة "مدريد" المستقلة، فإن مبدأ العلمانية لا يُحترم في جميع المدارس العامة في إسبانيا. وهذا يعني أن الطلاب المسلمين ليسوا الوحيدين، بل مثلهم الطلاب من أتباع الديانات الأخرى غير الكاثوليكية؛ إذ يتعرضون للتمييز على أساس دينهم من المؤسسات التعليمية نفسها. ومن ثم، فإن تعرض هؤلاء الطلاب -الذين لا يشعرون بأنهم ممثلون في نظام التعليم العام- للهجوم على أساس معتقداتهم هو على أقل تقدير أمر غير منطقي وغير عادل وغير أخلاقي. والكثير من منتقدين ارتداء الحجاب داخل المدارس يعتمدون على حقيقة أنه رمز ديني، فلا مكان له في المدارس العلمانية. ومع ذلك، فإن وجود رموز مسيحية مختلفة في المدارس هو حقيقة لا يمكن إنكارها، لذلك لا يمكن إلقاء اللوم على الطلاب الذين لا يشعرون بأنهم ممثلون في النظام لإدخال رمز ديني؛ وعلى ذلك فلا يوجد التزام بقواعد العلمانية المؤسسية([29]).

ومن ذلك قضية ارتداء الحجاب في مكان العمل؛ إذ كانت المحكمة الإسبانية قد قضت في عام ٢٠١٧ بحق "آنا سعيدي" ارتداء الحجاب في أثناء عملها مضيفةً أرضية بإحدى ‏الشركات في "بالما دي مايوركا"، وبإدانة الشركة التي كانت تعمل بها، وبإلزام الشركة بتعويضها ماديًّا ‏عن الأضرار النفسية والمادية التي تعرضت لها "آنا" في فترة إيقافها عن العمل بالشركة، وهو ما يُعد قرارًا إيجابيًّا ينتصر للحرية الدينية. ولكن سرعان ما قوبل هذا الحكم بقرار مغاير من المحكمة الأوروبية التي أعطت الشركة الحق في منع ارتداء أيٍّ ‏من موظفيها أيَّ رمز ديني، أو فلسفي، أو سياسي في أثناء العمل، وذلك في ١٤ من مارس ٢٠١٧([30]).

وقد أثارت هذه القضية جدلًا واسعًا في ‏الوسط الأوروبي؛ فلاقى حكم المحكمة الأوروبية معارضة كبرى من المسلمين في المقاطعات ‏الإسبانية المختلفة لأنها بذلك منعت ما أقرته المحكمة الإسبانية. وفي الوقت ذاته أعلن عدد من المسلمات ‏المحجبات في مدينة "مرسية" الإسبانية اعتراضهن على حكم المحكمة الأوروبية، في ١٨ من مارس ٢٠١٧، وشدَّدن على ضرورة أن ‏توضح المحكمة سبب هذا الحكم غير المنصف للمسلمات كونه يعد تمييزًا مباشرًا ضدهن. ومن ناحية ‏أخرى، رأى أحد المحللين أن هذه القضية قد أثارت تعارضًا بين حقيْن، هما حق المساواة بين الجميع في ‏العمل ومنع أي رمز ديني من جانب، والحق في الحرية الدينية دون تقييد أو تسلط من جانب آخر. ثم توالت  شهادات متعددة، وآراء لمسلمات في مدينة "مرسية" يؤكدن حق المرأة المسلمة في ارتداء الحجاب دون ‏تضييق من أحد ([31]).

وبالنظر إلى السياق الإسباني، من المهم أيضًا أن نذكر أنّ الجدل بشأن ارتداء الحجاب داخل المدارس، باعتباره رمزًا دينيًا، هو في كثير من الحالات علامة على تناقض إسبانيا، إذ إن الحجة التي تستند إليها الدولة في حظر استخدام الرموز الدينية هو أن النظام التعليمي الإسباني علماني، وهي حجة لا أساس لها من الصحة. إذ يوجد حاليًا كثير من المدارس الإسبانية العامة التي تحوي رموزًا مسيحية مثل الصلبان. ولذلك فإن تبرير حظر الحجاب باعتباره رمزًا دينيًا يتناقض مع وجود رموز مسموح بها لفئات أخرى([32]).

وفي ما يتعلق بردود الفعل الإسبانية إزاء قرار فرنسا "حظر ارتداء العباءة والقمصان الطويلة داخل المدارس"، نرصد حالة من الاستياء والجدل وسط اتهامات بالعنصرية وبتهميش المسلمين في البلاد؛ وذلك لما في هذا القرار من طابع تمييزي ضد الهوية الدينية للمسلمين. وفي عدد صحيفة "إلكورّيو ديل جولفو" الإسبانية الصادر يوم ٧ من سبتمبر ٢٠٢٣، انتقدت الدكتورة "إيلينا أريخيتا" -المتخصصة في الدراسات الإسلامية بجامعة غرناطة- هذا القرار ووصفته بأنه "عنصري وإقصائي" نظرًا لاستبعاده قطاعًا كبيرًا من المسلمين في فرنسا. وأعربت "أريخيتا" عن اعتقادها أن هذا القرار يأتي في إطار سياسات الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تهدف إلى توطيد إقصاء البعض في فرنسا وتهميشهم، وأن هذا القرار قد يزيد في حدَّة التوترات الاجتماعية في فرنسا؛ إذ تعاني البلاد بالفعل مشكلات في التعايش بين الثقافات والهويات المختلفة)[33](.

وأوضحت "أريخيتا" أن هذه الخطوة تنُمُّ عن عنصرية متأصلة؛ لأنها تستبعد شريحة كبيرة من المجتمع تعاني التهميش من الأصل. ولفتت إلى أن قرارات كتلك غالبًا ما تُطرح في أوقات الأزمات، وموجات العنف، مشيرة إلى أن البعض يُحمِّل الإسلام مسئولية تلك المشكلات؛ في حين أن المشكلة الحقيقية تكمن في السياسات المتشددة ضد الآخر، بما يستبعد أيَّ تنوع في المدارس ويفرض نمطًا واحدًا يتجاوز الملابس، ويمتد لاستبعاد بعض فئات المجتمع. وربطت "أريخيتا" بين هذه الظاهرة وبين تصاعد خطاب "اليمين المتطرف" في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، مشدِّدةً أن ما يحدث هو محاولة لإقصاء بعض فئات المجتمع تحت شعارات مضللة. لذلك ترى إمكانية فهم الحجاب، على سبيل المثال، بطرق ثقافية متعددة دون قصره على الرمزية الدينية. وقد أشارت إلى أن هذه الظاهرة مرتبطة في فرنسا وعدد من الدول الأخرى بظهور اليمين المتطرف في المؤسسات، وبخطابه المعادي للأجانب على نطاق واسع.

كما عبَّرت "باربرا رويث بيخارانو" -الأستاذة في جامعة "أليكانتي"، وعضو الرابطة الإسلامية في إسبانيا- عن استيائها من حظر الحجاب؛ فعدّت ذلك انتهاكًا لحرية الاعتقاد التي هي حقٌّ مقرر في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وأضافت "بيخارانو" أن العباءة وإنْ كانت تمثل رمزًا دينيًّا في الأساس فإن البعض يرى أنها مجرد زي تقليدي لا يحمل أيَّ طابع إسلامي. إضافة إلى ذلك، أشارت "بيخارانو" إلى أن تلك الإجراءات قد تؤدي إلى حدوث تأثير عكسي، ما يؤدي في النهاية إلى تمسُّك الأفراد بارتداء هذه العباءة بوصفها نوعًا من الحفاظ على هويتهم العربية والإسلامية([34]).

وأكَّدت "بيخارانو" أن الفشل الأساسي في فرنسا يكمن في سياستها حيال دمج بعض فئات المجتمع. وبالرغم من دفاع "بيخارانو" عن مفهوم العلمانية للدولة، فإنها ترفض الطريقة التي تنتهجها الحكومة الفرنسية في تفسير هذا المفهوم والقرارات المتخذة في طياته وتحت مظلته. كما شدَّدت أن الدولة يجب أن تكون مُحايدة، موضحة أنه يجب أن تحترم القرارات التي تكفل التنوع الديني والثقافي لأفراد المجتمع، وتتيح ممارسة شعائرهم الدينية، وتضمن حقهم في الاعتقاد وحرية التعبير عن الرأي دون ترهيب أو تقييد.

 

ألمانيا

يكفل الدستور الألماني -بنص صريح- حرية الدين والمعتقد؛ إذ تنص المادة الرابعة من الدستور على أنه "لا تُنتهك حرية العقيدة وحرية الرأي ولا حرية اعتناق أي عقيدة دينية أو فلسفية"([35])، ومع ذلك أقدمت ثمان ولايات من أصل ١٦ ولاية ألمانية على فرض حظر ارتداء الرموز الدينية الواضحة -باستثناء رموز التراث المسيحيِّ، أو اليهودي- كالحجاب للمعلمات داخل المدارس الحكومية. ولكن المحكمة الدستورية العليا الألمانية أصدرت عام ٢٠١٥ قرارًا يعتبر الحظر العام لحجاب المعلمات داخل المدارس مخالفًا للدستور؛ لأن المنع يتعارض مع الحرية الدينية. ورغم قرار المحكمة الدستورية، ما زال صوت دعاة الحظر مسموعًا، ولم يتوقف الأمر عند المطالبات فحسب، بل أخذ الأمر منحى خطيرًا([36]).

كما يقضي "قانون الحياد" في ألمانيا بحياد الموظف العام في أداء الخدمة العامة بالقيام بمهام وظيفته بعيدًا عن التمييز الديني، أو العرقي، أو الطائفي، أو الأيديولوجي، ومن ثم لا ينبغي السماح للمعلمين، أو أية طائفة أخرى بإظهار الرموز الدينية داخل المدارس الحكومية، وهو ما دفع في نهاية العام الماضي ٢٠٢٢ ولاية "برلين" إلى دفع تعويض لامرأة مسلمة لأنها لم تُقبل في إحدى المدارس بسبب حجابها. ومنحتها محكمة العمل بالولاية راتب شهر ونصف؛ لأنها تعرضت للتمييز بسبب دينها.

ومع ذلك، لم تنظر المحكمة في قانون الحياد في "برلين"، الذي يحظر على ضباط الشرطة، والموظفين القضائيين، والمعلمين في المدارس الحكومية ارتداء الملابس الدينية في أثناء الخدمة. صحيح أنه يمكن تفسير هذا القانون وفقا للدستور؛ غير أن القضية الفردية المحددة لم تنطو على تهديد واضح للسلم في المدارس أو لحياد الدولة بسبب الحجاب كما قررت المحكمة. وفي هذا السياق، يسعى "حزب الخضر" إلى إلغاء قانون الحياد أو تغييره؛ لصعوبة تحقيق مفهوم الحياد عمليًّا؛ لأنه إذا كانت المعلمة التي ترتدي الحجاب لا تحاول استمالة الأطفال إلى دينها، فمعنى ذلك أنها محايدة على الرغم من أنها ترتدي الحجاب.

ولعل ما يساعد على ذلك التمييز ضد المحجبات العاملات في المدارس –إلى جانب الصور النمطية السلبية– بعض القوانين والأحكام التي تبدو سلبية تجاه الحجاب. ففي عام ٢٠١٥ ألغت المحكمة الدستورية الألمانية قرار "حظر الحجاب" على المعلمات، وأصدرت حكمًا بعدم شرعية "المنع العام" لارتداء معلمات مسلمات الحجاب داخل المدارس، غير أنها وضعت شروطًا في حيثيات قرارها يسمح بمنع الحجاب في حالة خطورته على "التعايش السلمي" في المدرسة.

وعلى صعيد المراكز التعليمية، كشفت بعض التقارير وجود تفكير ونقاشات جادة لاستصدار قانون يحظر الحجاب داخل المدراس الابتدائية الألمانية؛ وذلك على غرار القانون الذي صدر حينذاك في النمسا، علمًا بأن المحكمة الدستورية في النمسا قضت بعدم دستوريته([37]). وفي السياق ذاته ذكر موقع "تسايت أونلاين" أن وزيرة الأسرة الألمانية، السيدة "فرانسيسكا جيفاي"، أعلنت عن اعتزامها تشديد إجراءات مكافحة ظاهرة الإسلاموية داخل المدارس الألمانية، وأضافت: "يجب علينا الدفاع عن قيمنا وقوانيننا"، كما صرحت بأن الآباء المسلمين لا يسمح لهم بمنع فتياتهم من الالتحاق بمادة السباحة، معلقة أن "السباحة" مادة إلزامية، ويجب الالتزام بها، مشيرة إلى اتخاذ إجراءات حيال المخالفين، وتأكيد مساندة الوزارة للمعلمين والمعلمات في هذا الصدد.

كما أضافت الوزيرة أن الأمر نفسه ينطبق على دروس التاريخ، وتدريس "الهولوكوست"، فقالت: "إذا كان الهولوكوست موضوعًا في المناهج الدراسية، فلا يجب أن توجد تنازلات، موضحة وجود شكاوى مستجدة من المعلمين من وجود ضغوط متزايدة من الطلاب المسلمين لعدم تدريس مواضيع مثل معاداة السامية في الفصول الدراسية". كما أشارت "جيفاي" في تصريحاتها إلى إطلاق البرنامج النموذجي "رواد الاحترام" ("Respect Coaches") منذ عاميْن، وهو برنامج يقوم عليه أخصائيون اجتماعيون يذهبون إلى الفصول الدراسية، ويتحدثون مع الطلاب في كثير من المشكلات مثل: العنف، والتنمر الديني، ويحاولون حل الخلافات، كما يعزز البرنامج "معايشة الديمقراطية"، وشبكات مكافحة التطرف([38]).

وفي هذا السياق سمحت ولاية "برلين" لأول مرة للمعلمات بارتداء الحجاب في "برلين" مع بداية العام الدراسي ٢٠٢٣/٢٠٢٤؛ حيث سُمح للمحجبات لأول مرة بالتدريس في المدارس الحكومية في "برلين"، الأمر الذي كان ممنوعًا بموجب قانون الحياد المعمول به سابقًا منذ عام ٢٠٠٥. وفي عام ٢٠١٥ قضت المحكمة الدستورية الفيدرالية بأن الحظر العام لحجاب المعلمات في المدارس العامة يتعارض مع الدستور. وفي الوقت نفسه، وعلى غرار "برلين"، عدّل كثير من الولايات الفيدرالية ممارسات التوظيف لديها؛ لكن في "برلين" استمر احتدام النزاع منذ أن أقامت السيناتور التعليمية السابقة "ساندرا شيريس" دعوى دستورية؛ فهي وآخرون يريدون الالتزام بقانون الحياد([39]).

وفي ظل ارتفاع وتيرة نشاطات الجماعات اليمينية المتطرفة في ألمانيا، وفي مقدمتها أنشطة التمييز على أساس الجنس، التقى أعضاء تحالف "مدرسة من أجل مزيد من الديمقراطية" مع اثنيْن من موظفي الوزارة الاتحادية لشئون الأسرة. وكان من بينهم المعلمان "لورا نيكل" و"ماكس تيسكي"، اللذان كتبا رسالةً مجهولةً للفت الانتباه إلى حوادث اليمين المتطرف في مدرستهم في منطقة "بورغ إم سبريوالد". وذلك كما صرَّح القس "سبرمبرغ لوكاس بيليو"، لوكالة الأنباء الألمانية إثر حضوره اجتماع يوم السبت الموافق ١٠ من يونيو ٢٠٢٣.

ونيابة عن الحكومة الفيدرالية، شكرت الوزارة الفيدرالية لشئون الأسرة مُعلمي مدينة "بورغ" على شجاعتهم، وأعربت عن احترامها لهم. وصرَّح السيد "بيليو" بأنه أمكن الاتفاق على ضرورة وجود اتصال وثيق ومستمر، وصرحت المعلمة "نيكل" لوكالة الأنباء الألمانية (د.ب.أ)، قائلة: "هذا الدعم يمثل لنا الكثير. إذا وقفت الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات والحكومات المحلية إلى جانبنا، فيمكننا حقًا صد هيمنة اليمين المُتطرف"([40]). كما أبلغت السلطات المدرسية في "براندنبورغ" عن المزيد من تلك الحالات منذ أن أصبحت حوادث المُتطرفين اليمينية في "سبريوالد" معروفة. وبحسب وزارة التعليم في جنوب "براندنبورغ"، فإن معظم الحوادث الجديدة وقعت في منطقة مكتب التعليم الحكومي في "كوتبوس".

وفي ما يتعلق بارتداء الرموز الدينية الواضحة داخل مدارس ولاية "بافاريا"، فإنه لا يجوز للمعلمين ارتداء الرموز والملابس الدينية إذا كان من الممكن أن يفهمها أطفال المدارس أو أولياء أمورهم على أنها موقف لا يتوافق مع القيم التعليمية والثقافية المسيحية الغربية، وذلك وفقًا للقانون "البافاري" للتعليم والتدريس. كما صرح وزير التعليم في ولاية "بافاريا"، "مايكل بيازولو"، بعدم منع أية معلمة أو طالبة من ارتداء الملابس أو الرموز الدينية، ومع ذلك فإن ارتداء النقاب محظور بصفة عامة في الولاية(([41].

أما عن موقف ألمانيا من القرار الفرنسي بحظر ارتداء العباءة والقمصان الطويلة داخل المدراس الفرنسية فقد تساءل موقع (wdr) الألماني عما إذا كانت ألمانيا ستحذو حذو فرنسا في هذا الشأن. وأجاب الموقع بالنفي؛ والسبب أن قضية العباءة في ألمانيا ليست كما هي في فرنسا؛ لأن ما يقرب من نصف السكان المسلمين في ألمانيا من الأتراك الذين يشبهون الأوروبيين كثيرًا في لباسهم، ومع ذلك دار جدل لسنوات في ألمانيا عما إذا كان يجب على المعلمات ارتداء الحجاب([42]).

وفي السياق ذاته ذكر موقع (دويتش فيلله) الألماني أن السياق الألماني بالنسبة لهذه القضية مختلف تمامًا عن السياق الفرنسي، ومن ثم فإن علاقة ألمانيا بالدين تختلف تمامًا عن علاقة فرنسا؛ حيث إن ألمانيا بها أغلبية بروتستانتية، لكن فرنسا بها أغلبية كاثوليكية. فربما تكون فرنسا قد أنشأت الأنظمة الأكثر صرامة في ما يتعلق بالتعامل مع القضايا الدينية، وحين ننظر إلى الدول الأوروبية الأخرى تظهر صورة غير متسقة إلى حد ما؛ فألمانيا تتراجع في هذا المضمار خطوة إلى الوراء، ولكن لديها أيضًا علاقة أكثر تعقيدًا مع الدين بصفة أعم([43]).

إن الجمهورية الألمانية الفيدرالية بعيدة كل البعد عن العلمانية الفرنسية؛ فالقانون الأساسي لا ينص على هذا الفصل الصارم. ويجب أن تكون الدولة محايدة، ومتسامحة مع كل وجهات النظر والأديان العالمية. ومع ذلك، ترتبط الدولة والكنائس المسيحية ارتباطًا وثيقًا، وتتعاونان في العديد من المجالات مثل: تحصيل الضرائب الكنسية، والتعليم الديني في المدارس العامة، وحماية الأعياد المسيحية. ففي ألمانيا تبدو الأمور مختلفة بعض الشيء عند التعامل مع الإسلام، ذلك بأن الجدل بخصوص الحجاب مستمر منذ عقود، وقد أشعل شرارته دعوى قضائية رفعتها المعلمة الألمانية الأفغانية "فيريشتا لودين" التي مُنعت من دخول المدرسة بسبب حجابها، فحدث بسببها جدل عظيم نتج عنه نقاشات دستورية، واستغلال العديد من الولايات لقانون الحياد في حظر ارتداء بعض الرموز الدينية داخل المدارس.

 

إيطاليا

ليس في إيطاليا قوانين تحظر ارتداء الرموز الدينية حظرًا صريحًا داخل المدارس أو في الأماكن العامة، ومع ذلك توجد قواعد عامة يراد منها التحقق من هوية الأشخاص بوصفها مطلبًا أصيلاً. وباستعراض القوانين ذات الصلة، يتبين الآتي:

  1. المادة رقم ٨٥ من القانون الصادر عام ١٩٣١، بشأن "السلامة العامة"، تنص على أنه: "يُحظر إخفاء الوجه في الأماكن العامة".[44]
  2. أجاز قرار المديرية العامة للإدارة المدنية بوزارة الداخلية، الصادر بالرقم ٤ لسنة ١٩٩٥، استخدام أغطية الرأس في الصور الفوتوغرافية المخصصة لبطاقات هوية المواطنين من طوائف دينية أخرى غير الكاثوليكية، ما دامت ملامح الوجه ظاهرة بوضوح.
  3. المادة رقم ٥ من قانون "حماية النظام العام" -الصادر في ١٩٧٥ وتعديلاته لسنة ١٨٧٧ ولسنة ٢٠٠٥- تنص على "حظر استخدام الخوذات الواقية، أو أي وسيلة أخرى من شأنها أن تعسّر التعرف على هوية الشخص في مكان عام أو مكان مفتوح للجمهور، دون مبرر، باستثناء بعض المهن والألعاب الرياضية. ومن يخالف ذلك يعاقب بالسجن لمدة تتراوح بين سنة وسنتين وبغرامة تتراوح بين ١٠٠٠ و٢٠٠٠ يورو".(([45]

الواضح أنّ جوهر الخلاف يدور حول القيد المتمثل في عبارة "دون مبرر"، إذ يؤيد البعض السماح بارتداء الحجاب باعتباره سببًا أو مبررًا يدخل ضمن الشعور الديني الذي يجب مراعاته واحترامه، وليس الرغبة في إخفاء هوية المرء؛ فيما يؤيد البعض الآخر حظر ارتداء الحجاب أو النقاب باعتباره من العادات الدخيلة على الثقافات المحلية الأوروبية، بما لا يمكن قبوله أو تمريره تحت أي "سبب أو مبرر". فأصحاب الاتجاه الثاني يضيفون أيضًا أنّ الحجاب يعتبر حاملًا لمفهوم خضوع الجنس الأنثوي البعيد ثقافيًا عن المجتمع الغربي وأنّ الحرية الدينية التي يكفلها الدستور الإيطالي لا يمكن التذرع بها. وفي ظل غياب قانون صريح في هذا الشأن، يبدو أن قرار "مجلس الدولة" يوضح أن الحجاب ليس محظورًا بموجب القانون الإيطالي. ومع ذلك، توجد محاولات مستمرة لفرض حظره.

أمّا فيما يتعلق بالنقاب أو البرقع فقد كان الأمر أكثر صرامة؛ إذ وافق مجلس النواب الإيطالي عام ٢٠١١ على فرض عقوبات على ارتداء "البرقع" و"النقاب" في الأماكن العامة، بناءً على دعم من أعضاء حزب "رابطة الشمال". ومع ذلك، لم يلق هذا البند آذانًا صاغية. وفي عام ٢٠١٣، قدّم "نيكولا مولتيني"، عضو "رابطة الشمال"، مشروع قانون جديد لا ينص على عقوبات مالية فحسب، بل على عقوبات جنائية أيضًا على من يجبرون الآخرين على إخفاء وجوههم. لكن ظل كل شيء معلقًا هذه المرة، لدرجة أن "مولتيني" نفسه اقترح مرة أخرى في أكتوبر ٢٠١٨ مشروعَ قانون يعتمد على النموذج الفرنسي([46]).

وفي السياق ذاته، أكدت وزيرة تكافؤ الفرص الإيطالية السابقة، السيدة "مارا كارفانيا"، أنّها تنوى العمل من أجل استصدار قانون يفرض حظرًا على ارتداء النقاب داخل المدارس العامة. وأشارت "كارفانيا" إلى أنّها متفقة تمامًا مع إصدار قانون في إيطاليا يحظر ارتداء النقاب، باعتباره من رموز استعباد المرأة، ويشكل حاجزًا حقيقيًا أمام سياسة الاندماج، على حد تعبيرها. كما أشارت "كارفانيا" إلى أنّ النقاب ليس من الرموز الدينية كالحجاب، ولكنّه يخفى وراءه قصصًا لنساء حرمن من حقوقهن الأساسية، مثل التعليم أو الاستفادة من فرص العمل. وأضافت أنّها ستتحدث مع وزيري الداخلية والتربية من أجل فرض حظر ارتداء النقاب في المدارس، باعتبارها ممثلة للمركز الرئيسي للاندماج والتحرر.[47]

ورغم ذلك، لا توجد قاعدة محددة في التشريع الإيطالي تحظر ارتداء البرقع باعتباره رمزًا دينيًا واضحًا، بل توجد أماكن وحالات يفضل فيها التوقف عن ارتداء النقاب أو البرقع أو حتى الحجاب، فيما يُعرف بمناسبات "الحظر المطلق" – أي عند المشاركة في الأحداث التي تقام في أماكن عامة أو أماكن مفتوحة للجمهور. وفي جميع الحالات، سواءً أكان وسيلة الاستتار خوذة، أو حجابًا، أو قناعًا، أو برقعا، يُعاقب المخالف بالسجن لمدة تتراوح بين سنة وسنتين، وبغرامة تتراوح بين ١٠٠٠ و٢٠٠٠ يورو([48]).

أما عن ارتداء الرموز الدينية الواضحة داخل القاعات المدرسية فنجد أنّه في عام ١٩٨٤، وبعد اتفاق مع الفاتيكان، فقدت الكاثوليكية مكانتها كدين رسمي للدولة الإيطالية، وأصبحت إيطاليا دولة علمانية([49])؛ لذلك كان من الطبيعي أن تصطبغ المدارس الإيطالية بالصبغة العلمانية. ومع ذلك فما تزال مدارس إيطالية كثيرة تحتفظ بالصليب معلقًا في فصولها الدراسية، ولا يبدو أن الديانات الأخرى تحظى بالأمر نفسه. فمثلاً: يمكن أن نتخيل حجم الجدل الناتج عن وجود رجل دين إسلامي داخل مدرسة حكومية لتدريس الدين للطلاب المسلمين.

كما أن وجود الصليب مُعلقًا على جدران بعض الفصول الدراسية يتناقض مع علمانية الدولة التي أقرَّها الدستور الإيطالي، الأمر الذي استندت إليه المواطنة الإيطالية "سولي لاوتسي" عندما أقامت دعوى قانونية في ٢٧ من مايو ٢٠٠٢ أمام "محكمة حقوق الإنسان الأوروبية"، مُطالِبةً بتعليم علماني لأطفالها، بعد أن التحق أطفالها بمدرسة حكومية في مدينة "بادوفا" شمال إيطاليا ووجدوا الصليب منتشرًا في كل غرفة بها.([50])

وقد أصدرت المحكمة في ٢٠٠٩ حكمًا بقبول الدعوى، وقضت بأن تعليق الصليب داخل الفصول يشكل انتهاكًا لحقوق أولياء الأمور في اختيار نوع التعليم لأبنائهم بالطريقة التي يعتبرونها مناسبة. وإضافة إلى ذلك، قبلت المحكمة دفوع الأم، وأمرت لها أيضًا بتعويض قوامه ٥٠٠٠ يورو. وبحسب بيان أصدره قضاة المحكمة فإنّ الوجود الإلزامي للرموز الدينية في منشأة عامة ينتهك حقوق الآباء والأمهات في توفير تعليم لأطفالهم يتفق مع معتقداتهم، كما أنّه يناقض أيضًا حق الأطفال في أن يكونوا مؤمنين أو غير ذلك.([51])

وسرعان ما قدّمت إيطاليا استئنافها على الحكم الذي اعتبرته تدخلًا في ثقافة البلد وتاريخه وديانته، وقد قبلت المحكمة الاستئناف وأحالت القضية إلى الهيئة العليا بها (أو "غراند كاميرا" التي تعد أعلى هيئة بالمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان)، فأصدرت حكمًا نهائيًّا في ١٨ من مارس ٢٠١١ بقبول تعليق الصليب داخل الفصول الدراسية، وألغت بذلك حكمها الصادر في ٢٠٠٩، معتبرة أن عرض الصليب داخل الفصول الدراسية في المدارس والأماكن العامة الأخرى لا يمكن اعتباره عنصرًا من عناصر التمييز، بل رمز مناسب للتعبير عن القيم المدنية، وعليه فلا سند لإفضاء ذلك إلى انتهاك حقوق الإنسان.([52])

 

اليونان

نظرًا لأن الديانة الرسمية لليونان هي المسيحية (الأرثوذوكسية)، نجد أن قضية الرموز الدينية الواضحة داخل المدارس اليونانية تنحصر أساسًا في تعليق الصور (الأيقونات) المعبّرة عن السيد المسيح أو السيدة مريم داخل الفصول الدراسية، وكذا داخل المحاكم العامة، والمستشفيات، والمنازل الخاصة؛ فنجد أنها تأتي في سياق تاريخي، وثقافي، وتعليمي في المقام الأول.

لا يوجد في التشريع اليوناني أي نص دستوري يدل على وجوب تعليق -أو إزالة- الرموز الأرثوذكسية باعتبارها رموزًا دينية، بل هي عادة تشكلت بوتيرة طبيعية كي تعبر ثقافيًّا وتاريخيًّا عن التقاليد الدينية السائدة في هذا البلد. ليتبين لنا أنه خلال ١٨٠ عامًا من الاستقلال، لم يكن المجتمع اليوناني أبدًا مهتمًا بالتفكير في وجاهة تعليق الصور في المتاجر العامة، وقاعات المدارس، أم لا. فمثلاً: شهد عام ١٩٨٧ تحديد وزير التعليم الأسبق، "أنطونيس تريتسيس"، ذلك الأمر بأن قال: "طبعت هيئة نشر الكتب التعليمية خمس صور مختلفة للمسيح كما قدمتها سيرة القديسين البيزنطية، وتستخدمها الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية"([53]).

المتأمل في السياق اليوناني يجد أنه من الطبيعي تعليق صور الشخصيات البارزة في التاريخ اليوناني والأيقونات الأرثوذكسية داخل الفصول المدرسية، لا سيما الشخصيات التي أثرت تأثيرًا مباشرًا في التراث الثقافي والتاريخي لليونان؛ وذلك بغرض تدريسها للطلاب - الأمر الذي يتماشى مع الرأي القائل إنه "حتى لو كانت العلمانيةهي السائدة في اليونان، فإن ذلك لن يؤدي إلى إزالة الأيقونات، بما يعني إلغاء عادة عمرها قرون. وذلك لأن اليونان لا تستطيع تشريعيًّا أن تلغي التراث التاريخي والثقافي للمجتمع اليوناني، دون المساس بحرية الرأي لمواطنيها"([54]).

كما يمكننا رصد أماكن مخصصة لأداء الصلاة الأرثوذكسية داخل المدارس، وبخاصة "صلاة الصباح"، وكذا الذهاب إلى كنيسة المدرسة من أجل القداسات. فنلاحظ أن ظروف اليوم تختلف عن التي سادت في العصور السابقة، إذ أصبحت التعددية الثقافية، والعلمانية، وحماية حقوق الأقليات الدينية تشكل همًّا لجميع الدول ذات الحكم الديموقراطي؛ الأمر الذي أثر أيضًا تأثيرًا مباشرًا في الممارسات المدرسية. أدى ذلك إلى انقسام المهتمين بالتعليم اليوناني إلى معسكريْن: "معسكر محاربي الأيقونات" و"معسكر عشاق الأيقونات". لكن التجربة المدرسية أثبتت أن الرموز الدينية لم تتسبب حتى الآن في أي اضطراب داخل المدارس، ولم تمس كرامة أي طالب، أو معلم، أو حتى ولي أمر.

بل إن تلك الأيقونات ظلت مفيدة في الاستشهاد بها ضمن المواد الدراسية المتعلقة بالفن البيزنطي وممارساته. وفي الوقت نفسه، فإن شخصيات الصور المعلقة في المدارس (وخصوصًا السيدة مريم العذراء) تمثل نموذجًا للحب والاهتمام، وهو ما يحظى بتقدير خاص من الأطفال والمراهقين. ولكن: هل يجب أن تبقى هذه الرموز أم يجب إلغاؤها في نظام التعليم الأوروبي الحديث؟ ربما يتعلق الأمر بالقيم والمبادئ التي تريد كل دولة غرسها في نفوس نشئها. وقد سبق أن نوقشت التعددية الثقافية، والعلمانية، والتسامح مع المعتقدات الدينية المختلفة، باعتبارها العناصر الأساسية للثقافة الأوروبية اليوم. لكن وجهة النظر هذه تستند إلى بعض المبادئ والأفكار. فهل من شك في أن مصدر الإلهام الرئيس للدولة الأوروبية الحديثة هو أيضًا تعاليم الدين المسيحي؟! بعبارة أخرى: هل يشك أحدٌ في أن أوروبا بُنيت أيضًا على المبادئ المسيحية؟ من هنا فإن الرمز الديني لا يمثل قيمة دينية بالنسبة لبعض المؤمنين فحسب، بل هو أيضًا رصيد ثقافي، وموروث حضاري. وهو أيضًا وسيلة للتعرف على القيم، والمبادئ التي أثرت في نظام التعليم الذي يضم جميع الطلاب، بقطع النظر عن الطائفة الدينية التي تنتمي إليها تلك الدول.

وبالرغم من الاتجاه السابق الذي يبرز مدى أهمية الرموز الدينية المسيحية ووظيفتها التعليمية داخل المدارس اليونانية، تَقَدَّمَ أربعة من أولياء أمور الطلاب بطلب إلى أمين المظالم في وزارة التعليم اليونانية؛ مطالبين بإلغاء الرموز الدينية التي تؤثر في الحرية الدينية للطلاب بالمدارس اليونانية. وكان من بينهم السيد "ثاناسيس ترياريديس" -الكاتب والناشر اليوناني- الذي تحدث إلى موقع tvxs.gr)) الإخباري حول حق الطلاب الأصيل في اختيار عقيدتهم الدينية، فقال: "يجب الاعتراف بالحرية الدينية التي ينص عليها الدستور بوصفها حقًا ثابتًا أصيلاً، وهي بالطبع كذلك للأطفال في الوقت ذاته، وهذا ما أورده الآباء الأربعة في الطلب المقدم إلى أمين المظالم".

أوضح السيد "ترياريديس" أن الموضوع الرئيس للطلب يتعلق برموز الديانة المسيحية الأرثوذوكسية المحددة بوصفها متطلبات إلزامية في التعليم. وتابع قائلًا: "في كل الفصول رموز دينية مسيحية، وأيقونات بيزنطية، وصلبان، ورموز أخرى. وفي الوقت نفسه فإن الصلاة الكاثوليكية إلزامية كل صباح، والقداس إلزامي في خلال ساعات الدراسة"، مشيرًا إلى أن الطلاب ليس لديهم حق اختيار حضور هذه الطقوس أو عدم حضورها. أكد السيد "ترياريديس" أن للأطفال الحق في تلقي تعليم غير ديني يتيح لهم فرصة اختيار عقيدتهم بحرية عندما يكبرون. بذلك لا يتعلق الطلب المذكور آنفًا بالمعتقدات الدينية الشخصية للآباء الأربعة المتقدمين به، إذ يقول الناشر اليوناني: "أنا شخصيًّا سأقدم الطلب نفسه، حتى لو كنت مسيحيًّا متدينًا، أو حتى لو كان لجميع الأطفال في الفصل آباء مسيحيون أرثوذوكس. لأن الأطفال أفراد مستقلون، وهم أكثر أهمية من إيمان والديهم أو عدم إيمانهم. ولهم حق اختيار عقيدتهم، وفق ما يرونه، وليس لأن التعليم غير العلماني فَرَضَ عليهم دينًا بعينه"([55]).

وأضاف السيد "ترياريديس" أن "أولياء الأمور هؤلاء يعتبرون أن إزالة الرموز الدينية من المدارس اليونانية، وإلغاء الصلاة العامة الجماعية، والقداسات الكنيسة المدرسية، ستكون خطوات تقدمية صغيرة للمجتمع اليوناني، وفي الوقت نفسه هي خطوات كبيرة على المستوى العالمي انطلاقًا من المبدأ الأول للإنسانية المبني على احترام إنسانية كل فرد، وإعطاء الأطفال الحرية الكاملة في اختيار عقيدتهم دون توجيه، أو إجبار"([56]).

وإلى حظر ارتداء الرموز الدينية من عدمه داخل مدارس دولة قبرص، نجد حادثة وقعت في أوائل سبتمبر ٢٠٢٣ بإحدى المدارس القبرصية تتعلق بقضية وضع أو إزالة شعار المدرسة من قمصان الطلاب؛ ذلك الشعار الذي يحوي صورة للسيدة "مريم" مع ابنها المسيح عليهما السلام. يقول مدير المدرسة، السيد "يانيس يورجيو"، إن الشعار لم يُحذَف، بل مُنِح الطلاب خيار طلب قمصان بدون شعار المدرسة. وأشار "يورجيو" إلى أن أسباب اتخاذ هذا القرار يرجع إلى وجود كثير من الطلاب المسلمين ضمن طلاب المدرسة؛ إذ تبلغ نسبتهم ١٧.٥٪، إضافة إلى الحرص على توحيد شكل القميص المدرسي كما هي الحال في شكل السراويل التي تحمل الأحرف الأولى من اسم المدرسة مكتوبة بأحرف لاتينية (LPS).

وفي حديثه لـموقع "سيغمالايف" الإخباري، صرح رئيس اتحاد أولياء أمور التعليم الثانوي -السيد "لويزوس كونستانتينو"- أنه يعارض تمامًا إزالة صورة "مريم العذراء" من شعار مدرسة "بالوريوتيسا" الثانوية بحجة توحيد شكل الزي المدرسي، واحترام الديانات الأخرى، فيما وصف تصريح مدير المدرسة بالمؤسف، كما أبدت بعض الكنائس اعتراضها على القرار([57]). من ناحيةٍ أخرى، ذكرت الصحافة القبرصية أن وزارة التعليم والثقافة قد فتحت تحقيقًا فوريًّا في تلك القضية، وتتولى مديرية التعليم الثانوي هذا التحقيق وسط تكهنات بأن هذا الفعل هو محض مبادرة من مدير المدرسة وحده. وأضافت الصحافة القبرصية إن الأمر قد وصل إلى أبعاد كبيرة بين أولياء الأمور القبارصة اليونانيين للطلاب الذين يدرسون في هذه المدرسة، كونهم يعترضون على قرار إزالة الرموز الأرثوذكسية التي كانت موجودة في مدرسة القبارصة اليونانيين منذ سنوات عديدة دون سابق إنذار. وأخذت الحادثة منحى آخر، فالقبارصة لديهم مخاوف من ازدياد أعداد المهاجرين المسلمين، ما يجعل الجزيرة عُرضة لخطر التغيير العرقي وتغيير التركيبة السكانية([58]). 

 

الخاتمة والتوصيات

يتجلى مما سبق بيانه غياب تعريف واضح لطبيعة المَلبس محل الجدل، ووجود نوع من الخلط بين ما هو ديني وما هو ثقافي، الأمر الذي يؤثر سلبيًا في "مبدأ العلمانية"، وفي استقرار المجتمع وأمنه، ما قد يؤدي إلى تفاقم التوترات الاجتماعية وزيادة الانقسامات داخل المجتمع بسبب انتهاك حق حرية ممارسة الشعائر الدينية، ومخالفة مبدأ الحيادية، الأمر الذي يقوض دور المؤسسات التعليمية في تعزيز لغة الحوار، والتفاهم الثقافي، والديني بين الطلاب من مختلف الثقافات والأديان.

كما أن قرارات حظر الرموز الدينية في بعض الدول الأوروبية داخل المدارس تعمل على تقويض اندماج الطلاب، وتعوق دور التعليم في كونه حائط الصد المنيع ضد الأفكار الشاذة والمتطرّفة، لأن التعليم هو الوسيلة الناجعة للتفاهم، وتناغم التنوع الاجتماعي، والثقافي، والإثني، والديني في المجتمع الذي يعيش فيه الفرد، سواء أكان مجتمعه الأم، أم لا.

فالمتأمل في السياق الأوروبي يجد أن قضية حظر بعض الرموز الدينية قضية مثيرة للجدل، وتختلف الآراء فيها؛ فبعض الدول تعتبر هذا القرار إعمالاً لمبدأ العلمانية، والبعض الآخر يعتبر أن قرار الحظر يُعزز مبدأ المساواة والعدالة بين الطلاب، ويحافظ على طابع العلمانية للتعليم العام؛ من أجل ضمان تكافؤ الفرص ومنع التمييز. ولكن المؤكد أن قرارات الحظر هذه تعد انتهاكًا للحق في الحرية الدينية، وقد تؤدى إلى تهميش أحد مكونات النسيج المجتمعي، وشعور بعض الأفراد بالعزلة، الأمر الذي يعوق عملية الاندماج.

ولتعزيز عملية الاندماج والترابط المجتمعي لابُد من التوازن بين حرية الممارسة الدينية والحفاظ على المبادئ العلمانية داخل المدارس الأوروبية، حتى يتسنى بناء مجتمعات متعددة الثقافات، وذلك من خلال تعزيز لغة الحوار، والتواصل، والتفاهم، والتعاون بين مكونات النسيج المجتمعي، وتشجيع المشاركة المجتمعية من أجل مكافحة كل أشكال التمييز والعنصرية.

وبالحديث عن هواجس نظريات المؤامرة التي تعوق عملية الاندماج، ومن بينها نظرية "أورابيا" (Eurabia)، فإن بعض الخبراء والباحثين يرون أنها "أضغاث أحلام" لأنها لا تستند إلى أي أدلة موثقة أو وقائع قوية. كما يعتبرها البعض الآخر بمثابة فرضية لتأجيج ظاهرة "الأعمال المعادية للإسلام والمسلمين" من جانب اليمين المتطرف في المجتمعات الغربية، وتعزيز ظاهرة "التحيز العرقي والديني" بين أفراد النسيج المجتمعي الواحد. فمعالجة إشكالية "حظر الرموز الدينية داخل المدارس الأوروبية" تتطلب مرونة وحوارًا مفتوحًا بين الطلاب، وأولياء الأمور، والمجتمع المحلي، والجهات الحكومية، من خلال تنظيم منتديات ونقاشات لتبادل الآراء وتبديد المخاوف واستلهام المقترحات، بما يسهم في بناء تفاهم مشترك، والتوصل إلى حلول متفق عليها. ولذلك تقترح الدراسة عددًا من الآليات، والتوصيات لحل هذه الإشكالية حلاً ناجعًا فعالاً، منها:

  • العمل على وضع مناهج تربوية وتعليمية سوية، تُبرز التنوع الثقافي والديني، وتهدف إلى تعزيز الفهم الصحيح، والتسامح لدى الطلاب –لا سيما في مراحل التعليم الأساسية– وتشجعهم على التعايش السلمي والاحترام المتبادل، وتغرس قيم الفكر النقدي، واحترام إنسانية الأشخاص، وتقبُّل الاختلاف في الرأي، وقبول الآخر، والتسامح، وإعلاء قِيمة الحوار، وغرس قِيم المواطنة، والتعايش، والوسطية.
  • تبني حزمة من الآليات العملية التطبيقية الداعمة للاندماج والتعايش السلمي بين الطلاب ذوي التنوع الثقافي والديني، بما يشجع التفاعل والتعاون بين الطلاب، من بينها: برامج تعليمية وثقافية مشتركة – معسكرات – رحلات – ندوات – تبادل ثقافي – أنشطة رياضية... بإشراف وزارات التربية والتعليم بالتعاون مع الوزارات المعنية بالأمر، وممثلي الديانات، وقادة الرأي، والفكر.
  • تنظيم ورش عمل لاستجلاء شواغل الشباب، ودعمهم والحوار معهم؛ فالحوار البنّاء يُعد ممارسة تربوية تيسّر إنتاجَ جيلٍ سوي أخلاقيًّا ونفسيًّا وعقائديًّا، يتعايش مع نفسه قبل تعايشه مع الآخرين، ويؤمن بأن الحوار قيمة حضارية إنسانية آمنة للتعارف، والتواصل الفكري، والثقافي، والاجتماعي.
  • تعزيز سياسة التسامح والاحترام المتبادل بين الطلاب والمعلمين، واحترام حرية العبادة من خلال المحافظة على التوازن بين حقوق الفرد في ممارسة شعائره الدينية، وحرية اختياره الشخصي، وبين ضرورة المحافظة على بيئة تعليمية متعددة الثقافات وتحترم التنوع.
  • ترسيخ سياسة الحيادية، والشفافية كمثالٍ حيٍّ على أرض الواقع في المدارس الأوروبية، وذلك من خلال تطبيق معايير موضوعية، ومنصفة، تشمل كل الأديان والمعتقدات دون أدنى تمييز.
  • سنُّ حزمةٍ من التشريعات والقوانين التي تضمن للإنسان الحق في التعليم داخل بيئة تعليمية آمنة، وتضمن نبذ كل أشكال التمييز، وتوفر المساواة بين جميع الطلاب بقطع النظر عن العرق، أو الجنس، أو اللون، أو الدين، أو اللغة.
  • تدشين نظام للمراجعة الدورية والتقييم المستمر للسياسات، والتشريعات المتعلقة بالرموز الدينية داخل المدارس، وتقييم مدى تأثيرها والامتثال لها، وذلك من أجل إجراء تعديلات وتحسينات تضمن إرساء العدالة، وتراعي التطورات الاجتماعية والثقافية المختلفة.
  • الترفّع عن إصدار لوائح تنظيمية مبالغ فيها ارتباطًا بملابس النساء، لا سيما الفتيات، في أماكن العمل، والأماكن العامة، والمدارس؛ مع ضرورة وضع سياسات عادلة متوازنة تحترم حقوق الأفراد في حرية التعبير الديني، مع تحديد المعايير والقواعد المتعلقة بالرموز الدينية داخل المدارس.
  • الحرص على أن تكون المدارس الأوربية بيئة تعليمية آمنة، حاضنة لكل الثقافات، والإثنيات، والأديان؛ ومرنة في التعامل مع الحالات الاستثنائية، ملبية للحاجة الدينية للطلاب، وفق مُثُل المساواة والعدل.
  • الحرية في استخدام الرموز الدينية للجميع، لا سيما في ظل تغطية الراهبات اللاتي يدرّسن في العديد من المدارس الأوروبية رؤوسهن لأسباب دينية، فضلًا عن وجود العديد من الرموز الأخرى كالصلبان داخل المدارس الحكومية.
  • توفير التوجيه، وبرامج الدعم النفسي والاجتماعي للطلاب الذين يعانون من تأثيرات سلبية من السياسات أو اللوائح المتبعة؛ وذلك لفهم التحديات ومواجهتها، والتعامل مع الضغوط النفسية الناشئة عنها، من أجل تشجيع المشاركة المجتمعية، والتفاعل الاجتماعي، والثقافي بين أطياف النسيج المجتمعي الواحد.

مرصد الأزهر... مجموعة عمل السياق الأوروبي

 

([7]) تختار الدولة الفرنسية "ممثليين للعلمانية"؛ وهم عبارة عن أشخاص تُعينهم الدولة لمساعدة مديري المؤسسات الفرنسية على تطبيق مبدأ العلمانية التي أقرتها الدولة، وفي حل المشكلات التي تواجههم في تطبيق مبدأ العلمانية.

 

([44]) Cfr. Antonino Ciavola, Burqa, chador e Costituzione europea, Altalex. Si veda: https://www.altalex.com/documents/news/2014/03/08/burqa-chador-e-costituzione-europea

([45]) https://www.bbc.com/arabic/worldnews/2010/05/100504_italy_muslim_woman_burqua

([46]) Cfr. Charlotte Matteini, Niente velo islamico nei luoghi pubblici: multe per le donne che lo indossano e carcere per chi le costringe. Si veda: https://www.fanpage.it/politica/niente-velo-islamico-nei-luoghi-pubblici-multe-per-le-donne-che-lo-indossano-e-carcere-per-chi-le-costringe/

([48]) Daniele Nuzzolese, Indossare il burqa o velo islamico: è vietato in Italia?   https://www.laleggepertutti.it/433899_indossare-il-burqa-o-velo-islamico-e-vietato-in-italia

([49]) بعد الوحدة الإيطالية، خاض الكرسي البابوي فترة من التوترات وصلت في بعض الأحيان إلى حالة من القطيعة بين الجانبين. وقد انتظر الإيطاليون حتى عام ١٩٢٩ لبلوغ اتفاقية تُنهي هذه القطيعة - ألا وهي اتفاقية "لاتران". أُدرجت نصوص هذه الاتفاقية بالدستور الإيطالي عام ١٩٤٨، وحصل الكرسي البابوي بموجبها على حق السيادة على الفاتيكان وممتلكاته. راجع مقال منشور بموقع العربية بعنوان: "اتفاقية أنهت نزاعاً بإيطاليا وظهرت بفضلها الفاتيكان". انظر الرابط:

https://www.alarabiya.net/last-page/2022/09/20/%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%86%D9%87%D8%AA-%D9%86%D8%B2%D8%A7%D8%B9%D8%A7-%D8%A8%D8%A7%D9%8A%D8%B7%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%B8%D9%87%D8%B1%D8%AA-%D8%A8%D9%81%D8%B6%D9%84%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D9%83%D8%A7%D9%86-

 

([50] (راجع مقال منشور بموقع بي بي سي عربي، بعنوان: "الفاتيكان يدين حظر تعليق الصلبان داخل مدارس إيطاليا".

 https://www.bbc.com/arabic/worldnews/2009/11/091103_af_crucifixes_tc2

([51])الرابط السابق.

طباعة