"إنهم كانوا قبل ذلك مترفين": قراءة في أحدث مخرجات داعش

  • | الثلاثاء, 6 فبراير, 2024
"إنهم كانوا قبل ذلك مترفين": قراءة في أحدث مخرجات داعش

     صدر العدد الجديد من مجلة النبأ الداعشية بتاريخ ١٨ من يناير ٢٠٢٤، وفيها عدد من المواد يتناول وصف الأحداث والمستجدات وتروج لأهداف التنظيم التي لا تخرج بالعادة عن اثنين، الأول: يخاطب عناصر التنظيم بهدف رفع الروح المعنوية والحث على تنفيذ عمليات إرهابية جديدة في أنحاء العالم. والثاني: يستهدف تجنيد ضحايا جدد؛ مستغلًا جهلهم بصحيح الدين. وفي هذا الصدد، حمل مقال: "إنهم كانوا قبل ذلك مترفين" مجموعة من الشبهات التي تستدعي الرد، وتفنيد الشبهات، وبيان فساد منطق داعش الإرهابي.

انتقد المقال أجواء "الترف والتنعم"، وحث المتلقي على ترك الدعة، والاستعداد للجهاد. والحق أنه يوجد تلبيس وخلط بين مفهومي: "الترف" و"التنعم"؛ فديننا الإسلامي دين وسطية واعتدال، ينهى عن الترف ويبيح التنعم. والإسلام –الذي يتحدث عن الحياة ويأمر بها ويحث الناس على عمارة الأرض– ينكر على هؤلاء الدواعش ما يقولون، لأنه يخصص لكل وقت ما يناسبه، من شدة ورخاء. فالله –عز وجل– يحب أن يرى أثر نعمته على عباده، ويأمر المسلمين بالزينة عند الذهاب إلى المسجد، وبالتوسعة على الأهل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا دون إسراف أو تبذير.

لكن التنظيم لا يكترث (من باب التدليس) لمعنى الترف وحقيقة مفهومه في حد ذاته، سواءٌ أكان إيجابيًّا أم سلبيًّا، فالمترف الذي تستغرقه النعم، والمنعَّم الشاكر كلاهما سيان عندهم. فهم لا يقصدون إلى تقويم السلوك وإصلاح المنهج، بل إلى إخراج الناس من واقع حياتهم الطبيعية والزج بهم في براثن فكرهم المعوج، ليكونوا أداة لجرائمهم الإرهابية. فالتنظيم يقدم نفسه باعتباره الممثل الأوحد للإسلام، فمن أراد الحياة فليعش في كنفه، ومن أراد الشهادة فلينضم إلى صفوفه، حسب زعمه.

ومن ثم، فالمقصد ليس الإصلاح، إذ العلاقة بين الترف والجهاد هي العلاقة ذاتها بين الترف والصلاة، أو الترف والعبادات الأخرى، ما يعني أن الصلة بين الترف والجهاد ليست حصرية؛ بل تتعدى إلى أطراف أخرى. وإن الأدلة التي ساقها المقال في ذم الترف لا تثبت هذه العلاقة على وجه الخصوص؛ فالله عز وجل ذم المعنى السلبي للترف على الإطلاق دون تقييده بنتيجة: {وإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء: ١٦)"؛ وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: ٣٤]؛ فالفسق والكفر الواردان في الآيتين الكريمتين لا علاقة لهما بالجهاد، أي إن هذه الأدلة تؤخذ عليهم، لأنها لا تُثبت حجية تربط بين الترف والجهاد.

وأما حث الله تعالى المؤمنين على الجهاد، ففيه تفصيل، أولًا: كان ذلك في سياق تاريخي واجتماعي وسياسي محدد. ثانيًا: يفضِّل الله عز وجل الحياة الآخرة على الدنيا عمومًا، وليس على الحياة المترفة؛ حتى إن الثلاثة الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك لم يفعلوا ذلك بسبب ترفهم، وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف –وكلاهما من العشرة المبشرين بالجنة- كانا من أثرياء القوم، ولم تشغلهم تجارتهم ولا ثراؤهم عن الجهاد في سبيل الله. ثالثًا: إن حرب المسلمين ضد الكفار كانت تحت قيادة رئيس الدولة أو بأمر منه، وأما شُذَّاذ الأفكار ضيّقو الأفق، مثل هؤلاء الإرهابيين، فحربهم تسمى حرابة حكمها إقامة الحد عليهم.

ووصف ربُّنا أفعالهم بأنها سعي في الأرض بالإفساد، لأن هؤلاء الإرهابيين يقاتلون ويقتلون المسلمين قبل غيرهم. رابعًا: لم يكن الجهاد في الإسلام غاية في حد ذاته، بل وسيلة للذب عن دين الله وأتباعه. فإذا تيسّرت سبل أخرى للتبليغ والدعوة دونما صدّ ولا عدوان على المسلمين فلا حاجة لجهاد الطلب، ويظل جهاد الدفع وحده مشروعًا بمقتضى الحال.

والآن –والحمد لله– سبل الدعوة كثيرة، من منصات إلكترونية، وتبليغ ودعوة داخل البلدان غير الإسلامية تحت إطار قانوني يحمي الجميع، ومن بينهم أهل الدعوة (مساجد ومحاضرات ومنتديات، إلخ). فما الحاجة إذًا إلى مثل هذه الطرق؟

وفي هذا السياق، يؤكد مرصد الأزهر لمكافحة التطرف ضرورةَ الحذر من تلك الدعوات والأفكار المسمومة نظرًا لخطورتها على المجتمعات. ويدعو إلى تعزيز روح الجماعة التي تستطيع بقوة أفرادها أن تهزم الشرذمة التي لم تستطع الصمود طويلًا في كل الحقب والأزمنة أمام الدولة القوية. لذا سيظل مرصد الأزهر حائط صد منيع أمام هؤلاء، لا يتوانى عن دحض حججهم الواهية وتصحيح ما يبثونه من أفكار مغلوطة، حتى يتبين للجميع زيف تلك الأفكار التي لا تتسق مع قيم أي دين أو شريعة من الشرائع.

وحدة رصد اللغة الإسبانية

 

طباعة