"معبد رام".. مسمار آخر في نعش الروح العلمانية في الهند

  • | الأربعاء, 7 فبراير, 2024
"معبد رام".. مسمار آخر في نعش الروح العلمانية في الهند

تُعاود قضية المسجد البابري التاريخي في الهند الظهور بين الحين والآخر، لتُذكِّر المسلمين في أنحاء العالم بهذا الحق الضائع منذ عام ١٩٩٢، فمنذ ارتكب متطرفون من الهندوس جريمتهم النكراء بهدم المسجد في السادس من ديسمبر عام ١٩٩٢ بزعم أنه أقيم فوق معبد "رام" الهندوسي، والصراع قائم بين المسلمين والهندوس في الهند من أجل إعادة بناء المسجد، وإثبات أحقية المسلمين بأرضه. إلا أن رئيس الوزراء الهندي "ناريندرا مودي" الذي يعمل على تحويل الهند من دولة ديمقراطية علمانية، إلى أمة هندوسية صريحة، افتتح المعبد الهندوسي الجديد يوم الإثنين الماضي الموافق ٢٢ من يناير ٢٠٢٤.

يأتي بناء هذا المعبد وفاءً بالتعهد الهندوسي الوطني الذي أُطلِق منذ عقود ببناء ضريح للإله "رام" في مدينة "إيودهيا"، التي يطلق عليها الزعماء القوميون الهندوس اسم "الفاتيكان الهندوسي"، تشبيهًا لها بمقر الكنيسة الكاثوليكية، إذ يرى كثير من الهندوس أن مدينة "إيودهيا" هي مسقط رأس الإله "رام"، وأن مسجد "بابري" بناه المسلمون على أنقاض معبد "رام" في المكان المحدد الذي ولد فيه الإله الهندوسي. ومما لا شك فيه أن تلك الأفكار تحث على الكراهية والعداء، والتعصب المفرط، وتتجلى بها صورة من صور التباعد الفكري القائم على تعصبات دينية ألقت بتداعياتها السلبية على المجتمع، إذ ينظر كل منهم إلى الآخر -وهم أبناء أرض واحدة- على أنه نِدٌّ – بل عدو ينبغي التفوق عليه لضمان البقاء، وذلك لشعوره بالاستعلاء على الآخر، وإيمانه بأن لجماعته الأفضليةَ المطلقة، وهو ما يعد عاملًا مهمًّا في نشأة الصراعات التي قد تصل في أحيانَ كثيرةٍ إلى المذابح والإبادة والإرهاب، أو ربما الحروب.

يعد المسجد البابري أحد أهم المساجد التاريخية في الهند، ومن أهم الشواهد الحضارية التي تركتها الإمبراطورية المغولية (١٥٢٠-١٨٥٩)، فقد شيده ظهير الدين محمد بابر (١٤٨٣-١٥٣٠) - أول امبراطور مغولي حكم الهند – في مدينة "إيودهيا" بولاية أورتاربراديش في شمال الهند. وفي أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، زعم المتطرفون الهندوس أنه بُني على أنقاض معبد بمكان مولد الإله "رام" المقدس لدى الهندوس، وجعلوها قضية شعبية، وقضية عامة للهندوس، وبدأوا ينظرون إلى المسجد كأنه علامة وشعار للغزو الإسلامي لهذه البلاد. فكانت أحداث عقد الثمانينيات بدايةَ مرحلة تصاعدية جديدة من تطرف الهندوس وعدائهم للمسلمين، وإيذانًا بحملة هندوسية دعائية زعمت أن كل مساجد المسلمين العتيقة قد بنيت على أنقاض معابد الهندوس، وهي الحملة التي سوغت هدم المسجد البابري، وما أعقبه من صدامات دامية أودت بحياة ألفي مسلم.

وحسب تقرير لصحيفة الجارديان، فقد استمر المسلمون في العبادة في المسجد "البابري" حتى عام ١٩٤٩، ففي ذلك العام تبنت مجموعة صغيرة من الهندوس المتشددين هذه القضية، وزعمت أن المسجد أقيم فوق حطام معبد هندوسي، وتعهدوا بتحرير الأرض وإعادة بناء المعبد. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد إلى استغلال الموقف للتشكيك في شرعية عموم المساجد، فطالب متطرفون هندوس في ولاية أوتاربراديش شمالي الهند بوقف دخول المسلمين إلى مسجد "عيد جاه" التاريخي الملكي الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع عشر؛ للتأكد من وجود آثار هندوسية من عدمها. وتصعيدًا للوضع، طالبت الجماعات الهندوسية في غرب الهند وجنوبها بتفتيش المساجد الأخرى. كانت السلطات في الهند قد أعلنت - في وقت سابق - أن المسجد "البابري" ملكية محل نزاع وأغلقت أبوابه، وحُسم النزاع في عام ٢٠١٩ عندما وصفت المحكمة العليا في الهند - في قرار مثير للجدل - هدم المسجد بأنه "انتهاك صارخ" للقانون، لكنها – في الوقت ذاته - منحت الموقع للهندوس؛ لإقامة معبدهم.

يأتي افتتاح هذا المعبد الهندوسي بعد معركة سياسية وقانونية طويلة، وقد احتفى به الحزب القومي الهندوسي الحاكم بزعامة "مودي" باعتباره وعدًا طال انتظاره وتحقق أخيرًا. واحتفل به المتطرفون الهندوس باعتباره دليلًا حيًّا على سيطرة الهندوس الذين ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم الأغلبية الدينية في الهند. كما يعد بناء المعبد وتدشينه علامة على أن هذا البلد هندوسي في المقام الأول. ومن المتوقع أن يبلغ التوتر الطائفي في الهند ذروته بعد افتتاح هذا المعبد رسميًّا؛ علمًا بأن تكلفة بنائه قدرت بنحو ٢٤٠ مليون دولار؛ إذ إنه بمثابة وضع الملح على جرح غائر، خصوصًا بعد تصريح "مودي" بأن تاريخ ٢٢ من يناير ٢٠٢٤ ليس مجرد تاريخ في التقويم - بل هو بداية لحقبة جديدة.

ومن خلال قراءة المشهد وتحليله، فإن احتفال التدشين هو بمثابة بداية غير رسمية لحملة رئيس الوزراء "مودي" للفوز بولاية ثالثة على التوالي في الانتخابات التي من المتوقع انطلاقها في مايو من هذا العام. ولهذا السبب، آثر قادة حزب المؤتمر المعارض وقادة هندوس آخرون عدم حضور حفل التدشين؛ إذ يرون أنه لا يعدو أن يكون مشروعًا سياسيًّا جرى تقديم موعده لتحقيق مكاسب انتخابية.

إن حكومة "مودي" الهندوسية الهوى والممارسات إذ تدشن معبد "رام" فإنها تدق بذلك مسمارًا آخر في نعش الروح العلمانية في الهند، فافتتاح المعبد يأتي بعد عدد من الإجراءات السياسية الأخرى التي نفذها "مودي" في سعيه لتعزيز أجندة حكومته القومية الهندوسية؛ ومنها: إقرار تعديلات قانون المواطنة المثير للجدل لسنة ٢٠١٩، الذي يمنح الجنسية الهندية للأقليات الدينية من الدول المجاورة ويستثني المسلمين، ويقوّض العلمانية التي يفرضها دستور الهند؛ فضلاً عن إلغاء وضع الحكم الذاتي الخاص لكشمير الخاضعة لإدارة الهند، وهي الولاية الوحيدة ذات الأغلبية المسلمة في البلاد. تتميز الهند بتنوعها الثقافي والحضاري والتعددية الإيجابية الحاضرة بقوة على مختلف المستويات، ولكن ما نراه اليوم من طمس واضح لحضارة المسلمين والتمييز الواضح ضدهم لا يليق بأكبر ديمقراطية في العالم وعليها ألا تتراجع عن مكتسبات شعبها بل أن تعزز بمزيد من الديمقراطية ومراعاة التاريخ المشترك وعدم تسييس مقومات التعايش السلمي الذي دائمًا ما يكون له مردود إيجابي على المستويات كافة.

طباعة