العدوان على غزة.. وما خفي أعظم

  • | الأربعاء, 28 فبراير, 2024
العدوان على غزة.. وما خفي أعظم

لا يزال العدوان على غزة مسيطرًا على عيون المتابعين من خاصّة وعامّة حتى إنها لَتَشْغَل جُلهم عن الانتباه إلى أمور أخرى لا تقل في أهميتها عن أهمية الحملة الباطشة التي يرزح الأبرياء تحت وطأتها في غزة. لذا فمن المفيد إبراز الجوانب المتروكة من هذا العدوان لإسناد الوعي وتأصيل التحليل وكشف الزيف.

بالعودة إلى السابع من أكتوبر يتجلى لنا أمران: (١) أن الاحتلال -وكل من يؤيده- يتخذ عملية "طوفان الأقصى" بداية للأحداث، وكأن المنطقة خالية من أي احتلال أو حصار أو ظلم بيّن ممتد لعقود؛ و(٢) أن الاحتلال يستدعي تلك العملية لتسويغ جرائمه، إذ كيف يطيق الاحتلال أو يصبر العالم على قتل ١٤٠٠ نسمة هم في المنظور اللاإنساني خير البشر، والواحد منهم بخمسين أو بخمسة وسبعين من الفلسطينيين كما قال دينيس روس الذي كان يومًا ما مبعوثًا أمريكيًّا خاصًّا للسلام في الشرق الأوسط!

ثم عاد متحدث باسم مجلس حرب الاحتلال إلى تقليص العدد إلى ١٢٠٠ "ضحية"؛ معللًا تلك المراجعة بأنهم اكتشفوا أن من بين القتلى ٢٠٠ من المهاجمين! لكن المسألة التي تبتغي هذه المقالة عرضها هي: هل كان عدد القتلى المعلن بأيدي المهاجمين فعلًا؟ أم أن توصيف "النيران الصديقة" له مساحة انطباق واسعة على ما حدث؟ لكن الإجابة عن هذا التساؤل قد يجعل الكلام محل رفض من الأصل لأنه يأتي ممن يُفترَض فيهم رفض ممارسات الاحتلال... ولهذا الطرح وجاهته؛ لأننا في زمنٍ الحقيقة فيه مجهدة بفعل التضليل الإعلامي. لذلك، قررت الاعتماد في هذا العرض على منطق لا يُرَد؛ ألا وهو: وشهد شاهد من أهلها!

هنا نجد أن موقع "غرايزون" (Grayzone) قد ورد بتاريخ ١٧ من أكتوبر ٢٠٢٣ أن جيش الاحتلال أبدى ردة فعل فوضوية لأن بداية رده على "طوفان الأقصى" كانت بضربات من الجو مستندة إلى معلومات ضئيلة للطيارين ولمشغلي المسيّرات؛ فكلما طلب هؤلاء أوامر عسكرية واضحة وأهدافًا محددة قيل لهم: "نفّذ!" وهذا ما تؤكده صحيفة "هآرتس" (Haaretz) العبرية بتاريخ ١٨ من نوفمبر ٢٠٢٣ نقلًا عن شرطة الاحتلال التي أفادت بأن المهرجان الموسيقي "سوبرنوفا" الأشهر في ليلة الهجوم تعرض لنيران صديقة من قصف بمروحية حربية كانت تريد استهداف المهاجمين، لكنها أصابت بعض المشاركين في المهرجان!

وعلى الرغم من ضخامة توظيف الاحتلال لمفهوم "الاستبكاء" بعرض صور منتقاة للمحتجزين وعقد عدد لا يكاد يحصى من المؤتمرات الصحفية لذويهم وبثها عبر وسائل الإعلام العالمية، نجد أن صحيفة "هآرتس" (Haaretz) (بتاريخ ١٣ من ديسمبر ٢٠٢٣) وموقع الانتفاضة الإلكترونية (بتاريخ ١٦ من أكتوبر ٢٠٢٣) قد نقلا عن إحدى الناجيات من المهرجان، واسمها ياسمين بورات، إنها فرّت من المهاجمين إلى قرية "بئيري" المجاورة، فلحق بها المهاجمون وأدخلوها بيتًا مع ١٣ محتجزًا آخرين. ثم رقّ لها أحد المهاجمين فأسلمها إلى قوات جيش الاحتلال إثر وصولها القرية؛ فما كان من جيش الاحتلال إلا أن أمر إحدى دباباته بإطلاق النار على البيت بمن فيه من أناس من المفترض أنه جاء لتحريرهم والدفاع عنهم؛ فهدم البيت على من فيه وقتلهم جميعًا؛ علمًا بأنه كان من بينهم طفل تغنّت الدعاية الصهيونية باعتباره ضحية للبربرية الفلسطينية!

وها هي صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية (بتاريخ ١٢ من يناير ٢٠٢٤) تؤكد أن جيش الاحتلال أصدر أوامر نافذة إلى قواته بمنع أية محاولة لعودة "إرهابيي حماس" إلى غزة "بأي ثمن"؛ مستدعيًا في أوامره عبارات من البروتوكول المعروف باسم "بروتوكول هانيبال" الذي يسمح باستهداف حملة الجنسية الصهيونية من العسكريين متى تعذر استنقاذهم – هذا على الرغم من التأكيدات المتكررة من جيش الاحتلال بإلغاء البروتوكول منذ ٢٠١٦. غير أن هذا البروتوكول لم يوضع أصلاً لاستهداف "مدنيين" محتجزين ولو تعذر استنقاذهم؛ وفي هذا تأكيد لحجم التخبط والارتباك الذي ساد، وإعلاء "سمعة" دولة الاحتلال وجيشها على كل مفاهيم حفظ الروح البشرية، فضلًا عن تكثيف الدعاية السوداء لطمس الحقائق وإلصاق تهم غير حقيقية بالمهاجمين الذين لا خلاف أصلًا على إيقاعهم قتلى في عمليتهم.

كذلك نجد صحيفة "هآرتس" (Haaretz) (بتاريخ ١٣ من ديسمبر ٢٠٢٣) تؤكد حدوث جدل شديد في الكيان الصهيوني إثر ظهور شواهد على أوامر عسكرية صهيونية بعدم إقامة اعتبار لحياة المحتجزين الصهاينة؛ وهو ما عقّب عليه أحد واضعي "مدونة أخلاق العمل العسكري" لجيش الاحتلال في الصحيفة نفسها (بتاريخ ١٧ من يناير ٢٠٢٤) فقال: هذه أوامر "غير قانونية، وغير أخلاقية، ومريعة بحق"!

في المقابل، وباستعراض الصحف الأمريكية منذ ٧ من أكتوبر ٢٠٢٤ حتى ٢٤ من فبراير ٢٠٢٤، نجد أن الصحيفة الوحيدة التي أتت على ذكر "بروتوكول هنيبال" كانت "نيويورك بوست" (New York Post) (بتاريخ ١٨ من ديسمبر ٢٠٢٣) لتقول: "أفاد أحد الرهائن لدى حماس بعد الإفراج عنه بأن عناصر حماس قالت له: إن القوات الإسرائيلية ستنفذ بروتوكول هنيبال السيء السمعة"، وتتابع الصحيفة فتقول: "هذا على الرغم من أن هذا البروتوكول ملغى منذ أمد، وكان محوره إلزام القوات بإيلاء الأولوية إلى القضاء على الإرهابيين حتى وإن استدعى ذلك قتل جندي مختطَف". أي إن الصحيفة حوّرَت الوقائع لتنفي عن المحتل وجود مرجعية عسكرية لما فعل، ولتضيف وصمة الكذب إلى الوصم المصبوب على الفلسطينيين جميعًا.

وفي السياق ذاته، عرضت صحيفة "نيويورك تايمز" (New York Times) (بتاريخ ٢٢ من ديسمبر ٢٠٢٣) تحقيقًا مطولًا عما حدث في قرية "بئيري"، فجاءت على ذكر ياسمين بورات لكنها تجاهلت ما قالته الناجية عن حادثة الاستهداف العمدي وفق بروتوكول هنيبال! بل قالت الصحيفة الأمريكية: إنه حدث اشتباك بالأسلحة مات بسببه اثنان من المحتجزين؛ ثم اضطر اللواء قائد العملية -بعد طول صبر وأناة، وبعد أن حل شفق الغروب- إلى إطلاق قذيفتين "خفيفتين" من الدبابة فقتل رهينة واحدة بشظية أصابت عنقه! ثم تقفز الصحيفة إلى أن عدد القتلى من المحتجزين بلغ ١٢ من أصل ١٤ دون بيان الأسباب!

أما عندما تصدت صحيفة "واشنطن بوست" (Washington Post) لموضوع القتل بنيران صديقة فقد جاءت بشيء عُجاب؛ إذ أوردت بتاريخ ٢١ من يناير ٢٠٢٤ أن الكلام عن نيران صديقة تسبب في مقتل صهاينة يوم ٧ من أكتوبر إنما هو من قبيل التضليل ونظريات المؤامرة! بل إن مراسلة الصحيفة في "وادي السيليكون" الأمريكي، واسمها إليزابث دوسكين، قد رفضت الموضوع من أصله، وشبّهت منكري الرواية الصهيونية للوقائع بمنكري المحرقة النازية (الهولوكوست)! بالتحليل نجد أننا أمام "تأطير واصم" يقدم الانتماء والاعتقاد على التقصي والحقيقة؛ وأعجب ما يكون هذا من أهل سلطة التقصي والتحقيق – الصحافة.

يزيد عجب المتقصي والقارئ إذا علما أن جُل المزاعم الرائجة لتسويغ الإبادة الجماعية التي تُرتَكَب ضد الأبرياء في غزة قد قوبلت بالنفي بمنطق "وشهد شاهد من أهلها" أيضًا؛ فالحديث عن ٤٠ طفلًا مقطوعي الرؤوس وعن رُضّع وُجِدوا متفحمين في الأفران (انظر استدعاء هذه الأساليب وربطها بفكرة أفران الغاز في المحرقة النازية!) ثبت أنه محض كذب كما أورد موقع "موندوفيس" (Mondoweiss، المتخصص في الشئون الفلسطينية والإسرائيلية والأمريكية) (بتاريخ ١ من فبراير ٢٠٢٤) وكذا موقع صحيفة "هآرتس" (Haaretz) العبرية نفسها (بتاريخ ١٨ من نوفمبر ٢٠٢٣)؛ حتى إن الصحيفة العبرية جزمت في تحقيقها بأن مقاتلي حماس لم يكن لهم علم مسبق بوجود "المهرجان الموسيقي"، مؤكِدةً أن عشرات المركبات المتفحمة في غلاف غزة وهي تحمل المقاتلين والمحتجزين في طريق العودة إلى غزة هي على الأرجح متفحمة بفعل استهداف جيش الاحتلال؛ وإلا: فما الذي يدعو المهاجمين لتحريقها بمن فيها وهم في طريق العودة؟!

المستفاد من كل ما سبق هو شيوع فكرة التضليل الإعلامي، وسعي وسائل إعلام دولية مسموعة إلى تضليل جمهورها وتخويفهم عن التساؤل المنطقي الاستقصائي باستدعاء التهم المعلبة من قبيل معاداة السامية وإنكار المحرقة النازية وغيرها. فهذه التقارير والشهادات عن الموت "بنيران صديقة" لا حظ لها من العرض العالمي؛ فما خفي أعظم... وما زالت فصول الحقيقة تتكشّف... وستظل كذلك حتى أمد بعيد على ما يبدو. وإذا قارنت ذلك -على فداحته وأهميته- بحادث سير على طريق سياحي في مصر ووجدته يتصدر الشاشات العالمية لعلمت إلى أين توُجّه عدسات الإبراز الإعلامي، ولأية غاية.

طباعة