طمس الهوية وفخ التطرف

  • | الأربعاء, 6 مارس, 2024
طمس الهوية وفخ التطرف

 

يُشكل المسلمون في الهند ما يقرب من ١٥٪ من سكان البلاد، وهم أكبر أقلية في البلد ذي الأغلبية الهندوسية. ومنذ انتخابات ٢٠١٤ ووصول حزب "بهاراتيا جاناتا" القومي الهندوسي للحكم برئاسة "ناريندرا مودي"، بدأ تهميش الأقليات؛ خصوصًا الأقلية المسلمة. وتصاعدت ممارسات التمييز ضدهم تصاعدًا ملحوظًا، فلا يوجد وزير مسلم في الحكومة الحالية للهند، كما لا يوجد نواب مسلمون ضمن أعضاء الحزب الحاكم، الأمر الذي لم يحدث في تاريخ الهند مطلقًا. اللافت لنظر المشاهد العادي في السنوات القليلة الماضية أن صوت الغلاة أصبح أشدّ علوًّا وهيمنةً على الصوت المنادي بالقبول والتعايش السلمي؛ حتى بدأنا نسمع عبارات من قبيل: "الهند أمة هندوسية"، أو "الهند للهندوس فقط"، فما سبب تحول المناخ السلمي للتعايش القائم على التسامح بين أبناء الهند إلى مناخ كراهية وعنف طائفي؟!

تعددت في الهند مظاهر استهداف الهوية الإسلامية التي يحاول الهندوس طمسها بكل قوة، وبدأت تلك المظاهر بالتصريحات المسيئة للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) على لسان المتحدثة السابقة باسم حزب "بهاراتيا جاناتا" الحاكم، "نوبور شارما" في مقابلة تلفزيونية، والمتحدث الإعلامي السابق للحزب "كومار جيندال" على مواقع التواصل، وشهدت الهند وقتها أزمات دبلوماسية عدة مع دول إسلامية.

ثم جاءت أزمة "منع الحجاب" بسبب منع فتيات مسلمات محجبات من دخول مدارسهن وكلياتهن؛ لرفضهن خلع حجابهن، وبخاصة في ولاية "كارناتاكا" التي يحكمها الحزب الحاكم. وازدادت الأمور سوءًا مع إقرار البرلمان الهندي تعديلات على قانون المواطنة عام ٢٠١٩، فاستثنى بموجبها المسلمين المهاجرين من حق اكتساب الجنسية الهندية، في حين منح حق اكتسابها للمهاجرين الفارين من الاضطهاد الديني في باكستان وبنغلادش وأفغانستان من أتباع الديانات السيخية والهندوسية والبوذية والمسيحية والجينية والزراداشتية، ما تسبب في موجة غضب عمت البلاد، وإشاعة مناخ عام للكراهية بين أبناء الوطن الواحد، وكأنهم تحولوا إلى مواطنين من الدرجة الثانية.

ثم تدهورت الأوضاع تمامًا في الآونة الأخيرة تزامنًا مع الحملات الانتخابية، لتشمل استهداف أماكن العبادة، ومعالم الحضارة الإسلامية في الهند، وإزالة الأسماء الإسلامية للمدن والشوارع واستبدالها بأخرى هندوسية، وإغلاق المدارس؛ بل إن المقابر لم تسلم من السياسة الممنهجة لأتباع حركة "هندو تافا" وحزب "بهاراتيا جاناتا"، بل وصل بهم الأمر إلى تغيير الكتب المدرسية، وحذف أي مناهج تُشيد بالمسلمين.

ويأتي هدم المساجد في وقت تشهد فيه الهند حملات اضطهاد واسعة وأعمال عنف ضد المسلمين من أتباع حركة "هندو تافا" المتطرفة وحزب "بهاراتيا جاناتا". وعلى الرغم من أن مشاهد العنف والهدم والقتل تُتداوَل على موقع التواصل الاجتماعي، فإن أحدًا لم يحرك ساكنًا، وكأنَّ هذه المشاهد صارت مألوفة للجميع. ورغم أنَّ سياسة هدم المساجد التاريخية ليست جديدة في الهند -إذ تعرض المسجد "البابري" للهدم عام ١٩٩٢ على يد هندوس متطرفين، بما تسبب حينها في مقتل أكثر من ألفي مواطن في خلال موجة العنف الكبيرة التي اجتاحت البلاد- فإن حملات هدم المساجد التي انتهجتها الحكومة الهندية إبّان فترة الانتخابات الأحدث في البلاد، قد أثارت موجة عنف عارمة.

فبعد تدشين معبد "رام" على أنقاض "المسجد البابري" في مظفر آباد، وافتتاح "ناريندرا مودي" له قبل أيام قليلة من الانتخابات الهندية، هدمت حكومة "مودي" "مسجد أخونجي" الذي يعود تاريخه إلى قرون مضت في نيودلهي ومعه مدرسة دينية مجاورة له، ودنس المتطرفون الهندوس القبور، وحرقوا المصاحف في المقابر المجاورة للمسجد، كما هدمت السلطات الهندية جزءًا كبيرًا من مسجد "شاهي" التاريخي الذي يتعدى عمره ٣٠٠ سنة في مدينة "إله آباد" بولاية "أتر برديش"، ومن الواضح أن موجة العنف من أتباع "هندو تافا" المتطرفة تتزايد، وأصبحت بالفعل تشكل تهديدًا للسلام الإقليمي بالبلاد. وقد يواجه كلٌّ من مسجد "فاراناسي" ومسجد "متهورا عيد كاه" وعدد من المساجد التاريخية الأخرى خطرًا كبيرًا، إذ ورد في تقرير تحليلي صادر عن «كشمير للخدمات الإعلامية»، أن: "حكومة مودي مهدت الطريق لتحويل مسجد "جيانفابي" التاريخي إلى معبد هندوسي في مدينة "فاراناسي" بدعوى أنه بُني على آثار معبد هندوسي قديم، وذكر التقرير أيضًا أنه جرى تحديد آلاف المساجد لهدمها وبناء معابد مكانها في الهند، وأن الكثير من المسلمين الهنود يشعرون بالقلق من أن كثيرًا من المساجد البارزة ستواجه مصير مسجد "بابري" في ظل حكومة حزب "بهاراتيا جاناتا".

والأمر لم يقتصر على إشعال فتنة طائفية في بعض المناطق، بل أصبحت سياسة ممنهجة تقودها الأحزاب القومية الهندوسية علانيةً للتحريض ضد المسلمين، فالاضطهاد مستمر، والعمل جارٍ على قدم وساق لمحو الهوية الإسلامية وتشويه معالمها، وأصبحت مشاهد هدم المساجد، وقرارات إلغاء المدارس، ومنع المحجبات من دخول المدارس مألوفة في الشارع الهندي، وكل ذلك وأكثر تعانيه الأقلية المسلمة في الهند، إلى جانب دعوات الإبادة الجماعية التي تلاحق المسلمين من المتطرفين الهندوس.

ويبقى السؤال: ما الغرض من كل حملات التشويه والاضطهاد التي يواجهها المسلمين في الهند؟! وهل الهدف من السياسة التي ينتهجها أتباع حركة "هندو تافا" المتطرفة محاولة استقطاب الأغلبية الهندوسية خلال الحملات الانتخابية باعتبارهم محافظين على حقوقهم؟! أصبح الوضع قاتمًا للغاية، وقد يؤدي بنا إلى منحنى خطر، فأي مكان تاريخي في البلاد أو معلم إسلامي يعبر عن الثقافة الإسلامية أصبح يمثل تهديدًا واضحًا للقومية الهندوسية التي يهدف أتباع الحزب الحاكم إلى ترسيخها وحدها في ظل الرؤية القومية الهندوسية للأحزاب اليمينية المتطرفة في الهند، وأصبح تيار التطرف في طريقه ليكون هو التيار السائد، وقد ساعده على ذلك لغة الاستعلاء الطائفي من أتباع الحزب الحاكم، حتى أصبح لها دور كبير في تصاعد الكراهية.

من جانبه يؤكد مرصد الأزهر لمكافحة التطرف أن تكرار تلك الاعتداءات في الآونة الأخيرة مؤشر خطير ومقلق، فإنه لن يؤدي في النهاية إلا إلى تصاعد حدة التوتر والتعصب بما لا يؤدي في النهاية إلا إلى ولوج أنفاق مظلمة من العنف والكراهية. وإنه لأمر مستغرب بالنسبة لأكبر ديموقراطية في العالم لطالما تميزت بالتنوع الاجتماعي والديني.

وحدة رصد اللغة الأردية

 

طباعة