استحلال الخمر... شبهة قوامها فهم مغلوط

  • | الأربعاء, 3 أبريل, 2024
استحلال الخمر... شبهة قوامها فهم مغلوط

انتشرت في الفترة الماضية شبهة عن إحدى آيات سورة البقرة التي تناولت مسألة شرب الخمر وتداولها؛ يقول تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (البقرة: ٢١٩)، إذ ظن البعض أن الله جعل في الخمر أمرين: {إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاس}؛ بمعنى أن النص القرآني لم يأمر أو يوضح للمتلقي هل الخمر آثمة أم نافعة، وأن موقف القرآن من الخمر في هذه الآية كان متناقضًا وضبابيًّا، ما أدى إلى فهم مغلوط أن النص القرآني خيَّر المسلم في شرب الخمر، وأشار الى منافعه، وبيّن اجتنابه، وعدَّد آثامه. وعلى ذلك، فلا يوجد نص واضح وجلي في تحريم الخمر أو في تعاطيه في هذه الآية.

وللرد على هذا الكلام نقول:

أولًا: لو كانت الآية فيها تناقض أو ضبابية كما فهم البعض لسبقهم إلى ذلك العرب منذ بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كانوا أشد حرصًا على أن يجدوا في القرآن مطعنًا، ليثبتوا أنه ليس وحيًا إلهيًّا، فلما أعياهم ذلك ادعوا أن القرآن من كلام السحرة.

ثانيًا: حينما يسأل أحد عن شيء ما مثلًا، فيجيبه من يخاطبه عن هذا الشيء بما فيه من إيجابيات وسلبيات فهل يعني ذلك أن هذه الإجابة فيها تناقض؟ كلا، فالسكين مثلا نافع لاستعمال الإنسان في حاجيات منزله كما أنها آلة الجزار مثلًا، وهذه إيجابيات السكين حين يستعمل لقطع شيء ما على سبيل المنفعة، لكن هذا السكين قد يستعمل في تخويف الناس وترويعهم أو الاعتداء عليهم بجرحهم وقتلهم؛ وهذا جانب سلبي.

فالآية فيها دلالة على أن الخمر مشتملة على مفاسد ومصالح؛ أما المفاسد فناتجة عن شربها من حيث الأذى بالنفس أو بالغير كالمخاصمة والمشاتمة، وأما المنفعة الحاصلة من الخمر فتكمن في بيعها وجلب المال، أو اللَّذَّة عند شربها (عند من يلتذّ بها من المدمنين)؛ لكن الحق سبحانه وتعالى قد ذيَّل هذا الأمر في الآية بأن الضرر الحاصل من الخمر أكبر من المنفعة المترتبة على ذلك.

ثالثًا: أن تحريم الخمر لم يأت مرة واحدة، وإنما جاء على فتراتٍ؛ رحمةً بالناس، كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: "إنَّما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ منه سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ، حتَّى إذَا ثَابَ النَّاسُ إلى الإسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ والحَرَامُ، ولو نَزَلَ أوَّلَ شَيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ: لا تَزْنُوا، لَقالوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أبَدًا" [أخرجه البخاري، الرقم: ٤٩٩٣].

قد راعى الإسلام نفسية هؤلاء الداخلين فيه وحالهم قبل مجيئه، فلم يحرم عليهم الخمر مرة واحدة، بل راعى جانب التدرج في تحريمه، حتى يستطيع الإنسان "المدمن" أن يقلع عنها. وعلى ذلك، نزل تحريم الخمر في القرآن من لدُن حكيم عالم بنفوس عباده، فجاء على مراحل:

المرحلة الأولى: أنَّ الإسلام قد ربط بين الخمر وبين الجانب المادي الذي ينتفع به الإنسان، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: ٢١٩]. ومقصود الآية أن الخمر والميسر مع ما فيهما من منافع مادية إلا أنَّهما يجران إلى الإثم؛ لما يجرانه على المرء من مشكلات اجتماعية، ولا شك أن هذا فيه نوع تنبيه لمن كان غافلًا عن تلك المشكلات التي تحدثها الخمر فهي مرحلة تمهيد وتنفير.

أما المرحلة الثانية: فقد نهى القرآن الكريم عن قرب الصلاة في حالة السكر، حتى لا تختلط القراءة على المصلي، وتوقيرًا لشأن الاصطفاف بين يدي الله، وتحقيقًا للتدريج المتمثل في امتداد مواقيت الصلاة على مدار اليوم والليلة، مع عدم إمكانية الصحوة من تأثير السُّكر بين أي صلاتين، فيطيل من اعتاد معاقرة الخمر الابتعاد عنها انتظارًا لليل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣].

وقال السيوطي في سبب نزول هذه الآية: "نزلت في أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يشربون الخمر ويحضرون الصلاة وهم نشاوى، فلا يدرون كم يصلون ولا ما يقولون في صلاتهم". وذكر في سبب نزولها أيضًا أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعامًا، ودعا أناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطعموا وشربوا، وحضرت صلاة المغرب فتقدم بعض القوم فصلى بهم المغرب فقرأ: قل يا أيها الكافرون فلم يقمها، فأنزل الله تعالى هذه الآية. [يراجع: أسباب النزول (ص: ١٥٧)]. ونلاحظ أن هذه المرحلة كانت الخمر على إباحتها، لكنها محرمة عند وقت الصلاة، ولا شك أن ترك شرب الخمر بعض الوقت فيه تعويد وتمرين للنفس على تركها بعض الوقت.

المرحلة الثالثة والأخيرة: وفيها حرمت الخمر تحريمًا باتًّا في جميع الأوقات والأحوال، ونزل فيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: آية: ٩٠].

مما سبق يتضح أن تحريم الخمر نزل على مراحل رحمةً بالناس وتحسّبًا لنفورهم من التكاليف الشرعية، وعليه فإنَّ آية الخمر الواردة في سورة البقرة -التي يظن البعض أنها متناقضة أو ضبابية- لم تنزل لتحريم الخمر ابتداءً، لكن آية لتحريم الخمر نزلت انتهاءً، فقال ربنا سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: ٩٠]. وقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} نص في التحريم، ودلت السنة النبوية المطهرة على تحريم الخمر فقال عليه الصلاة والسلام: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وكُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ، ومَن شَرِبَ الخَمْرَ في الدُّنْيا فَماتَ وهو يُدْمِنُها لَمْ يَتُبْ، لَمْ يَشْرَبْها في الآخِرَةِ". [أخرجه مسلم: (٢٠٠٣)، والبخاري بنحوه (٥٥٧٥) بنحوه] وانعقد الإجماع على ذلك.

ومن هنا يحذر مرصد الأزهر من تصدي البعض لتفسير آيات القرآن ذاتيًّا دون الرجوع إلى صحيح التفاسير أو دون الرجوع إلى أهل الذكر من العلماء المخلصين لأن تأويل القرآن أو تفسيره بما ليس فيه وبما يخالف مقصود الشرع الحنيف يعد نشرًا للفهم المغلوط للنصوص الدينية وعاملًا من عوامل التطرف الفكري؛ فالتفسير مجموعة من العلوم اللغوية والتاريخية والدينية التي يلزم الإحاطة بها تجنبًا للتقوّل على الله ورسوله. ولا يصح الاحتجاج باستدعاء حالة التحريم المرحلي كما كان في السابق، فقد كان التحريم المرحلي مخصوصًا بزمن نزل القرآن على أهله وهم على حال تقتضي هذا التدرج، وهذا غير قائم حاليًا. رزقنا الله صحيح الفهم.

                                    والله من وراء القصد،،،،،

وحدة رصد اللغة العربية

 

طباعة