اليمين المتطرف في إسبانيا وأمريكا اللاتينية وتشويه القضية الفلسطينية لخدمة أجنداته السياسية

  • | الأحد, 5 مايو, 2024
اليمين المتطرف في إسبانيا وأمريكا اللاتينية وتشويه القضية الفلسطينية لخدمة أجنداته السياسية

      في خضم الأحداث المتلاحقة في كل بقاع العالم، نجد أصحاب التوجهات الإرهابية والأفكار المتطرفة يسعون إلى استغلال تلك الأحداث في سبيل تحقيق أغراضهم الخبيثة. وعلى رأس القضايا المعاصرة تبرز القضية الفلسطينية؛ فنجد -مثلًا- أن التنظيمات الإرهابية التي تدَّعي الدفاع عن الدين تستغل هذه القضية في الترويج لفكرها المتطرف، وتدَّعي الدفاع عن القضية الفلسطينية في حين أنها تنفذ مخططاتها الإرهابية.
والأمر لا يختلف كثيرًا بالنسبة لتيار اليمين المتطرف، إذ يسعى أنصار هذا التيار إلى تشويه القضية الفلسطينية واستغلالها في سبيل تحقيق أغراضه الانتخابية وأجنداته السياسية مُدّعيًا الحفاظ على الهوية القومية والثقافية لمجتمعه. نتحدث هنا بصفة مركّزة عن أنصار تيار اليمين المتطرف في إسبانيا وبعض دول القارة اللاتينية، الذين سعوا بكل قوة في خلال الأشهر القليلة الماضية إلى استغلال التوترات الإقليمية والنزاعات السياسية لتعزيز أفكارهم العنصرية، إذ استغلوا القضية الفسلطينة لتوجيه انتقادات للحكومات أو للترويج لأفكارهم السياسية وزيادة أعداد المؤيدين لتوجهاتهم. وتعتمد التشكيلات اليمينية المتطرفة بصفة عامة على التحريض على الكراهية ضد الأجانب أو الأقليات العرقية أو الدينية أو الثقافية، وذلك على حساب التعايش السلمي والمساواة بين الأفراد، مستخدمين في ذلك وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر رسائلهم العنصرية وتأجيج الخلافات؛ وقد فعلوا ذلك في تعاملهم مع القضية الفلسطينية.
ففي مطلع أكتوبر ٢٠٢٣م، ومع بداية الحرب الصهيونية على قطاع غزة، شرع تيار اليمين المتطرف في إسبانيا -ممثلًا في حزب "فوكس"- في استغلال القضية الفلسطينية لتحقيق أهدافه السياسية والاجتماعية من خلال الترويج للعداء العنصري والكراهية تجاه الأشخاص ذوي الخلفية العربية والإسلامية، فاستغل هذه القضية ذريعةً لتسويغ تعصبهم العرقي والديني، وتسويغ عدائهم. وكان الأهم بالنسبة لهم هو استغلال القضية الفلسطينية سياسيًّا للتأثير في السياسة الخارجية وتعزيز السياسات التي تدعم مصالحهم السياسية والاقتصادية.
وبالفعل، بعد أن طالبت قيادات سياسية متعددة في إسبانيا بتقديم "نتنياهو" إلى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب "جرائم حرب"، سلطت الصحف والمواقع الإسبانية في نوفمبر ٢٠٢٣م الضوء على توجيه حركة حماس الفلسطينية الشكر لرئيس الحكومة الإسبانية "بيدرو سانشيث" ورئيس الوزراء البلجيكي "ألكسندر دي كرو"، على موقفهما "الواضح والجريء" في دعم فلسطين ورفض سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين في غزة. وردًّا على ذلك، أشار وزير خارجية الكيان الصهيوني "إيلي كوهين" إلى أن شكر حركة حماس لرئيس الحكومة الإسبانية ورئيس وزراء بلجيكا ومجاملتها لهما "مخزية" و"غير شريفة". واستغلالًا لهذا الموقف، وبنوايا سياسية فاضحة؛ هاجم حزب ‏"فوكس "اليميني المتطرف رئيسَ الحكومة الإسبانية بعد تلقي هذا الشكر، وطالب الحزب الشعبي بتوضيحات من رئيس الحكومة، قائلًا: "المهمة الدبلوماسية لسانشيث، الذي يمثل رئاسة الاتحاد الأوروبي، انتهت بشكر الإرهابيين له على جرأته". وذهب رئيس حزب فوكس، سانتياجو أباسكال، إلى أبعد من ذلك، واصفًا امتنان حماس لسانشيث بأنه "عار كامل على إسبانيا وأوروبا". وقال: "إن القائمين على واحدة من أكثر الهجمات الإرهابية قسوة ولاإنسانية واتساعًا في تاريخ البشرية يشكرون سانشيث على موقفه. وتنضم حماس إلى إيتا، التي تشكر سانشيث أيضًا بمنحه أصواتها. إن سانشيث عار كامل على إسبانيا وأوروبا".
1. وفي ديسمبر ٢٠٢٣م، زار رئيس حزب "فوكس"، سانتياجو أباسكال، الكيان الصهيوني حيث قدم دعمه لرئيس الوزراء الصهيوني "بنيامين نتنياهو" في حربه على غزة، وانتقد دعم الحكومة الإسبانية بقيادة "بيدرو سانشيث" لفلسطين. وخلال الزيارة، التقى أباسكال بعدد من قادة الكيان الصهيوني، معربًا عن "الخجل الذي شعر به معظم الإسبان من تصريحات بيدرو سانشيث والتصفيق الذي تلقاه من حركة حماس بعد إشادتها بالحكومة الإسبانية"، وذلك حسب وجهة نظره المغايرة تمامًا للواقع في المجتمع الإسباني. وقد سعى حزب فوكس من خلال هذه الزيارة إلى تعزيز "العلاقات الوثيقة" مع الحكومة الصهيونية وحزب الليكود، الذي يتزعمه "نتنياهو".
كما اتهمت الناطقة باسم حزب فوكس في البرلمان الإسباني، "بيبا ميلان" لدى مشاركتها في جلسة برلمانية، الحكومة الإسبانية بالتحالف مع التيارات المتطرفة، واتهمت السلطة التنفيذية بالتواطؤ مع حركة حماس؛ مشددة أن "الموقف الذي تتبناه الحكومة يشوه اسم إسبانيا ويضر به وبالعلاقات مع الكيان الصهيوني بعد سحب سفيرها مؤقتًا بسبب الموقف الذي أظهرته السلطة التنفيذية تجاه قضية لا يمكن التساهل فيها، إذ لا يمكن التساهل والوقوف إلى جانب القتلة".
وفي القارة اللاتينية، وتحديدًا في الأرجنتين، زار الرئيس الجديد للأرجنتين "خابير ميلي" في مطلع فبراير ٢٠٢٤م تل أبيب -عاصمة الكيان الصهيوني- حيث أعلن نقل مقر السفارة الأرجنتينية من تل أبيب إلى القدس باعتبارها عاصمة للكيان المحتل. ومن جانبه، احتفل رئيس الكيان الصهيوني "إسحاق هرتسوغ" عبر صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي بإعلان الحكومة الأرجنتينية نقل السفارة الأرجنتينية إلى القدس، وهو القرار الذي يرى الكيان المحتل فيه نقطة قوة في وقت حرج قد يزيد في تعقيد الأمور بين الجانبين الفلسطيني والصهيوني مع تسارع وتيرة العنف والقتل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة المنكوب. وهو القرار الذي مثل خطوة في الاتجاه الخاطئ في ظل إدانات عالمية واسعة للانتهاكات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
تخلل الزيارة إدلاء الرئيس الأرجنتيني ‏‏"خابيير ميلي" أيضًا بتصريحات دعا فيها إلى تدمير المسجد الأقصى ‏وتشييد الهيكل على أنقاضه لسرعة ظهور المسيح المخلص للشعب اليهودي. واستشهد في خطابه ‏بقصص من التلمود للحاخام عكيفا، جاء فيها ما يلي: "بعد تدمير المعبد الثاني على يد ‏الرومان، كان الحاخام الأكبر وزملاؤه يراقبون الهيكل (المسجد الأقصى المبارك) بعد أن تدميره ‏بالكامل، ورأوا ثعلبًا يخرج من ذلك المكان الأقدس، لا يمكن أن يكون هناك مشهد يخيب الآمال ‏أكثر من ذلك. وأمام ذلك المشهد المروع بكى الحاخامات في إشارة إلى ذلك الألم، ولكن الحاخام ‏الأكبر شرع في الضحك، فسأله زملاؤه: كيف له أن يضحك أمام هذه المأساة؟ فأجابهم بأن ثمة ‏نبوءة تتحدث عن تدمير ذلك المعبد، وأن نبوءة أخرى تقول إنه سيعاد بناؤه مرة أخرى، وأضاف: "والآن أرى ‏بأم عيني النبوءة الأولى، وأنا في غاية السعادة والأمل في أن النبوءة الثانية سوف تتحقق".‏
ولا شك أن هذه التصريحات المحرضة على تدمير مقدسات المسلمين ‏تطفح بالكراهية والتطرف اللذين لا يمكن أن يصدرا عن شخص مسئول، فضلًا عن رئيس دولة. ورغم ما يتعرض له أبناء الشعب الفلسطيني من حرب إبادة جماعية فإن الرئيس ‏الأرجنتيني يسير في مسار داعم للكيان الصهيوني غير مكترث بالأوضاع الإنسانية والدمار الذي ‏طال كل شيء داخل الأراضي الفلسطينية، وهو بذلك ينتهج مسارًا مخالفًا لموقف القارة اللاتينية ‏بأكملها الداعم بشدة لحقوق الشعب الفلسطيني.
وتأكيدًا لذلك، وعلى خلاف توجه حكومة اليمين المتطرف الأرجنتينية، نظّم أعضاء اللجنة الأرجنتينية للتضامن مع الشعب الفلسطيني مسيرة في ١٦ من فبراير ٢٠٢٤م، خرجت في شكل قافلة للمطالبة بوقف الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني. كما ندد المشاركون بنوايا حكومة "خابيير ميلي" بنقل سفارة الأرجنتين من تل أبيب إلى القدس. وجدد بيانهم إدانة الإبادة الجماعية التي ينتهجها الكيان الصهيوني في غزة وفي جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة، مع مطالبة الحكومة الأرجنتينية بعدم الاستمرار في دعم السياسات الإجرامية. كما طالبوا الرئيس الأرجنتيني "خابيير ميلي" بعدم التحدث باسم الشعب الأرجنتيني أو توريطه في التواطؤ مع الكيان الصهيوني في واحدة من أكثر الجرائم الشاذة في التاريخ المعاصر. وشددوا أن قتل المدنيين الفلسطينيين وما يعانونه من تجويع ومرض وتشريد مستمر أمر غير مقبول، وأن المجرمين وداعميهم والمتواطئين معهم سيحاسبون عاجلًا -وليس آجلًا- أمام الإنسانية جمعاء. وهذا يوضح يقظة ضمير الشعوب التي عارضت بكل قوة الممارسات الوحشية التي يرتكبها الكيان الصهيوني، وإن كانت الحكومة الأرجنتينية تسير في ركب العدوان، غير أن بوصلة الشعوب تقاوم بكل قوة هذا التوجه المشين، رافضين التواطؤ على حساب حياة الأبرياء وتشريدهم وسلب حقوقهم المشروعة، مع الجزم بضرورة محاسبة العدوان ومن يعاونه أمام القانون الدولي، وأن التاريخ لن ينسى جرائمهم.
وفي البرازيل، شهد البرلمان البرازيلي حالة من الجدل بسبب المجازر الصهيونية في قطاع غزة، وطَرْد عضو بالكونجرس ينتمى إلى تيار اليمين المتطرف لتأييده الكيان الصهيوني، بعد أن أعرب بصفاقة عن دعمه الإبادة الجماعية التي يرتكبها نظام الاحتلال في قطاع غزة المحاصر. ذلك العضو هو "أبيليو برونيني" الذي طرده ضباط الأمن من المجلس التشريعي البرازيلي بعد نشوب مشاجرة بينه وبين أعضاء الكونجرس المؤيدين للفلسطينيين في خلال جلسة عن الوضع في غزة والهجوم الوحشي الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في المنطقة الساحلية. وأعرب برونيني صراحة عن دعمه حملة الإبادة الجماعية، واتهم البرلمان البرازيلي بنشر "دعاية معادية للسامية". وصرخ البرلمانيون: "يجب القبض عليك أيها القاتل، أيها النازي، اخرج يا إرهابي"، وكان البرلمان البرازيلي قد دعا لحضور الجلسة عددًا من الشخصيات الفلسطينية للحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان التي يمارسها الاحتلال الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني وأرضه وممتلكاته وحريته، مطالبًا النواب البرازيليين بزيادة الضغوط على الكيان غير الشرعي وفضح ممارساته.
وبصفة عامة، إذا استعرضنا موقف حكومات إسبانيا وغالبية دول القارة اللاتينية منذ اندلاع الأحداث في أكتوبر ٢٠٢٣م فسنجد أن جميعها يدعم القضية الفلسطينية دعمًا واضحًا قويًّا، ويدين الهجمات الصهيونية وما تنتهجه قوى الاحتلال من إبادة جماعية وحشية ضد الشعب الفلسطيني. ومن أمثلة ذلك قيام رئيس حكومة إسبانيا "سانشيث" بجولة في أوروبا سعيًا إلى اعتراف دول الاتحاد الأوروبي (٢٧ دولة) بالدولة الفلسطينية. وقد أيدت كل من النرويج وأيرلندا وسلوفينيا ومالطا هذا الاقتراح. وبعد اجتماع للمجلس الأوروبي في منتصف أبريل ٢٠٢٤م‏ أكد "سانشيث" أنه سيمضي قدمًا في خططه لتنفيذ تلك الخطوة.
وفي يناير ٢٠٢٤م، انضمت البرازيل إلى كل من شيلي وبوليفيا في تأييد "الإجراء التاريخي الذي اتخذته" دولة جنوب إفريقيا، المتمثل في رفع دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد انتهاكات الكيان الصهيوني للقانون الدولي وارتكابه جريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. كما دعم رئيسا كولومبيا وبوليفيا نظيرهما البرازيلي بعد تشبيه ما يحدث في غزة بمحرقة اليهود ‏في منتصف فبراير ٢٠٢٤م. كما قررت الحكومة الشيلية بقيادة الرئيس "جابرييل بوريك" استبعاد الشركات التي تمثل الكيان الصهيوني من المعرض الدولي للطيران والفضاء ((FIDAE، الذي يُعد أحد أهم المعارض في مجال الأمن والدفاع والطيران في أمريكا اللاتينية. وقال "بوريك" في مؤتمر صحفي بتاريخ ٨ من مارس ٢٠٢٤م: "إن ما يحدث في غزة غير مقبول، ولا أعتقد أنه سيكون من الحكمة أن تأتي الشركات الصهيونية إلى شيلي لعرض الأسلحة في ظل هذه الظروف." وهذه التوترات ليست مقصورة على شيلي وحدها، بل حدثت مع دول أخرى في القارة اللاتينية مثل بوليفيا وكولومبيا والبرازيل.
وقد اتضح من هذا الاستعراض أن أحد أبرز أساليب تشويه اليمين المتطرف يتمثل في تصوير الفلسطينيين على أنهم إرهابيون، وتجريم النضال المشروع لحقوقهم الأساسية. كما يروجون لفكرة أن القضية الفلسطينية هي صراع ديني فقط، وبالتالي يحاولون جذب الدعم بناءً على العنصرية والإسلاموفوبيا، دون النظر إلى العدالة وحقوق الإنسان. كما يستخدم اليمين المتطرف وسائل الإعلام المحسوبة عليه لنشر الأخبار المضللة والمغلوطة بشأن الوضع في فلسطين، ويتلاعبون بالمشاعر الشعبية لكسب تأييد جماهيري.
وعلاوة على ذلك، يسعى اليمين المتطرف إلى التأثير في السياسة الخارجية لدوله من خلال التضامن القوي مع الكيان الصهيوني وتسويغ جرائمه وتقديم الدعم المطلق لها، بقطع النظر عن الانتهاكات التي يمارسها ضد الشعب الفلسطيني؛ فضلًا عن سعيه إلى عقد تحالفات مع نظرائه في دول أوروبية ولاتينية لنشر أيدلوجيته المتطرفة. ومن هنا لا بد من مواجهة هذا التيار الذي لا يقل خطورة وخبثًا عن التنظيمات الإرهابية، والعمل على نشر الرواية المضادة له، وتطبيق معايير الرقابة على استغلاله وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ومنع ممارساته التي من شأنها تضليل الشعوب واستقطاب أفرادها لخدمة أفكاره المتطرفة بما يحفظ أمن المجتمعات ويدعم استقرارها.

وحدة رصد اللغة الإسبانية

 
 
طباعة