الوحدة الوطنية وأثرها – نظرة دينية

  • | الخميس, 14 يوليه, 2016
الوحدة الوطنية وأثرها – نظرة دينية

أولًا: مفهوم الوحدة الوطنية:
اتفق الباحثون على أن مفهوم الوحدة هو اجتماع أشياء متفرقة في كيان واحد مضطرد أو تحت راية واحدة، أو يعني اجتماع المختلفين على كلمة جامعة.
وفي الفكر السياسي المعاصر تُعرَّف الوحدة على أنها اتحاد اختياريّ بين مجموعات أدركت أن وحدتها تكسبها تقدمًا أو قوة أو نموًا زائدًا، أي أنها تجلب بالأخير ميزات اقتصادية وسياسية مقارنة بوحدات أخرى، وتعزز مكانتها بينهم.
واختلف أصحاب القلم والفكر حول مفهوم كلمة وطنية هل هي العاطفة التي تميز ولاء الإنسان لبلده أو قبليته أو شعبه، أم هي ما يوصف بها كل شخص يقيم في الوطن كتعبير عن انتمائه لمجتمعه وتفانيه في خدمته والإخلاص له، هل هي إذن شعور بالوطن أم هي انتساب له بحكم الإقامة فيه؟
بحسب الثورة الهولندية في أواخر القرن الثامن عشر: "الوطنية هي إظهار الحب للبلد من خلال الرغبة في إصلاحه وتقدمه"، وحسب تعريف هارت: "الوطنية هي: حب الإنسان لبلاده، وولاؤه للأرض التي يعيش عليها"، وهذا هو التعريف الذي أميل إليه؛ إذ إن الشخص المقيم في الوطن إذا تجرد من هذا الشعور – شعور الولاء - يصبح مجرد مواطن مقيم لا ولاء له ولا وطنية، يستفيد من حقوقه ولا يؤدي واجباته على الوجه الأكمل.
وإذا التقت مفردة الوحدة مع مفردة الوطنية بهذا الفهم، نجد تباين في فهم معنى الوحدة الوطنية: وسأشير سريعا إلى بعض التعريفات الخاصة بالوحدة الوطنية:
عند جان جاك رسو الوحدة الوطنية هي قيام عقد اجتماعي بين الشعب والنظام السياسي القائم ، بحيث يتوحد الشعب في وحدة قومية مصيرية، وفي إطار من مسؤولية مشتركة يطيع فيها الفرد الحكومة ، التي هي نظام اجتماعي ارتضاه عن طواعية واختيار.
وعند رينان: الرغبة في العيش المشترك والحفاظ على التراث المعنوي المشترك والسعي لزيادة قيمة ذلك التراث، وعلى أساس هذا التعريف نرى أن الوحدة الوطنية تتمثل في أمرين: الأول يتعلق بالماضي، والآخر يتعلق بالحاضر، أي أنها قيم روحية وأخلاقية قبل كل شيء؛ لأن الوحدة الوطنية تظهر في الأمة التي تشترك في أمجاد الماضي من ناحية، ورغبات الحاضر، وآمال المستقبل من ناحية أخرى.
وبحسب تعريف عبد السلام إبراهيم بغدادي أن الوحدة الوطنية هي وجود نوع من الاتفاق والوفاق على ثقافة وطنية مشتركة وإطار من التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين النظام السياسي وأعضاء الجماعة الوطنية من جانب، وبين الجماعات الإثنية المختلفة (بعضها عن بعض) من جانب آخر بغض النظر عن انتماءاتهم الإثنية أو خلفياتهم الثقافية السياسية الفرعية أو انتمائهم الإقليمية أو القبلية أوالدينية.
وأكثر التعريفات اختصارًا نجده عند عبد الرحمن الكواكبي: تجمُّع الناس على أساس قومي بغض النظر عن الاختلاف في العقائد والمذاهب الدينية.
•    ما نستفيده من كل هذه التعريفات وغيرها هو أن الوحدة الوطنية هي أحد أهم مقومات أي وطن قوي، فهي مصدر تقدمه وازدهاره، هذه الوحدة تتجسد في أمرين هامين:
1)    تلاحم الشعب مع بعضه البعض من منظور اجتماعي تعاوني، لا يلعب فيه الانتماء الطائفي أو الإثني مرجعية
2)    تلاحم بين المواطنين وبين القيادة الوطنية من منظور سياسي أمني، مما يساعد على تحقيق الأمن وضمان الطمأنينة بين ربوع الوطن باعتبار أن الشعب يؤمن بوحدته الوطنية، يؤمن بها قائمة على التعددية في إطار منظومة الوحدة التي لا تفرق بين أحد إلا على أساس الكفاءة والإنجاز وما يقدمه للوطن من خدمات تدفعه إلى الأمام.
نستوضح من ذلك كله أن أي انشقاقات في الوحدة الوطنية، لها عواقب وخيمة تبدأ دائما بشيوع الكراهية الشعبية أو العزلة الاجتماعية، وقد تتطور هذه الكراهية أو العزلة إلى نزاعات طائفية، أو حروب مسلحة، تستهدف تقسيم الوطن على أساس إثني أو لغوي أو ديني أو طائفي.
ولذلك يجب دومًا تغذية الثقافة المجتمعية العامة بفكرة أهمية الوحدة الوطنية للحفاظ على المجتمع كبنيان وعلى الدولة ككيان، والتأكيد على أنه من أخطر الأمور على بقاء الدولة دون تفككها هو انشقاق وحدة الصف من خلال اللعب على وتر الأعراق والقبائل والديانات، أو من خلال استخدام مفاهيم تحاصر مفهوم الوحدة الوطنية مثل حضر و بدو أو مواطني الداخل والخارج أو أبناء المدينة وأبناء القرية أو مسلمين و غيرهم من الديانات أو سني وشيعي وما إلى ذلك؛ فهذه أمور تفرق بين أبناء الوطن الواحد وتخلق روح الكراهية وتغذي ظاهرة "القوي يأكل الضعيف" أو ظاهرة "الأقلية والأغلبية"، وفي الأخير هناك دول كثيرة تمزقت بسبب انشقاق الوحدة الوطنية، وليس بسبب عدوان خارجي.

ثانيًا: اصطلاح الوطن من وجهة نظر الدين
من الثابت في البحث العلمي الديني أن كل مفهوم يعترف به معتنقو الأديان يجب أن يؤصلوا له دينيا لكي يقدموا تعليلًا لقبولهم المصطلح، والتأصيل الذي يقدمه المسلمون تجاه مفهوم الوطن والمواطنة تأصيل جيد ينطلق من نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، إننا نجد أولًا كثيرًا من آيات القرآن أكدت على أهمية الوطن والتعاطي معه على أنه أساس لتحقيق المساواة للمواطنين المختلفين في الدين، واتجه المفكرون والعلماء المسلمون إلى تأكيد ذلك بعد سقوط الخلافة العثمانية في المنتصف الأول من القرن العشرين، وتحول أجزاء هذه الخلافة إلى أوطان تفصلها حدود جغرافية وتضم مواطنين مختلفين في الدين أو الطائفة، فلم يعد يسري على هؤلاء المواطنين مفاهيم فقهية تاريخية مثل الخلافة أو الولاية أو الذمة؛ لأنهم أصبحوا بعد فشل دولة الخلافة الإسلامية في حمايتهم جميعًا من القوى الاستعمارية، أصبحوا مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات، من الناحية التاريخية كانت تلك هي نقطة البداية للحديث عن مفهوم الوطن والمواطنة، ومحاولة تأصيله شرعًا، فبدأ العلماء المفكرون والكتاب يعلنون عدم تعارض مفهوم الوطن مع الدين الإسلامي بل إنه يؤصل له ويعترف به كقيمة عليا، ذلك أن الله تعالى ذكر في كثير من آيات القرآن الكريم ما يشير إلى ذلك، فقال مثلا: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ
فتحدث القرآن الكريم أولًا عن قوم أُجبروا على ترك أوطانهم، ثم تحدث عن دور العبادة التي لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت، وذكر مساجد المسلمين آخر الآية بعد أن تحدث عن الصوامع والبيع والصلوات، الأمر الذي يشير إلى مبدأ مساواة المواطنين الذين يسكنوا هذه الديار، وقال في آية أخرى: "والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم"،
فالآية قدمت الدار على الدين، بل إن الله تعالى ساوى بين المعتدين على الدين والمعتدين على الوطن وساوى بين المسالمين في الدين والوطن: ''لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم"،
بل إن الله سبحانه وتعالى يأخذ الميثاق على الناس ألا يخرجوا بعضهم بعضًا من أوطانهم فقال: "وإذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم''، وجعلها في آيات أخرى عقوبة من العقوبات الصارمة الرادعة: "وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا"

كل هذه الآيات وغيرها تؤكد على شيء واحد هو أن الوطن في حد ذاته ككيان قائم يعيش عليه الإنسان ويرتبط برباطه هو قيمة ومعنى، لا يجوز أن يُخرج منه الإنسان وعليه أن يقاتل دون ذلك، وأن جميع من يعيش في هذا الوطن مشتركون في هذه القيمة ومتساوون فيها.
ويكاد يتفق جميع من يرى المواطنة اصطلاحًا دينيا أن أول وثيقة كتبها النبي صلى الله عليه وسلم (وثيقة المدينة) تمثل الدليل الإسلامي الأقوى لشرعية مفهوم الوطن والمواطنة، وهي في تاريخيتها أقدم مما جاء في كتبه صلى الله عليه وسلم إلى نجران وغيرها من قبائل العرب، والتي كانت منهلا للفقهاء لتأصيل وتشريع مسائل أهل الذمة؛ فقبل أن يتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخول القبائل في ذمة الله وذمة رسوله، وأنهم آمنون بأمان المؤمنين، أثبت في وثيقة المدينة بعد الهجرة مباشرة أن "المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أمة واحدة من دون الناس [...] وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم". هكذا رسخ النبي صلى الله عليه وسلم مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات بين المسلمين واليهود في نموذج الوطن الأول في تاريخ الإسلام، قبل الدخول في معارك داخلية كانت سببا لنزول آيات قرانية تحمل لغة غاضبة على من لم يحترموا قيمة الوطن من اليهود.
كما يتجلى حب الوطن بأعلى صوره يوم الهجرة، بعد أن خرج من مكة، وقف على حدودها، والتفت إليها وقال: (ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك" أو "ماخرجت" يقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بعد نزول الوحي ودفاعه عن الدين الإسلامي في وجه من أشرك بالله في مكة، يؤكد وهو رسول الله أن قيمة الوطن وحبه أشياء لا ينزعها من القلب نازع.
بل إنه حينما قدم أصيل الغفاري إلى المدينة بعد الهجرة سأله:(يا أصيل! كيف عهدت مكة؟) قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها فقال: (حسبك يا أصيل لا تُحْزِنَّا)، وفي رواية: (ويها يا أصيل! دع القلوب تقر قرارها)

ثالثًا: دعوة لتأصيل المصطلح شرعًا
يتوجب بعد هذا الطرح أن يتم تأصيل اصطلاح الوطن والمواطنة فقهيًّا على غرار ما حدث من تأصيل مفاهيم مثل مفهوم أهل الذمة مثلا من قبل الفقهاء على مرور العصور الإسلامية، يجب إدخال مفاهيم الوطن والمواطنة في كتب الفقه الإسلامي ، بشكل يتوافق مع ثوابت الإسلام وشريعته والطابع الإسلامي المجتمعي، والنظام التشريعي الإسلامي العام للدولة، مع تقديم ضمانات تفصيلية تحول دون الرجوع إلى تصور يضع المواطن المخالف في العقيدة أو الطائفة أو غير ذلك موضع المواطن من الدرجة الثانية، والإشكالية هنا لا تعني أن فقهاء العصر مطالبون بسرعة تأليف فصول فقهية موسعة تخص المواطن غير المسلم ، لكن ربما تنقيح وتفنيد التراث (خاصة ما يخص الكتب موضع التعليم العام والتدريس الجامعي) بما يتواءم مع الحالة الجديدة التي بات عليها الوطن بعد سقوط الخلافة العثمانية.

رابعًا: نماذج لمفاهيم مغلوطة:
مفاهيم كثيرة مغلوطة وأفكار هدامة تحول دون ترسيخ مبدأ الوحدة الوطنية، أذكر منها على سبيل المثال فكرتين:
أولا: فكرة التشدق بالرجوع سريعا لنظام الخلافة الذي سقط، وهي فكرة قامت على نشرها في عصرنا الحالي جماعات متطرفة كثيرة في مقدمتها داعش التي اختارت خليفة للمسلمين وأعلنت كفر وحل دم جميع من لا يبايعه، وفي الحقيقة لا نعلم لما فعلوه أساسًا واضحا قاطعا بينًا في الدين الإسلامي، وليتهم يعلموا أن الوطن الذي تأتي فيه مقومات الخلافة من عدل ومساواة وتسامح هو خلافة، فقد اشتهر عمر  بن عبد العزيز مثلا أنه الخليفة الخامس الراشد لما رسخه في وطن المسلمين من عدل،
ثانيًا: الفكرة الثانية التي تواجهها الوحدة الوطنية هو تكفير المخالف في الدين أو الطائفة، ثم الانطلاق منها إلى إلى عزله أو استحلال دمه بدعوى أنه في النار، وتستخدم في ذلك غالبا لغة التخويف من ضياع العقيدة أو الدين بالتوازي مع لغة الوعد بالجنة ونعيمها وهكذا، وهذه الفكرة "فكرة عزل المخالف واستحلال دمه" هدمها القرآن حين أمرنا بالبر لهذا المخالف وإعلان الوحدة معه تحت راية الوطن أو الدار أو الأرض، وكيف يستقيم ذلك وقد أحل القرآن أكل طعام أهل الكتاب والزواج من نسائهم، وأوصى الفقهاء الزوج المسلم بإيصال زوجته إلى كنيستها حيث تصلي وانتظارها حتى تنتهي، وما قولهم في إعلاء قيمة الجوار للمشرك الذي قال فيه القرآن :"وإن استجارك أحد من المشركين فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه" إن كان هذا حق الجوار وقيمته، فما بالنا بحق الوطن وقيمته؟
هذا إذن تطرف في الفكر، هذا ليس تطرف إسلامي بل محاولة لأسلمة التطرف،  
الوطن إذن هو قيمة إنسانية عليا أكد عليها الإسلام، والولاء له مبدأ حياتي أقره الله سبحانه وتعالى في كتابه وأكد عليه بل انتقد سبحانه وتعالى من أخلوا به بل عاقبهم بالطرد منه، والولاء للوطن هو في عصرنا الحالي جُنّة من التمزق الذي يضرب جنبات الأمة العربية الإسلامية، الوحدة الوطنية هي الوقاية من الفكر المتطرف والمفاهيم التي تفسر بشكل مغلوط من شأنه هدم قيمة الانتماء للوطن والتمسك بوحدته.

د. محمد عبد الفضيل عبد الرحيم
منسق عام المرصد، والمشرف على الوحدة الألمانية

 

طباعة
الأبواب: قضــايا أخرى
كلمات دالة: مرصد الأزهر