شاع على بعض مواقع التواصل الاجتماعي شبهات تشكك في إمكانية وقوع طوفان نوح عليه السلام، وأنه محض كذب، واعتمدت الشبهة في قوامها على العقل؛ إذ يقول مثيرو الشبهة: "كيف استطاع نوح أن يذهب إلى القطب الجنوبي لكي يأتي بالبطريق أو الدب القطبي ليحمله في سفينة النجاة؟! وكيف نعتمد على نصوص دينية تخالف المنطق والعقل؟!"
والحقيقة أن القرآن الكريم روى قصة نوح عليه السلام، وأنه تعالى قد أرسله حين نسي الناس خالقهم سبحانه وتعالى، وعكفوا على عبادة الأوثان، وقد وردت سورة كاملة تحمل قصة نوح عليه السلام، كما جاءت قصته في سور كثيرة كيونس وهود وغيرها من السور، وحكى القصص القرآني عن سيدنا نوح أنه ظل يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وأنه صبر على أذاهم؛ فاستحق أن يكون من أولي العزم من الرسل.
ومما أوحى به تعالى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وأنه سبحانه وتعالى أراد أن يأخذهم بعذاب الاستئصال، وأن يغرقهم، فأمره ببناء سفينة عظيمة يحمل فيها من آمن بدعوته، وأن يحمل فيها من كل زوجيْن اثنيْن من الأحياء، وفعل نوح ما أمر به ربه سبحانه وتعالى، حتى إن أحد أولاده عليه السلام أبى أن يركب السفينة مع أبيه ظنًّا منه أن الماء مهما بلغ من الكثرة فلن يغرق الجبال العالية، فكان من المغرقين.
قال تعالى في سورة هود: ﴿وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن يُؤۡمِنَ مِن قَوۡمِكَ إِلَّا مَن قَدۡ ءَامَنَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ (36) وَٱصۡنَعِ ٱلۡفُلۡكَ بِأَعۡيُنِنَا وَوَحۡيِنَا وَلَا تُخَٰطِبۡنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ إِنَّهُم مُّغۡرَقُونَ (37) وَيَصۡنَعُ ٱلۡفُلۡكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيۡهِ مَلَأٞ مِّن قَوۡمِهِۦ سَخِرُواْ مِنۡهُۚ قَالَ إِن تَسۡخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسۡخَرُ مِنكُمۡ كَمَا تَسۡخَرُونَ (38) فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن يَأۡتِيهِ عَذَابٞ يُخۡزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيۡهِ عَذَابٞ مُّقِيمٌ (39) حَتَّىٰٓ إِذَا جَآءَ أَمۡرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ قُلۡنَا ٱحۡمِلۡ فِيهَا مِن كُلّٖ زَوۡجَيۡنِ ٱثۡنَيۡنِ وَأَهۡلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيۡهِ ٱلۡقَوۡلُ وَمَنۡ ءَامَنَۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٞ (40) وَقَالَ ٱرۡكَبُواْ فِيهَا بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡر۪ىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَآۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ (41) وَهِيَ تَجۡرِي بِهِمۡ فِي مَوۡجٖ كَٱلۡجِبَالِ وَنَادَىٰ نُوحٌ ٱبۡنَهُۥ وَكَانَ فِي مَعۡزِلٖ يَٰبُنَيَّ ٱرۡكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ ٱلۡكَٰفِرِينَ (42) قَالَ سَـَٔاوِيٓ إِلَىٰ جَبَلٖ يَعۡصِمُنِي مِنَ ٱلۡمَآءِۚ قَالَ لَا عَاصِمَ ٱلۡيَوۡمَ مِنۡ أَمۡرِ ٱللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَۚ وَحَالَ بَيۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَٰٓأَرۡضُ ٱبۡلَعِي مَآءَكِ وَيَٰسَمَآءُ أَقۡلِعِي وَغِيضَ ٱلۡمَآءُ وَقُضِيَ ٱلۡأَمۡرُ وَٱسۡتَوَتۡ عَلَى ٱلۡجُودِيِّۖ وَقِيلَ بُعۡدٗا لِّلۡقَوۡمِ ٱلظَّٰلِمِينَ (44)﴾ [الآيات: 36 – 44].
ومن المعلوم أن قصة نوح وإهلاك قومه بالغرق لم ترد في القرآن الكريم وحده، وإنما وردت في العهد القديم (التوراة). ومعلوم أيضًا أن القرآن الكريم هو أكبر معجزات النبي عليه الصلاة والسلام؛ فما أخبر به عن قصص من قبله من الأمم السابقة فهو حق وصدق لا ينبغي تكذيبه؛ ومعجزة سيدنا نوح شأنها شأن معجزات كثيرة التي لا يمكن للعقل محدود الإدراك والفهم أن يعيها أو أن يتصور كيفية وقوعها؛ فالمعجزات لا تخضع لقوانين الطبيعة المحدودة التي توصلنا إليها حتى الآن، فكثير من قوانين الطبيعة لم تُكتشف بعد، ولو حاولنا إخضاعها للقوانين المحدودة الآن لكان ضربًا من العبث السخيف، والعجز المحتم.
ولذلك، فإن من كمال الإيمان التصديق التام بالأمور الغيبية والمعجزات التي جاءت مؤيدة للأنبياء، التي حدثنا عنها القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، وإلا فكيف يُعقل أن يؤمن المرء ببعض الغيبيات مثل الرسل، والملائكة، والجن، والجنة، والنار، وينكر البعض الآخر بحجة أن العقل لا يصدقها؟! إذن فالأصل هو التصديق التام لأخبار القرآن الكريم وقصصه ومعجزاته وغيبياته؛ لأن التصديق التام دليل الإيمان الكامل بالله سبحانه وتعالى.
ورغم هذا فإنه يمكن التأكيد العلمي لإمكانية وقوع تلك المعجزة، ليتهاوى السؤال الذي أثاره مثيرو الشبهة "كيف استطاع نوح أن يذهب إلى القطب الجنوبي لكي يأتي بالبطريق أو الدب القطبي؟" أمام البحث العلمي؛ إذ استطاع علماء الجيولوجيا التوصل إلى كثير من المعلومات عن الأرض من آلاف السنين، ومن ذلك ما لاحظوه من أن كثيرًا من الجبال بها الكثير من الحفريات التي تضم عظام الأسماك؛ فعلموا من خلالها أن هذه الأرض الجبلية كانت تشكل بحرًا في يوم من الأيام، بل إن علماء الجيولوجيا قد اتفقوا على أن كثيرًا من المدن التي ضربها الطوفان منذ آلاف السنين غمر الماء جميع أقطارها، وقد تعاقب عليها الكثير من الحضارات، وما زال الحفر في طبقات كثير من المدن يدل على وجود مدن كاملة مدفونة تحت الرمال، ولا يُفسَر ذلك إلَّا بطوفان رهيب أتى على تلك المدن بأكملها. ولو أنهم سألوا أهل الاختصاص من علماء الجيولوجيا سيعرفون كثيرًا من الأمور التي توصل إليها هؤلاء العلماء بشأن هذا الموضوع وغيره من الموضوعات الأخرى.
والغريب أن الذين ينكرون معجزات الأنبياء وخاصة طوفان نوح عليه السلام، إنما ينكرون لأن عقولهم تستبعد أن يحدث هذا الأمر، وهذا طبيعي لأن المعجزات من خوارق العادات، وهذه الخوارق إنما تخضع لقدرة المولى عز وجل. وقد أثبت العلم هذا القدرة في بعض المعجزات وفق ما توصل إليه من تطور، في حين عجز العلم عن تفسير قدرته سبحانه وتعالى في بعض المعجزات الأخرى نظرًا لقصور العلم ونظرياته عن الوصول لذلك، وهذا لا ينفي إمكانية وقوع هذه القدرات الخارقة للعادات، لأنها خاضعة لله وحدة الذي يملك قدرة عظيمة وعلمًا واسعًا وحكمة بالغة يعجز العلم الحديث والعقل المحدود عن إدراكها.
وعلى ذلك فالمعجزات على وجه العموم، وطوفان نوح عليه السلام على وجه الخصوص ليس مستبعدًا في العقل، لا سيما أن الفاعل لهذه المعجزات هو الله تعالى.
هذا ويرى مرصد الأزهر أن الأولى بالإنسان في هذا العصر أن يسأل أهل الاختصاص في علومهم، ولا ينبغي للإنسان أن ينكر شيئًا أثبته العلم، أو أثبتته التجربة، وأن بعض الغيبيات التي أوردها القرآن الكريم قد أثبته العلم الحديث، فيما يوجد بعض آخر لم يقف العلم الحديث عليها حتى الآن نظرًا لقصور نظرياته ومحدودية العقل الإنساني، ولكنه في الوقت ذاته لم ينف إمكانية وقوعها رغم التطور الكبير في الوسائل والأدوات والتقنيات والعلوم الذي يشهده العالم الآن. ولا يزال العلم في تطور مستمر، ويكتشف يومًا بعد يوم حقائق كثيرة مما تحدث عنها القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة منذ ١٤٠٠ عام. وعليه فإن الغيبيات ومعجزات الأنبياء من الأمور التي يجب الإيمان بها لصدورها عن الخالق سبحانه وتعالى وهو علام الغيوب.
كما يقرر المرصد أن المنهج العلمي التجريبي لا يناسب المسائل الغيبية كما يسلم به أي عاقل، وإلا فما معنى الإيمان من الأصل؟! فمن الخطأ العلمي أصلاً أن يبحث أحد في مسائل غيبية بمنهج علمي تجريبي استكشافي؛ وهذا لا ينافي البحث والاستكشاف، لأننا مأمورون بذلك بقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} [العنكبوت: ٢٠]. وإن المرصد ليتساءل: أليس مثيرو هذه الشبهات المزعومة ممن يصرون في كل حين -بمناسبة وبغير مناسبة- على عدم "إقحام" النصوص الدينية في الحقائق العلمية؟! فما بالهم يخالفون ما يدعون إليه؟! أم أن المبتغى من وراء ذلك شيء آخر؟!