تشرق على الأمة الإسلامية ذكرى أشرف سيرة في الوجود لصاحب المقام المحمود، والحوض المورود، وخاتم الأنبياء والمرسلين؛ وهي ذكرى ميلاد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، نعمة من نعم الله تعالى على البشرية تفوق سائر النعم، قال الله تعالى: (لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَٰلٍۢ مُّبِينٍ)(1)
فذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم فرصة ذهبية للمسلمين ليتذكروا فيها التغيير الكبير الذي أحدثه صلى الله عليه وسلم بميلاده وبعثته وشريعته، فقد أخرج الناس من الظلمات إلى النور، أخرجهم من ظلمات الكفر والشك والوهم إلى نور الإيمان واليقين، بعد أن أظلمت العقول واستحكمت الأهواء، وطمست الفضائل، فأكل القوي فيها الضعيف، وسرق الغني الفقير، وشاعت في الناس أهواء وتقاليد فاسدة كوأد البنات، والذبح للأصنام والأحجار، وشرب الخمر، والربا، والزنا، وكانت الحروب تشتعل بين القبائل لأتفه الأسباب، فتزهق ضحيتها الأرواح، وتنهار المجتمعات، ويضيع الأمن، ربما في سباق خيل، أو كلمة شر بين رجل وآخر، بعد كل هذه المفاسد أذِن الله تعالى لنوره أن يظهر، ولهديه أن يستقر، ولنبيه صلى الله عليه وسلم أن يولد، فجاء الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فجمع الشمل ووحد الصف، وهدى الناس، وأنار العقول؛ فقال تعالى: (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (17) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(2)
لقد كان ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ميلادًا جديدًا للبشرية؛ في عقيدتها ودينها، وفي أخلاقها، وتعاملاتها، ولقد جسّد النبي صلى الله عليه وسلم معنى القدوة الصالحة، والحجة الواضحة، والسراج المنير للبشرية جميعًا، تجسيدًا واضحًا للمعاني السامية، والأخلاق الراقية، والرحمة العامة. فكان مبعثه صلى الله عليه وسلم إتمامًا لصالح الأخلاق حيث قال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)(3) فهدى الله تعالى به من بعد الضلالة، وأعلم به من بعد الجهالة، ورفع به بعد الخمالة، وألّف به بين أمم متفرقة، وشعوب مشتتة، وأهواء متنازعة.
ورغم ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من خير وكمال، نجد أن بعض الناس ينتقص من قدره الشريف صلى الله عليه وسلم، بل ويسيئون إليه إما بدافع الجهل، أو الحقد والعداء للرسالة الخاتمة، والدين القويم، ولو تأمل هؤلاء ما جاء به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من خير لكانوا له من الشاكرين، ولجنابه من الموقرين المعظمين، ألا يكفيه صلى الله عليه وسلم أنه وضع أسس المساواة بين البشر قائلًا: (يا أيها الناس: إن ربكم واحد، و إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، ألا هل بلغت ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فيبلغ الشاهد الغائب)(4)
ألا يكفيه هذا المعيار العادل الذي ترجوه البشرية جميعًا، والذي أُنزل على قلبه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (5)
كيف يساء إلى نبي كريم شهد له كل منصف، وكل صاحب عقل حكيم بأنه قائد الخير والإصلاح، نبي جاء بتعاليم تدل على نبوته ورسالته، وقد شهد بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من العقلاء والحكماء من غير المسلمين؛ بل ومن غير العرب أيضًا، منهم الشاعر الفرنسي "لامارتين" حيث يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن محمدًا أقل من إله وأعظم من بشر، إنه رسول)(6)، ويقول "آن بيزيت" في كتابه: "حياة وتعاليم محمد": "من المستحيل لأي شخص يدرس حياة نبي العرب العظيم وشخصيته ويعرف كيف عاش هذا النبي وكيف علّم الناس، إلا أن يشعر بتبجيل هذا النبي الجليل، أحد رسل الله العظماء، ورغم أنني سوف أعرض فيما أروي لكم أشياء قد تكون مألوفة للعديد من الناس، فإنني أشعر في كل مرة أعيد فيها قراءة هذه الأشياء بإعجاب وتبجيل متجددين لهذا المعلم العربي العظيم.)(7)
ويشهد بعظمة النبي صلى الله عليه وسلم وعظمة رسالته وشريعته، الأديب العالمي "ليو تولستوي" حيث يقول: "يكفي محمدًا فخرًا أنّه خلّص أمةً ذليلةً دمويةً من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريقَ الرُّقي والتقدم، وأنّ شريعةَ محمدٍ ستسودُ العالم لانسجامها مع العقل والحكمة. سوف تسود شريعة القرآن العالم لتوافقها وانسجامها مع العقل والحكمة.
لقد فهمت... لقد أدركت أن ما تحتاج إليه البشرية هو شريعة سماوية تُحِقُّ الحقَ، وتُزهِق الباطلَ. أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد الذي اختاره الله الواحد لتكون آخر الرسالات على يديه، وليكون هو أيضًا آخر الأنبياء".(8)
وختامًا؛ فلنعط رسولَ الله صلى الله عليه وسلم حقَه من التبجيلِ، والتوقيرِ، والتعظيم لشخصه الكريم، ولنبوته الغراء، ولشريعته التامة، ولهديه الشريف، ولنذكّر أنفسَنا في ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم بأخلاقه النبيلة، وجهاده المبارك، لإرساء قيم العدل والسلام والأخوة الإنسانية، ونصرة الضعيف، وإعانة المحتاج، وبذل النصح، ونشر العلم والفضيلة. مدركين أنَّ إحياء ذكرى ميلاد أعظم رسول، وأكمل بشر، وأنبل إنسان، إنما يكون باتباع سنته، والتزام خلقه، والاقتداء بهديه في الأحوال جميعًا، فمن حقه صلى الله عليه وسلم علينا أن نكون له من البارين، ولسيرته من الذاكرين، ولجنابه من المعظّمين. صلى الله على صاحب الذكرى وعلى آله وصحبه أجمعين.
**وحدة البحوث والدراسات**
الهوامش:
(1) سورة آل عمران آية (164)
(2) سورة المائدة الآيات (17-18)
(3) مسند الإمام أحمد بن حنبل، ح: 8952، والسنن الكبرى للبيهقي، ح:21303، ومصنف ابن أبي شيبة، ح: 31773.
(4) أخرجه الإمام أبو نعيم في حلية الأولياء (3/100)، والإمام البيهقي في شعب الإيمان (5137) بسند صحيح.
(5) سورة الحجرات الآية (13)
(6) المفكر والشاعر الفرنسي لامارتين من كتاب "تاريخ تركيا"، باريس، 1854، الجزء الثاني.
(7) آن بيزينت: حياة وتعاليم محمد دار مادرس للنشر 1932.
(8) حِكم النبي محمد صلى الله عليه وسلم، تولوستوي، الناشر: مركز إنسان للدراسات والنشر والتوزيع.