في إطار جهود "مرصد الأزهر لمكافحة التطرف" في سبيل رصد ظواهر التطرف الديني واللاديني ومكافحتها، عكف المرصد على متابعة ما يسمى "الأغاني القرآنية" التي اتخذت شكلاً متطرفًا من أشكال التعامل مع آيات القرآن الكريم بالتلحين والغناء.
وقد تجلى للمرصد -بعد النظر والتحليل- ما يلي:
أولاً: أن الحسابات المفتتحة لهذا الغرض مصطنعة بالذكاء الاصطناعي.
ثانيًا: أن الحسابات التي تروج لهذا التطرف لا يديرها شخص معروف أو أشخاص معروفون، بل يتوارون خلف تقنيات الذكاء الاصطناعي.
ثالثًا: أن هذا التطرف حريّ بأن يُخرج تطرفًا مضادًا؛ فهذا من خصائص التفاعلات الإنسانية.
رابعًا: أن اللون الموسيقي المستخدم في تلحين بعض آي القرآن ونبر كلماتها وترجيعها وغير ذلك إنما هي ألوان موسيقية غربية النشأة والثقافة والأداء، وهذا كاشف -ولو بمقدار يسير- لثقافة من اجترأ على هذا التطرف وغذى به نظم الذكاء الاصنطاعي لإخراج هذا المحتوى المأسوف منه.
خامسًا: أن تلكم الألوان الموسيقية هي ما يسمى "روك آند رول"، و"البوب"، و"الفَنْك"، و"التكنو"، و"البلوز"، وغيرها من الأشكال الموسيقية التي لم تعرفها الثقافة العربية إلا بالتلاقح مع ثقافات أخرى.
سادسًا: أن الحسابات المذكورة مصدَّرة بعبارات متزلفة للجمهور توحي "بتقديس" القرآن، وأنها تنشد "الابتكار" في عرض "القصص القرآني" ذي "الحكمة العابرة للأزمان".
سابعًا: على سبيل التدليس والتلبيس، يبرر منشئو تلك الحسابات مسلَكهم المنافي للذائقة العربية والبداهات الدينية بالاستشهاد بالحديث النبوي الشريف الصحيح: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالقُرْآن"؛ حاملاً معنى الفعل المجزوم "يتغنّ" على الغناء! وهذا كذب على المقام النبوي الأشرف ومخالفة لكل شراح الحديث ولكل المعاجم، لأن الفعل المذكور يعني "تحسين الصوت والجهر به"، أي معنى "التحبير" الذي جاء على لسنا سيدنا "أبو موسى الأشعري" عندما زكى النبي صلى الله عليه صوته بأن وصفه بأنه مزمار من مزامير آل داود. ومن الشراح من قال إن التغني في الحديث يعني الاستغناء، أي الاستغناء بالقرآن في مسائل الإيمان عما سواه.
ثامنًا: أن هذه الموجة المسيئة للقرآن الكريم وللمسلمين ولكل من يترفع عن ازدراء الأديان إنما هي نتاج اتحاد عوامل شتى من بينها إساءة استغلال العلم (الذكاء الاصطناعي)، وتراجُع حضور الثقافة العربية وما انبثق عنها من مخرجات ثقافية أصيلة.
تاسعًا: أن هذه الموجة المسيئة هي أيضًا إحدى نتائج ما يمكن تسميته "عولمة الذائقة الموسيقية"، ضمن إطار أعم وأشمل لفرض نمط ثقافي أوحد على العالم؛ يخترم الخصوصيات الثقافية، ويجترئ على النصوص المقدسة، ويطمس التنوع الفطري في البشر.
عاشرًا: أن ظهور هذا اللون التغريبي المسيء للقرآن الكريم بزعم تيسير حفظه بالتلحين إنما ينم عن التفات تام عما أودعه الله في القرآن الكريم من نغم وتحبير وجرس أصيل فيه وفي ترتيله وتجويده وتدويره وحدره، وتجاهل لخصيصة تلقّي القرآن بالمشافهة، واجتراء على تراث عظيم لقراءة القرآن بأصوات عذبة من شتى البلدان، خصوصًا مصر.
الحادي عشر: أن شيوع تلك الألوان الموسيقية عمومًا، والاجتراء على تلحين آي القرآن بها خصوصًا، إنما ينم عن هوان لساني ثقافي – فما عاد الشعر العربي العمودي ذو التفعيلة الذهبية يحظى بالقبول والتلقي، بل التلقف، كما كان، وليس حال النثر العربي بخير من ذلك.
الثاني عشر: أن عقودًا طوالاً من العولمة الثقافية باتت تؤتي أكُلُها المسموم؛ ما يوجب المواجهة الثقافية الفكرية؛ وإبراز جماليات النظم القرآني، وأسرار البيان العربي.
الثالث عشر: يهيب المرصد بالسلطة التشريعية الموقرة في مصر العكوف على سن قانون لتنظيم استخدامات الذكاء الاصطناعي، ففي ذلك ردع للمفتئتين، ودرء لمفاتن ومفاسد لا يعلم مداها إلا الله؛ وفيه أيضًا ابتدار القدوة نحو استنساخ التجربة التشريعية المصرية بهذا الصدد في بلدان أخرى.
الرابع عشر: اللواذ بالعربية وفنونها وأذواقها وجمالياتها طوق نجاة لأمة باتت شريحة من أبنائها تتحادث بأحرف غير عربية، وتستلذ الفنون غير العربية دون العربية، وتتعلم وتتثقف بغير لسانها الأم... من هنا كان حفظ القرآن الكريم ورواية الحديث وقرض الشعر مأمنًا من غائلة الفوات اللغوي. ولله در أمنا عائشة وسيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) إذ قالت: "روُّوا أولادكم الشعر، تعذب ألسنتهم"، وقال: "علّموا أبناءكم السباحة والرماية وركوب الخيل، وروّوهم ما جمل من الشعر"... فكأنما كانا يتكلمان من فم القَدَر، منبهين على ما يسميه المرصد "الأمن اللغوي"، الذي هو -ولا شك- من أعمدة "الأمن القومي".