مقومات العيش المشترك في الخطاب الإسلامي (3)

  • | الإثنين, 1 أغسطس, 2016
مقومات العيش المشترك في الخطاب الإسلامي (3)

(3) منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التأسيس لبناء دولة قوية، من خلال السلم العام والعدالة الاجتماعية.

بوصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، بدأت الفترة التي تؤسس للدولة الإسلامية ذات الأبعاد العالمية فبدأ صلى الله عليه وسلم بتأسيس البناء الذي تنطلق منه الدبلوماسية الإسلامية والديوان الذي يمارس فيه صلى الله عليه وسلم السلطات الثلاث- التشريعية، والقضائية، والتنفيذية-فضلاً عن إقامة الشعائر الدينية. ذلك هو المسجد النبوي الشريف الذي اشترك صلى الله عليه وسلم في بنائه بنفسه، وهو ينشد:" اللَّهُمَّ إِنَّ الأَجْرَ أَجْرُ الآخِرَهْ، فَارْحَمِ الأَنْصَارَ، وَالمُهَاجِرَهْ " [صحيح البخاري 5/60-رقم 3906].
وقبل أن يصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة (يثرب سابقا) كان قد عقد بيعتين مع جماعة من أهل المدينة من الأوس والخزرج، التقاهم صلى الله عليه وسلم بالعقبة مرتين في موسمين للحج وبايعوه على الإسلام وواعدوه بالنصرة له، فقالوا في البيعة الثانية: تَكَلَّمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَخُذْ لِنَفْسِكَ، وَلِرَبِّكَ مَا أَحْبَبْتَ، قَالَ: فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَلَا وَدَعَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ، قَالَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ» قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ  أُزُرَنَا، فَبَايِعْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فبايعهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإسلام، وهذا من باب السياسة، حتى إذا هاجر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة يكون قد سبقه أمره، وأذيع خبر بعثه بين الناس، فإذا ما وصل وجد من يستقبله، فيكون ذلك أدعى للالتفاف حوله، وقد سجل القرآن الكريم نموذجا لهذه البيعة فيما سميت ببيعة النساء في سورة الممتحنة، فقال تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة:12].
فلما قدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، أقبل عليه الناس وفي مقدمتهم النساء والصبيان. ففي الصحيح عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ مُقْبِلِينَ - قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ - مِنْ عُرُسٍ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُمْثِلًا فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ». قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ. [صحيح البخاري 5/32 رقم: 3785]. وجاء عبد الله بن سلام سيد اليهود بالمدينة، مستقبلا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: "أشهد أنك نبي الله حقا، وأنك جئت بحق".
وحيثيات هذه الشهادة استوحاها عبد الله بن سلام من المنهج الجديد الذي ارتبط برسالة الإسلام وأوجزه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كلمته، وهو مشرف على المدينة. حيث روى الإمام أحمد  عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ نفسه قَالَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ فَكُنْتُ فِيمَنْ انْجَفَلَ فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ يَقُولُ:" أَفْشُوا السَّلَامَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ".[مسند أحمد: 23784].
وهكذا أسس الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للبعد الثقافي والفكري للدولة الإسلامية، إفشاء السلام، بدلاً من الحرب والصدام، سد حاجة الفقراء ونشر ثقافة التعاون على البر والتقوى بدلاً من التقاطع والتدابر، الاعتصام بالدين، وإحياء العبادة لتغذية الروح ليلاً، لينشط البدن نهاراً للكسب والمعاش.
وفي الصحيح عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا». [صحيح مسلم: 4/1983- رقم: 2559].
وحتى تكون البيئة المدنية صالحة لنشر رسالة الإسلام، لابد أن تسترد عافيتها، وتستجمع قوتها، وتؤمن مسيرتها، ويقوم تحالف القوى فيها على الخير، وفقاً لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ذلك أن الوضع السياسي في المدينة (يثرب) كان يقوم على قُوى ثلاث: الأوس، والخزرج، واليهود، وكانت الحرب بين الأوس والخزرج تشتعل أحيانا بتدخل اليهود. فتارة كان النصر للخزرج، وأخرى للأوس، وكانت العداوة بينهما ظاهرة نظراً لتمسك العرب بعادة الثأر والانتقام، وكانت آخر الحروب بينهما حرب يوم بُعاث، وكانت الهزيمة من نصيب الخزرج..إلى أن حلّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، فحالف بين الأوس والخزرج، وأنعم الله تعالى عليهم بنعمة الإسلام. [محمد رسول الله ص157-158].
فنزع منهم حُبُّ الإسلام الميل إلى العصبية والحميّة، ثم آخى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين المهاجرين ومجموع الأوس، والخزرج [الأنصار]، وكتب كتاباً بذلك.
روى الإمام أحمد عن عمرو بن شُعَيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار: أن يعقلوا مَعَاقلهم، وأن يَفْدُوا عانِيَهم بالمعروف، والإصلاح بين المسلمين.[مسند أحمد3/113- رقم: 2442].
وقد سجل القرآن الكريم الحالة التي كان عليها الأوس والخزرج قبل الإسلام، إلى أن غيّر الله وضعهم بعد الإسلام، فأصبحوا بنعمة الله إخوانا. وهي مرحلة من مراحل تغيير الوضع السياسي، أعلنها القرآن في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا } [آل عمران:103].
وفي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ }. [الأنفال:72].
ومن باب التشجيع على الولاء والتحالف بين عناصر الأمة كمقوّم من مقومات الاستقلال السياسي، امتدح الله عز وجل المهاجرين والأنصار، فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.[الأنفال:74].
وبهذه الأخوة في الدين، والمعاش، تغيّر الوضع السياسي للمدينة من تفرق وعداوة إلى ولاء وانتماء. وانصهر الجميع في أمة واحدة، قامت على أكتافها الدولة الإسلامية في مراحلها المبكرة، وامتدحها الله عز وجل في القرآن الكريم فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران:110].
وبهذا النسيج الاجتماعي الجديد، باتت الأمة كأنها الجسد الواحد، فشكلت القوة الصالحة لحمل رسالة رب العالمين، إلى العالمين.
وعلى الأمة الإسلامية المعاصرة أن تراجع نفسها، وتستصحب الحال الذي كان عليه أهل المدينة، قبل الإسلام وبعده، لتغيّر الأمة من وضعها الحالي الذي يتسم بالتقاطع والتدابر، إلى وضع تستحق فيه أن يلفها شعار { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ }.
وإكمالا للجانب السياسي، التفت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الشريك في الوطن –ولو كان من غير المسلمين-ليضمه إلى عناصر القوة في المجتمع، ويؤمن وجوده لمصلحة الوطن. لذلك وادع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهود المدينة وعقد معهم معاهدة سجلها في وثيقة رسمية، تُعد نموذجا فريداً في حقوق الإنسان العامة، وحقوق غير المسلمين خاصة، وكتب لذلك كتاباً، أمَّن فيه اليهود على دينهم، وأموالهم، وشرط لهم، واشترط عليهم.
ومما جاء في نص المعاهدة: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ «هَذَا كِتَابٌ مِنْ محمد النبي الأمي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ إِنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ، ... وَإِنَّهُ مَنْ تَبِعَنَا مَنْ يَهُودَ فَإِنَّ لَهُ النَّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصَرٍ عَلَيْهِمْ، ... وَإِنَّ الْيَهُودَ يتفقون مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ، وَإِنَّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمَّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ مَوَالِيهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنَّهُ لَا يُوتِغُ  إِلَّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَإِنَّ لِيَهُودِ بَنِي النَّجَّارِ وَبَنِي الْحَارِثِ وَبَنِي سَاعِدَةَ وَبَنِي جُشَمَ وَبَنِي الْأَوْسِ وَبَنِي ثعلبة وجفنة وبنى الشطنة مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ،... وَإِنَّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النَّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ بَيْنَهُمُ النُّصْحَ وَالنَّصِيحَةَ وَالْبِرَّ دُونَ الْإِثْمِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَأْثَمِ امْرُؤٌ بِحَلِيفِهِ، وَإِنَّ النَّصْرَ لِلْمَظْلُومِ، وَإِنَّ يَثْرِبَ حَرَامٌ حرفها  لِأَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وَإِنَّ الْجَارَ كَالنَّفْسِ غَيْرَ مُضَارٍّ وَلَا آثِمٍ، وَإِنَّهُ لَا تُجَارُ حُرْمَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا، وَإِنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوِ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنَّ مَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى محمد رسول الله، وان الله على من أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ.."[البداية والنهاية 3/225].
وهكذا عقد الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الألفة بين عناصر الأمة المتنافرة، وجعل الأمن والحماية هما عنصر القوة في أي أمة، تريد أن تعظّم شخصيتها بين العالمين، وأعلن بذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن طبيعة النظام السياسي لكل أمة في المنهج الإسلامي. الولا، والانتماء، والوحدة والاتفاق، التلاحم الاجتماعي بين أبناء الأمة الواحدة مسلمين وغير مسلمين، أخذاً من قوله تعالى: { وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52].

 

طباعة
كلمات دالة: