الرد على شبهة إنكار حادثة الفيل

  • | الخميس, 17 أكتوبر, 2024
الرد على شبهة إنكار حادثة الفيل

انتشر حديثًا على بعض مواقع الإنترنت شبهة يدعي فيها بعضهم عدم حدوث "واقعة الفيل"، مستندين في هذا إلى عدم وجود آثار حسية تدل على ذلك؛ حيث إنَّ النقوش التي تركها أبرهة الحبشي في اليمن، بما في ذلك النقوش التي تركها على سد مأرب، تؤكد أنَّ أبرهة كان رجلًا مسيحيًّا ولم يكن وثنيًّا، وأنَّه توفي عام 535م وليس 570م كما يزعم المؤرخون القدماء.

والجواب:

قبل أن نرد على هذه الشبهة، نوضح أنَّ حادثة الفيل قد ذُكرت في القرآن الكريم، وفي سورة من قصار السور، سميت بسورة الفيل، يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ (1) أَلَمۡ يَجۡعَلۡ كَيۡدَهُمۡ فِي تَضۡلِيلٖ (2) وَأَرۡسَلَ عَلَيۡهِمۡ طَيۡرًا أَبَابِيلَ (3) تَرۡمِيهِم بِحِجَارَةٖ مِّن سِجِّيلٖ (4) فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفٖ مَّأۡكُولِۭ (5)﴾ [سورة الفيل].

والمتأمل في سبب نزول هذه السورة على الرسول ﷺ يجد أنها نزلت تذكيرًا لقبيلة قريش بما فعله الله بأصحاب الفيل -الذين حاولوا هدم الكعبة- وبانتقامه منهم، فقد أهلكهم بطيور تحمل حجارة من سجيل؛ ففي السورة تذكير بقدرة الله تعالى على العتاة وانتقامه منهم لا محالة.

فالكعبة لم تكن قبلة لأهل مكة وحدهم، بل كانت قبلة لكل المؤمنين سواء في شبه الجزيرة أو في خارجها، فحين نزل أبرهة على مكة قاصدًا البيت فرَّ أهل مكة ولم يستطيعوا أن يدافعوا عن بيت أبيهم إبراهيم، فخرجوا إلى أعالي الجبال ينظرون ويترقبون العودة إلى ديارهم بعد انتهاء جنود أبرهة من هدم البيت الحرام، وهنا تولى الله الدفاع عن بيته وحرمه، فأرسل سبحانه كما تحكي سورة الفيل: "طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل"، فجعل أولئك الجنود الذين قدموا ليهدموا البيت كعصف مأكول، أي: جعلهم محطمين كأوراق الزرع اليابسة التي أكلتها البهائم، ثم رمت بها.

ولقد كانت حادثة الفيل من الشهرة بمكان عند أهل مكة، وكان الناس يتناقلون هذه الحادثة بالتواتر، فلو لم تحدث هذه الواقعة لكان هذا مثارًا للطعن في القرآن الكريم، وللطعن في رسول الله ﷺ؛ فنزلت هذه السورة لتؤكد صدق رسالته ﷺ، رغم أنه كان ملقبًا عندهم بالصادق الأمين.

ولكن عندما دعا ﷺ أهل مكة للإسلام بعد نزول الوحي عليه، رفض كثير منهم دعوته، واتهموه بما هو منه براء، وقد سجل القرآن الكريم هذه التهم. ومن تلك الاتهامات؛ أنه ساحر كذاب، قال تعالى: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ﴾ [ص: ٤]، واتهموه بأنَّه يتحدث معهم بالأساطير والخيالات التي لا حقيقة لها في الواقع، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥]. واتهموه بأنَّه قد تعلم القرآن من آحاد الناس، وأنه ليس من عند الله، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣] وقال تعالى أيضًا: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾ [الفرقان: ٤]. واتهموه بالجنون، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [الحجر: ٦].

فكان لا بدَّ بعد كل هذه الاتهامات من نزول سورة على النبي ﷺ تذكيرًا لقريش، وتصديقًا للنبوة، وإبطالًا للتهم التي وجهتها قريش للنبي ﷺ، وهي سورة "الفيل".

والمتأمل في أسلوب الاستفهام التقريري الذي بدأت به السورة بقوله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ﴾، يشعر بأنَّ المخاطب -وهم العرب- يعلمون بالقصة علمًا ظاهرًا؛ نظرًا لشيوعها وشهرتها، ولو لم تكن لواقعة الفيل حدث لطعن المعاصرون في الإسلام، ولكانوا أشد حرصًا على تكذيبه لما أورده من كلام لا علم لهم به ولم تتناقله سيرهم وحكاياتهم وأشعارهم.

ومن المعلوم أنه ﷺ قد هاجر من مكة إلى المدينة حين اجتمع أهل مكة على قتله، لكنَّه عاد إلى مكة فاتحًا لها بعد ثمان سنوات، وقد ذكرهم بحادثة الفيل، ولو لم تحدث هذه الواقعة لكذبه أهل مكة، فعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ مكة قَامَ فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ..» [أخرجه البخاري، رقم (2302). ومسلم برقم (1355)].

أما بالنسبة للمنكرين الذين نفوا واقعة الفيل بدعوى عدم العثور على دليل مادي - كالنقوش المنحوتة في بعض بلاد اليمن – بخصوص واقعة الفيل، فنقول لهم: الأصل أنَّ عدم العلم بالدليل ليس علمًا بالعدم، وعدم الوجود ليس نفيًا للوجود. فكما أنَّ الإثبات يحتاج إلى دليل، فكذلك النفي يحتاج إلى دليل، فلربما تظهر الأجهزة الحديثة في المستقبل ما هو خفي الآن. ثم إنَّ من عادة الملوك أن يدونوا انتصاراتهم لا هزائمهم، فضلًا عن أنَّ مضامين النقوش مجرد أخبار شأنها شأن الأخبار التي تعتريها احتمالات الوهم والغلط. ثم من أدرى هؤلاء بدقة نسبة النقوش المستدل بها إلى أبرهة المقصود بسورة الفيل؟ وهل يستطيع المنكرون الجزم بحصر نقوش تلك الفترة حصرًا تامًّا؟ علاوة على ما سلف، أليس من المنطقي أن نتساءل: كيف ننتظر نقوشًا تأريخية من ملك أبيد هو وجيشه وانتهى مُلكُه؟!

وعليه فلا يجوز اختزال الاستدلال في حقائق التاريخ في النقوش وغيرها من الآثار الحسية، وترك الأخبار القطعية وأدلة العقل الواضحة، لأنَّ ذلك يعد من قبيل الاختزال في مصادر المعرفة، وهو خلل منهجي، وها نحن قد أثبتنا وقوع هذه الحادثة من خلال التاريخ، ومن خلال القرآن الكريم الذي هو أصح الكتب وأعلاها منزلة؛ وإذا كان أهل العصر أدرى بحقائقه، فكيف نقبل طعنًا لم يلتفت إليه الناس في حينها؟ وبمعنى آخر: هل يمكن للمنكرين أن يثبتوا واقعة واحدة لإنكار معاصري الأحداث وبداية الدعوة الإسلامية لواقعة محاولة هدم الكعبة كما روتها سورة الفيل؟

وأمَّا قولهم: بأنَّ أبرهة توفي عام 535م وليس 570م كما يزعم المؤرخون القدماء، وأنَّه قد غزا الكعبة في هذا الوقت، بما يعني وجود فارق زمني قوامه 35 سنة، فنقول بشأنه: إن هذا الكلام لا أساس له من الصحة، ولا علاقة لتاريخ وفاة أبرهة بذلك، بل هو منقول عن بعض المؤرخين المستشرقين المعارضين لما أخبر عنه العرب بالتواتر، ولذلك علينا أن نأخذ بالدليل القطعي؛ لأنَّه مقدَّم على الدليل الظني، فضلًا عن أن الدليل الظني ضعيف؛ لأن ظنية تحديد تواريخ الوفاة أمر شائع، ويدخله الغلط كثيرًا.

ويرى مرصد الأزهر أنَّ الحقائق التي ذكرها القرآن عن الأمم السابقة مما يستمر المنكرون في التشكيك فيها؛ بغية زعزعة قدسية الوحي في قلوب الناس، إنَّما هي حقائق ثابتة بالتواتر الذي هو أحد طرق العلم اليقيني، والقصة حصلت للجيل السابق للنبي ﷺ (في زمن أقاربه)، ولو كان فيها أدنى شك لما تبعه أحد أصلًا. ومن المؤلم حقًّا أن نرى بعض المسلمين يشكك في المتواترات! وأن يوجد بعض المنتسبين للأمة ممن يقبل التشكيك فيما أجمع عليه علماء الأمة، بل وعامتها، وفي هذا دليل للأسف على الجهل بقيمة علوم المسلمين وضعف المعرفة المؤدية إلى الإيمان والتصديق، الأمر الذي يجعل الإنسان هشًّا يقع ضحية لكل من يغالط.

والله من وراء القصد.

وحدة الرصد باللغة العربية


 

طباعة