على مدار عقود تكبد المسلمون ويلات شبح ظاهرة مقيتة تُسمى "الإسلاموفوبيا"، والتي إن صدقنا مع أنفسنا سنجد أن علينا تصويب المسمى ذاته حتى يتسنى لنا مناقشته وتفنيده على الوجه الأكمل بدلًا من الانسياق خلف مسميات صُنعت لنا لنقع فريسة في شباكها أبد الدهر.
فالمتأمل في مصطلح "الإسلاموفوبيا" يجد أنه يوحي بوجود خوف أو رهاب مرَضي تجاه الإسلام نفسه، مما يوحي بمعنى "معاداة الإسلام"، الأمر الذي يجعل مرتكب الجُرم في نظر الطب والعُرف معذورًا باعتباره مريضًا لا يمكنه دفع الضُر عن نفسه، رغم أن جنايته قد تفضي إلى حد إزهاق روح إنسانية بريئة. وبما أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فحريٌّ بنا أن نتخير المسميات وأن نصوغ المصطلحات بشكل أكثر دقة. وبقراءة أحداث المشهد الكلي لتلك الظاهرة ومآلاتها، نخلُص إلى أن المصطلح الحقيقي البديل الذي يجب أن يعبر عن ظاهرة الإسلاموفوبيا هو "معاداة المسلمين" وليس "معاداة الإسلام"؛ حيث اتضح من خلال البحث في القانون الدولي أن هذا القانون معنيٌّ بحماية الأفراد دون الأديان؛ لذا يتحتم علينا تسمية الظاهرة بما يتلائم مع مجرياتها، ويضمن حفظ حقوق من يعانون من تفشي خبثها.
وقد خلُصت نتائح تحليل المركز البريطاني للرقابة الإعلامية (CFMM) إلى أن ما يقرب من نصف التغطية الإخبارية لمنصة (GB News) البريطانية على مدار عامين عمدت إلى تصدير صورة سلبية عن المسلمين. وأوضح الباحثون القائمون على التحليل أن الروايات التي تم ترويجها حول الإسلام "سلبية للغاية"، مما يكشف مدى إخفاق الإعلام في فهم الطبيعة المتنوعة للمجتمعات المسلمة في المملكة المتحدة. وليس هذا فحسب، بل إن تلك الرؤية الإعلامية يمكن أن تتسبب في إثارة التوترات وزعزعة الاستقرار المجتمعي. وهنا ذكر المسؤول التنفيذي السابق لشركة وسائل الإعلام بلندن، ستيوارت بورفيس، أن نتائج التحليل من شأنها أن تثير تساؤلات للجهات المسؤولة عن تنظيم البث.
وكشف التحليل الذي استغرق عامين أن قناة GB News ذكرت كلمة "المسلمين أو الإسلام" أكثر من 17000 مرة في مخرجاتها الإخبارية، أي ما يعادل 50% من إجمالي الإشارات الواردة في القنوات الإخبارية البريطانية، يليها قناتا BBC و Sky News الإخباريتان على التوالي بما يعادل 32% و 21%.
كما أن قناة GB News سلطت الضوء على القصص المحلية مقارنة بالقنوات المنافسة لها في هذا الصدد. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تم تصوير الأمر مؤامرةً لتقويض بريطانيا أو تشويه نمط أسلوبها الحياتي. ليس هذا فحسب، بل تمت الإشارة إلى "الإسلاموفوبيا" في قناة GB News حوالي 1180 مرة، أي ما يعادل 60٪ من جميع الإشارات، حال مقارنتها بقناتي BBC و Sky News الإخباريتين.
فعلى سبيل المثال، خلال أعمال الشغب التي اندلعت الصيف الماضي، كانت قناة GB News مسؤولة عن 62% من جميع المقاطع التي بثتها قنوات الأخبار البريطانية، والتي ربطت بين المسلمين وأعمال الشغب، بل وصورت المسلمين مرارًا وتكرارًا باعتبارهم مرتكبين وليسوا ضحايا للعنف، في حين أنها قللت من أهمية الهجمات على المساجد والجاليات المسلمة، وعمدت إلى ترويج صور نمطية بعينها، ووصم المجتمع المسلم البريطاني بأنه "العدو" أو "المشكلة"، وتم غض الطرف تمامًا عن تأثير التطرف اليميني في ظل الارتفاع المثير للقلق في الكراهية ضد المسلمين من عام لآخر، والذي بات جليًّا في أعمال الشغب التي اندلعت هذا الصيف؛ حيث تم استهداف المساجد والجاليات المسلمة بشكل علني.
وعلقت مديرة المركز البريطاني للرقابة الإعلامية (CFMM)، رضوانة حامد، قائلةً: "قبل دخول قناة GB News إلى المشهد الإعلامي البريطاني، كان معظم انتباهنا يتركز على التمثيل الخاطئ للمسلمين والإسلام في المطبوعات والمنشورات عبر الإنترنت؛ نظرًا لأن لوائح البث كانت دائمًا أكثر صرامة من هيئة تنظيم الصحافة. ومع ذلك فإن مدى الكراهية المعادية للمسلمين بالقناة وغض الطرف عن محتواها الضار يوحي بأن السياسيين والمعلقين قد حصلوا على تفويض مطلق لتشويه سمعة المسلمين والإسلام بصورة غير مسبوقة". وعلى الجانب الآخر، علق المتحدث باسم قناة GB News قائلًا: "هذا التقرير غير الدقيق والتشهيري مجرد أنانية ومحاولة ساخرة لإسكات حرية التعبير، بل إنه يكشف لنا عن السبب في وجود منظمة إخبارية مثل GB News، وعن السبب في نجاحها!!!"
وبقراءة تلك التحليلات ومثيلاتها، وربطها بنتائج استطلاعات الرأي التي كشفت اللثام عن فداحة الجرائم المرتكبة جراء معاداة أتباع فئة دينية بعينها، حيث بات من الضروري أن تتخذ الهيئات التنظيمية والحكومية إجراءات حاسمة، وأن تطبق قواعد الحياد؛ لضمان عدم استخدام منصات البث لتأجيج الكراهية والتطرف، الأمر الذي قد يصل في كثير من الأحيان إلى إزهاق أرواح إنسانية بريئة.
لذلك، فإن ظاهرة الكراهية ضد المسلمين، التي تروج لها بعض المنصات الإعلامية، تمثل تحديًا حقيقيًّا لا يقتصر فقط على تشويه صورة المسلمين، بل يمتد إلى زعزعة استقرار المجتمعات وتعميق الانقسامات.
وقد أكدت الدراسات أن هذه الظاهرة ليست مجرد حالات فردية، بل هي جزء من نمط مقلق ومتكرر في التغطية الإعلامية، يعزز الصور النمطية السلبية ويشوه حقائق المجتمعات المسلمة.
ومن ثم فإن مرصد الأزهر الشريف لمكافحة التطرف يوصي بالتالي:
1- ينبغي على الجهات المنظمة للبث الإعلامي مراجعة محتوى القنوات الإخبارية، ووضع معايير صارمة لمكافحة خطاب الكراهية، خاصة عندما يستهدف المسلمين.
2-ضرورة دعم المنصات الإعلامية التي تقدم تقارير متوازنة وغير منحازة عن المجتمعات المسلمة، والتأكيد على أهمية الالتزام بالمهنية الإعلامية.
3-إطلاق حملات توعوية تسلط الضوء على التنوع داخل المجتمعات المسلمة وتساهم في بناء جسور التفاهم بين الثقافات المختلفة.
4-إنشاء هيئات مستقلة لتوثيق جميع حالات التحريض الإعلامي ضد المسلمين، ونشر تقارير دورية لتوعية الجمهور وصناع القرار بخطورة الظاهرة.
5- العمل مع قادة المجتمع المدني والسياسيين للتصدي للخطاب الإعلامي المعادي، وتعزيز قيم التعايش السلمي والمواطنة.
لهذا، أصبح من الضروري أن تتضافر الجهود بين مختلف الأطراف للحد من تنامي ظاهرة الكراهية ضد المسلمين. فالإعلام ليس مجرد ناقل للأخبار، بل هو قوة مؤثرة في تشكيل الرأي العام، ولا ينبغي أبدًا أن يصبح أداة لنشر الكراهية أو تعميق الانقسامات.
وحدة الرصد باللغة الإنجليزية