الخرافات والتنبؤ بالغيب: بين العلم والوهم وتأثيراتهما النفسية والاجتماعية

  • | الأربعاء, 1 يناير, 2025
الخرافات والتنبؤ بالغيب: بين العلم والوهم وتأثيراتهما النفسية والاجتماعية

رغم التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي حققه الإنسان في العصر الحديث، فإن الخرافات وممارسات التنبؤ بالمستقبل ما زالت تشكل جزءًا من حياة الكثيرين، سواء كان ذلك عبر قراءة الأبراج والاعتماد عليها كمصدر لاتخاذ القرارات، أو استشارة المنجمين والعرافين، أو تصديق الطقوس السحرية، وأصبحت هذه الظواهر تنتشر عبر الثقافات، وتجد جمهورًا واسعًا من سطحيي الفكر، ضعيفي البناء الفكري، ممن يظنون أنهم من خلال ذلك يستطيعون فهم الحياة، والتنبؤ بالغيب. لكن خلف هذه الممارسات تختبئ آثار نفسية واجتماعية عميقة، قد تعيق نمو الأفراد، وتقدم المجتمعات، بل وتدفع الشعوب إلى التعاسة، أو الإحباط.

من منظور علم النفس، تُعد الخرافات والتنبؤ بالغيب محاولات عقلية بدائية لتفسير الظواهر الطبيعية والوجودية، خصوصًا في مواجهة المجهول ومع ذلك، فإن استسلام الأفراد لهذه المعتقدات يعكس جوانب أعمق من الصراع النفسي والاجتماعي، فانتشار الخرافات والتنبؤ بالغيب ظاهرة تتداخل فيها مجموعة من العوامل؛ منها: الموروثات الثقافية، والأفكار الدينية المغلوطة، والضغوط النفسية، ومحاولات الهرب من الواقع وخلق عالم من الخيال والتصديق بأنه واقع، وفي السطور التالية، سنستعرض كيف تؤثر هذه الظواهر على الصحة النفسية للأفراد، وكيف تسهم في ترسيخ مشكلات اجتماعية تعيق التطور الثقافي والعلمي.

الفرق بين معرفة الغيب واستشراف المستقبل: -

إن التنبؤ بالغيب من خلال السحر والدجل والخرافات والعرافين يعتمد على ممارسات غير علمية، مثل قراءة الكف، أو الأبراج، أو الطقوس السحرية، وتستند هذه الأساليب إلى أفكار وتخيلات غير منطقية، وتفتقر إلى الأدلة العلمية، وتركز على تقديم إجابات شخصية، لكنها غالبًا ما تكون غامضة، لدرجة أنها تحتمل أكثر من تفسير، ما يدخل تحت باب الخداع الفكري؛ بهدف تضليل الأفراد، والتلاعب بمشاعرهم من أجل مكاسب مادية.

أما استشراف المستقبل على أسس علمية: فيعتمد على تحليل البيانات والاتجاهات الحالية باستخدام أدوات علمية مثل: استخدام علم الإحصاء، وتحليل البيانات الكبيرة، والتحليل الدقيق للوقائع التالية، وفهم الحاضر للدخول بشكل علمي من بوابة المستقبل؛ وذلك لاستشراف ما قد يحدث في المستقبل، والاستعداد له، والهدف من هذا الأسلوب العلمي تقديم رؤى موثوقة تساعد الأفراد والمؤسسات على التخطيط للمستقبل، واتخاذ قرارات مستنيرة، مما يعزز القدرة على التكيف مع المتغيرات، والاستعداد للتحديات القادمة.

هكذا يتضح الفرق بين التنجيم وادعاء التنبؤ بالمستقبل، وبين استشراف المستقبل وتوقع النتائج المبنية على المعطيات الثابتة بالفعل؛ حيث يُعزِّز التنبؤ بالغيب من خلال السحر والخرافات من انتشار أفكار سلبية من الوهم، والخداع الفكري، والتضليل العقلي، والاعتماد على قوى خارجية، بينما يسهم استشراف المستقبل العلمي وفق مناهج علمية ومنطقية ثابتة، في تعزيز الثقة بالنفس، والتشجيع على اتخاذ خطوات عملية لتحسين الواقع؛ فالأول يقود إلى الركود، والتضليل، والتواكل، والاستسلام، بينما يدعم الثاني التقدم، والابتكار، ويغرس الأمل، ويشجع على المثابرة.

الآثار النفسية لانتشار الدجل والخرافات

التشوهات المعرفية والإدراكية:

حيث يعزِّز ادعاء معرفة الغيب وتصديق الخرافات من انتشار ما يطلق عليه التفكير السحري  (Magical Thinking)، وهو نوع من التفكير يعتمد على الربط غير العقلاني بين الأسباب والنتائج، ما يؤدي إلى تشوهات معرفية مثل: وهم السيطرة؛ أي اعتقاد الأفراد بأنهم قادرون على التحكم في الأحداث المستقبلية، والتحيز التأكيدي؛ أي ميل الأفراد إلى البحث عن أدلة تؤكد صحة الخرافات، أو التنبؤات، وتجاهل الأدلة المناقضة، بل، وعدم النظر إلى الحقيقة، وما يحدث على أرض الواقع.

زيادة القلق والتوتر:

حيث تشير الدراسات النفسية إلى أن الاعتماد على الخرافات، والسحر، والدجل، وتنبؤات العرافين يعزز من انتشار القلق، ويزيد معدل التوتر لدى الأشخاص، ويتجلى هذا القلق في الخوف المستمر من المجهول، وعدم اليقين، أو القناعة بما هو كائن، فكثيرًا ما يصاب المتبع لهذه التنبؤات الصادرة عن الدجالين، ومدعي العلم، بما يُعرف بقلق المستقبل، مما يزيد من احتمالية الإصابة باضطرابات القلق العام.

إدمان الخرافات والخزعبلات:

وذلك حينما يلجأ الأفراد إلى المنجمين، أو قارئي الطالع كوسيلة للتعامل مع مشاعر العجز، والضيق، والفشل، ويؤدي هذا النمط من السلوك إلى الإدمان النفسي لمثل هذه الأمور، فيفقد الفرد القدرة على اتخاذ القرارات بدون الرجوع لهذه الوسائل، والاعتماد عليها في تحديد اتجاهه، وقراراته.

تراجع الكفاءة الذاتية:

وذلك لأن الاعتماد على الخرافات يؤدي إلى انخفاض الكفاءة الذاتية لدى الشخص؛ حيث يشعر الفرد بالعجز، واعتقاده بأنه غير كفء، وغير قادر على اتخاذ قرارات تخص مستقبله، أو التخطيط له لتحقيق أهدافه في الحياة، ويظن أنه في حاجة وافتقار دائم لما يوجهه، ويضبط له وجهته.

الآثار الاجتماعية لانتشار الدجل والخرافات

·        انتشار الجهل وتعطيل التقدم العلمي:

فالمجتمعات التي تعتمد على الخرافات تميل إلى تقليل قيمة التفكير النقدي والعلمي، مما يؤدي إلى تراجع معدلات الابتكار والبحث العلمي، وبالتالي يضعف من قدرة المجتمع على مواجهة التحديات.

·        استغلال الفئات الضعيفة:

حيث يستغل محترفو قراءة الطالع والمنجمون حالات الضعف والنكبات التي يمر بها الأفراد خلال الأزمات الشخصية أو الاجتماعية، ويترتب على ذلك استنزاف الموارد المالية، وزيادة الشعور بالعجز، والاعتماد على الآخرين.

·        تعزيز الانقسام الاجتماعي وزيادة الخلافات والصراعات:

يعمل انتشار الخرافات على تراجع الثقة الاجتماعية، حيث يبدأ الأفراد في الاعتماد على معتقدات غير منطقية لتفسير سلوكيات الآخرين تجاههم، وينتج عن ذلك تفكك الروابط الاجتماعية، وزيادة الصراعات بين الفئات المختلفة.

·        ضعف المسؤولية المجتمعية:

فعندما يعتقد الأفراد أن مصائرهم محددة مسبقًا، ويعيشون في الحياة بلا هدف، متنظرين مصائرهم التي أُخبروا بها من قبل المنجمين والدجالين، تقل مشاركتهم في الأنشطة الاجتماعية والسياسية، مما يضعف روح المبادرة والمسؤولية الجماعية، ويجعل الإنسان يتدنى من مستوى المخلوق المأمور بعمارة الأرض والتأثير في البيئة المحيطة به، إلى كائن مستسلم عديم التأثير.

وختامًا فمن الضروري مواجهة الخرافات، والدجل، وادعاء معرفة الغيب، لأن هذه الممارسات لا تقتصر على خداع الأفراد فقط، بل تسهم في إعاقة التفكير النقدي، وتعزز من تصديق الأوهام؛ فعندما يصدق الناس الدجل والتنبؤات الزائفة، فإنهم يعرضون أنفسهم للضرر النفسي والاجتماعي، حيث يعتمدون على أساليب غير علمية بدلًا من اتخاذ قرارات مستنيرة مبنية على الواقع والمنطق، ويوصي مرصد الأزهر بمواجهة هذه الظواهر من خلال عدة ممارسات وإجراءات من بينها:-

التثقيف المستمر حول أهمية التفكير النقدي واستخدام المنهج العلمي في معالجة قضايا الحياة، الأمر الذي يتطلب:

تعليم الأفراد كيفية التحقق من المعلومات وتفحص المصادر قبل قبولها أو نشرها، وذلك من خلال دورات تدريبية أو برامج إعلامية تستهدف توعية المجتمع بخطورة التصديق بالأوهام، فضلًا عن نشرها.

تعزيز الصحة النفسية من خلال تقديم برامج دعم نفسي للأفراد الذين يعتمدون على الخرافات، وزيادة الوعي بأهمية العلاج النفسي في مواجهة مشاعر القلق التي تتولد لديهم.

تشجيع الحوار المفتوح المبني على العقل والمنطق لمناقشة هذه الظواهر مع الأفراد، بما يسهم في تصحيح المفاهيم الخاطئة، ويعزز القدرة على التمييز بين الحقيقة والوهم.

دعم البحث العلمي وتطوير سياسات تعليمية تهدف إلى نشر الفهم السليم للعالم من حولنا، مما يجعل الأفراد أقل عرضة للتأثر بالمعتقدات المضللة، ويحفزهم على استخدام المعرفة العلمية كأداة لتوجيه حياتهم وفكرهم.

وحدة البحوث والدرسات

طباعة