مقدمة
في الآونة الأخيرة، بدأت الصحف الفرنسية في تسليط الضوء على تنامي ظاهرة "سقوط القُصَّر الفرنسيين في فخاخ التطرّف"، مما يعيد لأذهاننا مخاوف ظاهرة: "الأطفال الجنود"، والمعروفون إعلاميًّا بـاسم "أشبال الخلافة"، ومدى خطورتها. فهؤلاء الأطفال أو القُصَّر يمثلون قنبلةً موقوتةً؛ لتشبُّعهم بالأفكارِ المتطرّفةِ الخطيرة التي تدفعهم للعنف وتهديد أمْنِ واستقرار المجتمعات، لا سيما وأن هذا الملف يحمِلُ في طيَّاته تحدياتٍ خطيرةً تواجه المجتمع الفرنسي على المستوياتِ الأمنية، والسياسية، والاجتماعية كافة.
وقد نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية تقريرًا يُفيد بأن هناك حوالي (2000) طفل تتراوح أعمارهم بين 9 و15 عامًا، تَمَّ تجنيدهم وتدريبهم من قبل تنظيمِ "داعش"، في المدة من 2014م إلى 2016م، من بين هؤلاء الأطفال كان هناك (460 طفلًا) فرنسيًّا؛ الأمر الذي يضع فرنسا على قمةِ ترتيب الدول المُصَدِّرَة للأطفالِ الجنود، ثم تأتي روسيا بعدها بعدد (350 طفلًا)، ثم بلجيكا (118 طفلًا)، ثم هولندا (90 طفلًا)، إضافة إلى عودة العديد من هؤلاء الشباب المُدرَّبين من قبل تنظيمِ "داعش" إلى الأراضي الفرنسية([1]).
وفيما يتعلق بعودة أبناء الفرنسيين المنخرطين في جبهاتِ القتالِ بالعراق وسوريا إلى الأراضي الفرنسية، أعلنت الحكومةُ الفرنسية في 23 من مارس 2017م، على لسانِ رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك، السيد "برنارد كازنوف": أن "نيابة قضائية متخصصة ستقوم بتقييم حالة كل قاصر على حِدة، وسيكون بإمكانها تقرير احتمالية الملاحقة القضائية، وستلجأ إلى قاضي الأحداث من أجلِ توفيرِ إجراءاتِ الحمايةِ اللازمة كافة، كما سيخضعُ الأطفال إلى متابعة طبية نفسية مناسبة إذا استدعى الأمر ذلك، وسيتم تأهيل وتوعيةُ المختصين بمتابعةِ هؤلاء القُصَّر بهذه الإشكالية ذات الطابع الخاص"([2]).
ولكن الأمر تبدل اليوم رأسًا على عقب، وأصبحت الحكومة الفرنسية أمام تحدٍّ أمني جديد وخطير، وهو ارتفاع أعداد القُصَّر (ممن لم يبرحوا التراب الفرنسي إلى مناطق الصراع المختلفة) المدانين في قضايا تتعلق بالعنف والإرهاب، هؤلاء القُصَّر تم التغرير بهم، وتجنيدهم على التراب الفرنسي، من خلال منصات التواصل الاجتماعي، والتطبيقات المشفرة، والهواتف الذكية؛ لتنفيذ أجندات أجنبية داخل فرنسا. والإشكالية الكبرى تكمن في أن استغلال هؤلاء الأطفال من قبل التنظيمات المتطرفة والإرهابية يُسهم في تكوين جيل لا يؤمن بالتعايش والاحترام المتبادل، مما يهدد نسيج المجتمعات ويضعها دون شك أمام أزمات حقيقية، تعيق تقدمها ونهضتها على الأصعدة كافة، لا سيما على الصعيد الإنساني.
لماذا تهتم التنظيمات المتطرّفة والإرهابية بالأطفال والشباب القُصَّر؟!
نظرًا لبراءة الأطفال، فإنهم يكونون أكثر سهولة في تلقينهم؛ حيث لا يُظهرون أية مقاومة تذكر عند تجنيدهم، ويفتقرون إلى الوعي الكافي للتمييز بين الخطأ والصواب، ولا يدركون مدى الخطورة التي يتعرضون لها. كما تُفضل التنظيمات الإرهابية استغلال براءتهم لضمان استمرار أفكارها المتطرّفة والهدامة عبر الأجيال. وما يزيد من تشبث الجماعات الإرهابية بتجنيد الأطفال هو عدم إثارتهم الشبهات، مما يجعلهم ينفذون مهامًّا أكثر نجاحًا، أضف إلى ذلك أن الطفل الجُندي لا يكلف التنظيمات أموالًا طائلة كما هو الحال مع المقاتلين البالغين، كما يُستَخدم الأطفال أيضًا في عمليات الحراسة وخدمة قيادات التنظيم لكون ولائهم غير مشكوك فيه.
كما تستخدم التنظيمات المتطرفة الوسائل كافة لاستقطاب الأطفال بدءًا من الإغراء المادي إلى التأثير العاطفي والترفيهي؛ لجذبهم وتفخيخ عقولهم، بأساليب تتلاءم مع طريقة تفكير الطفل ليتقبلها بسهولة. كما تنتهج التنظيمات الإرهابية والمتطرفة عملية التغرير بالأطفال من خلال الألعاب والمناهج الإلكترونية عبر الإنترنت، لا سيما عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث يدخل الأطفال للتسلية والاستكشاف والتواصل، فيسقطون فريسة سهلة للمجندين.
وعلى الأرض يتم تجنيد الأطفال عن طريق توزيع هدايا لهم، والسماح لهم باللعب بأسلحة المقاتلين ليألفوها، وقد تلجأ التنظيمات المتطرفة أحيانًا إلى خطف الأطفال وتجنيدهم بدون علم ذويهم، ومنهم من يتم تجنيده عبر "التهديد" بالقتل والتصفية الجسدية في حالة رفضه حمل السلاح عنوة، والالتحاق بالصفوف الأولى للتنظيم لتنفيذ أعماله الوحشية. هذا إضافة إلى الأطفال الذين يتم تجنيدهم بالتبعية لذويهم، حيث يقوم ذووهم باختطافهم أو اصطحابهم معهم إلى مناطق الصراع، وإخضاعهم لبرامج التأهيل التي تُعِدُها التنظيمات المتطرفة تمهيدًا لتجنيدهم، واستغلالهم، وزرع فكر التنظيم في عقولهم.
كما أنه خلال عملية التجنيد، يتولى التنظيم غسل أدمغة الأطفال، وتشويه هويتهم، ومن ثم يقوم بزرع أصول الفكر المتطرف فيها من خلال مناهج تعليمية مصممة خصيصًا لهذا الغرض، وبعد ذلك يقوم بتدريبهم عسكريًّا ليصبحوا وقودًا زهيد الثمن لمعارك التنظيم، وغالبًا ما يتم استغلال هؤلاء الأطفال في تنفيذ عمليات انتحارية أو التجسس؛ نظرًا لحركتهم الخفيفة، وقدرتهم على التنقل بحرية دون إثارة الشكوك، فضلًا عن أنهم يمثلون شريحة ذات جدوى بالغة لتعويض الخسائر البشرية في المعارك، أو في تنفيذ عمليات متخصصة يكون فيها الكبار أقل فاعلية.
ومن بين الأسباب التي تجعل التنظيمات المتطرفة والإرهابية تستهدف هؤلاء "القُصَّر"، ذكر السيد "أوليفييه كريستن"، المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب بفرنسا، قائلًا: "لقد تم إضعاف اللاعبين الرئيسيين في ظاهرة الإرهاب الدولي، وهما تنظيما: "داعش" و"القاعدة" نتيجة للحرب الدولية ضدهما، مما أدى إلى تراجع قدرتهما على إرسال إرهابيين إلى الأراضي الأوروبية. وبالتالي، أصبحوا يستهدفون القُصَّر الموجودين على الأراضي الأوروبية لتجنيدهم، لأنهم يتمتعون بمرونة وقابلية للتأثير أكثر من الشباب؛ لذا فإن مصلحة هذه التنظيمات تكمن في تجنيد أو إقناع هؤلاء الأشخاص الذين يميلون إلى العنف بشكل مفاجئ ولديهم استعداد تام للموت من أجله. وبهذا الشكل، يصبح هؤلاء الشباب والقُصَّر المتطرفون بمثابة "وقود زهيد الثمن" للتنظيمات الإرهابية"([3]).
هل كل المتطرفين على التراب الفرنسي من الأجانب فقط؟! وكم يبلغ عددهم؟
في أعقاب حادث اغتيال المدرس "دومينيك برنارد" في "أراس"، دعا السيد "جوردان بارديلا"([4]) – رئيس حزب "التجمع الوطني"، خلال لقاء له على قناة (Franceinfo)، يوم الأربعاء الموافق 25 أكتوبر 2023م – إلى طرد الأجانب المتطرفين؛ بهدف تخفيف العبء عن أجهزة الاستخبارات الفرنسية، حيث أكد قائلًا: "هناك أشخاص تم رصدهم ومتابعتهم بسبب توجهاتهم الإسلاموية، وهم أجانب على أراضي الجمهورية الفرنسية، ويجب طردهم كإجراء احترازي، الأمر الذي سيسمح لأجهزة المخابرات الفرنسية بوجود عدد أقل بكثير من الأشخاص لمراقبتهم". وأضاف السيد "جوردان بارديلا"، قائلًا: "هناك 4200 شخص أجنبي متطرف"، فضلًا عن أن "نصف الأشخاص المسجلين في "ملف بلاغات الوقاية من التطرف ذي الطابع الإرهابي" (FSPRT)، من الأجانب. فهل هذه المعلومات صحيحة أم خاطئة؟
نلاحظ أن الرقم الذي قدمه السيد "جوردان بارديلا" صحيح: فهناك حوالي (4200) أجنبي يخضعون للمراقبة بتهمة التطرف، حيث أعلنت وزارة الداخلية بعد أيام قليلة من هجوم "أراس" أن عدد أولئك المتطرفين بلغ نحو (4263) شخصًا.
ولكن معلومة أن "نصف الأشخاص المسجلين في ملف (FSPRT)، من الأجانب" غير صحيحة؛ وذلك وفقًا لتصريحات وزير الداخلية، في 16 أكتوبر 2023م الذي أكد تسجيل نحو (20120) شخصًا في "ملف بلاغات الوقاية من التطرف ذي الطابع الإرهابي" (FSPRT)، من بينهم (4263) أجنبيًّا، ولذلك فإنهم لا يمثلون نصف الأشخاص المتطرّفين الذين تم رصدهم، بل يمثلون الخمس تقريبًا.
ما هي الأسباب وراء انتشار ممارسة العنف بين القُصَّر؟!
لاحظ السيد "أوليفييه غالاند"[5] – مدير الأبحاث الفخري في "المركز الوطني للأبحاث العلمية" (le CNRS)، وخبير اجتماعي في شؤون الشباب – ظهور العديد من الأخبار المتعلقة بالمراهقين خلال الأسابيع الأخيرة على صفحات الصحف الفرنسية، كما لاحظ أيضًا زيادة ملحوظة في مستوى "التسامح" لدى المراهقين تجاه أعمال العنف.
جدير بالذكر أنه بعد وفاة المراهق "شمس الدين" البالغ من العمر 15 عامًا، والذي تعرض للضرب حتى الموت في أثناء مغادرته مدرسته في "فيري – شاتيلون" (إيسون)، وكذلك بعد الاعتداء على الطالبة "سماره"، البالغة من العمر (13) عامًا، على يد ثلاثة قُصَّر تتراوح أعمارهم بين 15 و14 عامًا في "مونبلييه"، والاعتداء على الشاب "فيليب" البالغ من العمر 22 عامًا، الذي قُتل على يد اثنين من القُصَّر تتراوح أعمارهما بين 14 و15 عامًا، دعا رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك، السيد "غابريل آتال"، إلى "تعبئة عامة للأمة الفرنسية" لمواجهة "إدمان بعض المراهقين من أبنائنا على العنف".
كل هذه الحوادث دفعت السيد "غابريل آتال" مرة أخرى إلى إثارة قضية تصاعد وتيرة أعمال العنف بين المراهقين الذين باتوا يألفون ممارسة أعمال العنف؛ حيث صرح على أثير قناة (BFMTV)، قائلًا: "عدد المراهقين المتورطين في أعمال العنف زادت بنسبة أربعة أضعاف مقارنة بأعداد المراهقين المنغمسين في تجارة المخدرات، وزادت سبعة أضعاف مقارنة بأعداد المراهقين المُدانين في جرائم السطو المسلح".
وخلال لقاء له مع صحيفة "إكسبريس" الفرنسية، أرجع السيد "أوليفييه غالاند" ممارسة العنف بين القُصَّر إلى "الاستخفاف الشديد بالعنف بين الشباب، وكذلك التسامح المتزايد مع أعمال العنف بين الأجيال الجديدة، لا سيما الشباب الذين تُحركهم شبكات التواصل الاجتماعي، والذين يسعون إلى التحرر من القيود السياسية". وفيما يتعلق بما إذا كانت الأجيال الشابة أكثر عنفًا اليوم من أي وقت مضى؟ أجاب "أوليفييه غالاند" قائلًا: "لا اعتقد أن عنف الشباب أكثر انتشارًا اليوم مقارنة بالماضي، فقد كانت أعمال العنف هذه موجودة دائمًا".
وفيما يتعلق بتورط عدد كبير من القُصَّر في قضايا أمنية، يلاحظ السيد "مايكل دانتين"، أستاذ علم الجريمة في جامعة "لييج" البلجيكية، أن القُصَّر الذين يقعون في براثن التطرف يختلفون عن الصورة النمطية للمتطرفين، وأوضح قائلًا: "السمات تشير بشكل أكبر إلى الشباب الراشدين؛ ولكن في الواقع عندما يتعلق الأمر بالتصورات التي يحملها الفرد عن الحياة والعالم، ومجموعة متنوعة من المشاعر التي تؤثر فيه، كالشعور بالوحدة أو عدم الأهمية، أو التمييز، أو الظلم، فإن هذه المشاعر يمكن أن تؤثر على الراشدين والقُصَّر على حدٍّ سواء"([6]).
أسباب تزايد أعداد القُصَّر الذين يقعون في براثن التطرف!!
تواصل مختلف الجهات المعنية في مجال مكافحة الإرهاب داخل فرنسا تحذيراتها المتكررة من زيادة عدد القُصَّر المتورطين في قضايا إرهابية خلال المدة بين عامي 2023م و2024م.
جدير بالذكر أنه يوم الثلاثاء الموافق 7 من نوفمبر 2023م، خلال لقاء له في برنامج "RTL Matin"([7])، قدم السيد "جان – فرانسوا ريكار"، المدعي العام لمكافحة الإرهاب، تقييمًا مثيرًا للقلق إزاء الوضع الحالي للإرهاب على التراب الفرنسي. وأوضح أن هذه الظاهرة بالتأكيد أثرت على عدد متزايد من القُصَّر، مشيرًا: "منذ ما يقارب الثلاث سنوات، لاحظنا زيادة خطيرة للغاية في توجه القُصَّر نحو المشاركة في مشاريع أعمال العنف".
ويرى السيد "جان – فرانسوا ريكار"، أن "تطرف القُصَّر يعد ظاهرة جديدة تثير القلق. وأن شبكات التواصل الاجتماعي تلعب دورًا كبيرًا في تعزيز هذا التطرف، ولكنها ليست السبب الوحيد وراءه". وأوضح أنه "ينبغي دراسة كل حالة على حدة، كما يجب أن نتجنب الافتراض بأن هناك نموذجًا بعينه يمكن تعميمه لفهم منهجية الوقوع في براثن التطرف".
ومن جانبها، أوضحت "المديرية العامة للأمن الداخلي" (DGSI)، أنه منذ يناير 2023م، أصبح أكثر من نصف المتهمين في قضايا الإرهاب دون سن (18) عامًا، وهذا يدل على أن الدعاية الجهادية – على حد قوله- انتشرت مجددًا على شبكات التواصل الاجتماعي، وتجذب مرة أخرى الكثير من القُصَّر إلى شباكها. وتُظهر هذه المعطيات أن جيلًا جديدًا من القُصَّر الفرنسيين (تتراوح أعمارهم بين 14 و18 عامًا) قد وقعوا تحت تأثير أبواق تنظيم "داعش"، وتنظيم "القاعدة". ووفقًا للنيابة العامة لمكافحة الإرهاب (PNAT)، فإن الأرقام لا تزال متواضعة، لكن المخاطر الأمنية والقضائية لا تزال كبيرة.([8])
وخلال لقاء له على قناة (France Inter)، يوم الثلاثاء الموافق 16 من أبريل 2024م، حذر السيد "جان – فرانسوا ريكار"، المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب بفرنسا، من الزيادة الملحوظة في طلبات توجيه الاتهام ضد قُصَّر تتراوح أعمارهم بين 15 – 17 عامًا، بتهمة "ارتكاب أعمال عنف مخطط لها". كما يحاول المدعي العام تقديم بعض التفسيرات لهذه الظاهرة. متسائلًا ما إذا كان السبب وراء هذه الظاهرة "يكمن في حداثتها، وفي وجود جيل لم يعرف سوى التكنولوجيا الرقمية، حيث يبني علاقاته عبر الشبكة العنكبوتية، ويستغل الفضاء الرقمي بشكل كامل". ومن ثم فهو يصف "أشخاصًا ينغمسون بشكل مفرط في وسائل التواصل الاجتماعي"([9]).
وفي منتصف يوليو 2024م، أوضح المدعي العام الوطني لمكافحة الإرهاب، السيد "أوليفييه كريستن"، أن هذه الظاهرة "جديدة نسبيًّا"، و"تشهد زيادة ملحوظة". وأضاف قائلًا: "تم توجيه الاتهام لـ 14 قاصرًا منذ بداية عام 2024م، بينما كان هناك 15 قاصرًا طوال عام 2023م بأكمله". مشيرًا إلى أن هذه الأعداد كانت في السابق تتراوح بين 2 – 3 سنويًّا". وفي منتصف سبتمبر 2024م، أكد السيد "أوليفييه كريستن"، إلى أن "التهديد الجهادي – على حد قوله- يشكل 80% من القضايا التي تم النظر فيها أمام محاكم مكافحة الإرهاب".([10])
وبخصوص تزايد عدد القُصَّر الذين يقعون في براثن التطرف، أوضح السيد "أوليفييه كريستن"، قائلًا: "هناك عوامل متعددة تُسهم في هذه الظاهرة، أبرزها نرى أن المنظمات الإرهابية تعدل إستراتيجيتها الدعائية لتتناسب مع هذا الفئة الشبابية؛ حيث تستغل مقاطع الفيديو القصيرة، كالتي نراها على تطبيق "تيك توك، أو "انستغرام"، تتضمن موسيقي وصورًا عنيفة. إضافة إلى أن هذه المقاطع متاحة بشكل واسع على منصات الفيديوهات العنيفة، ومنصات الشبكات الاجتماعية التقليدية. علاوة على أن تلك المنظمات الإرهابية خبراء في تجنب تقنيات المراقبة والرقابة"([11]).
كيف تتعامل "النيابة العامة لمكافحة الإرهاب" (PNAT) مع القُصّر المشتبه بهم؟ وهل يمكن رسم ملامح محددة لهم؟!
أوضح السيد "أوليفييه كريستن"، أن "النيابة العامة لمكافحة الإرهاب" (PNAT) قد نظمت هياكلها لمواجهة هذه الظاهرة غير المسبوق، حيث يتولى قاضيان متخصصان النظر في الدعاوى المتعلقة بالقُصَّر في قضايا الإرهاب. كما تعمل "النيابة العامة لمكافحة الإرهاب" بشكل مكثف على التعاون مع وزارة التربية الوطنية؛ بهدف وقاية النشء من الوقوع في براثن التطرف، ومن ناحية أخرى مع "الحماية القضائية للشباب" (PJJ)، والتي تعتني بالقُصَّر المتهمين بارتكاب جرائم إرهابية، وتقوم بعمل محدد للغاية لكنه ضروري".
وعند سؤال السيد "أوليفييه كريستن" عن العقوبات التي يواجهها القُصَّر عند محاكمتهم بتهمة الإرهاب، أوضح أنهم يُحاكمون أمام "محكمة الأطفال بباريس"؛ حيث يوجد بها (8) قضاة متخصصون في محاكمة الأطفال، أو أمام "محكمة جنايات الأحداث"، وهي محكمة شُكلت خصيصًا لهذا الغرض. وفيما يتعلق بالقواعد المطبقة في تنفيذ العقوبات الخاصة بالأطفال فنجد أنها هي نفس القواعد المُطبقة في القانون العام؛ حيث يتم تطبيق تخفيف العقوبة للقُصَّر عمومًا، إما بالحكم على القُصَّر بنصف العقوبة المخصصة للبالغين، أو الحكم بإعفائهم من العقوبة إذا تراءى لهيئة المحكمة ذلك"([12]).
وعندما سُئل السيد "أوليفييه كريستن" عن إمكانية رسم ملامح محددة للشباب الناشئ المتورطين في قضايا الإرهاب، أشار إلى صعوبة ذلك. وأوضح أنهم ينتمون إلى خلفيات عائلية متنوعة، بعضهم من عائلات مسلمة، وتتراوح أعمارهم بين 13 إلى 18 عامًا، مع العلم بأن نصفهم دون سن (16) عامًا؛ لذا فإنهم حديثو السن. ومن الناحية الجغرافية، نلاحظ أنهم يأتون من جميع أنحاء فرنسا، ولا يكونون بالضرورة قد نشأوا في بيئة عائلية صعبة. ومع ذلك يشتركون جميعًا في اهتمامهم بالمحتوى العنيف، ذي الطابع القتالي أو الإباحي. فنحن أمام تطرف فردي؛ حيث يتعرضون بمفردهم، وداخل غرفتهم لهذا النوع من الدعاية العنيفة. وفي كثير من الحالات يفاجئ الآباء بسقوط أبنائهم في براثن التطرف، ومن ثم العنف والإرهاب"([13]).
خاتمة
مما سبق يتضح أن هناك أسبابًا عديدة تكمن وراء ظاهرة "سقوط القُصَّر الأوروبيين في فخاخ التطرف"؛ حيث يعد انعدام الانتماء الثقافي والاجتماعي للقُصَّر من أبرز تلك الأسباب، ما يُهدد هويتهم الوطنية. كما يُسهم غياب التوجيه السليم، والتثقيف حول القيم الديمقراطية، والتسامح، وقبول الآخر، سواء على مستوى الأسرة أو التعليم، في تفاقم هذه الظاهرة؛ لذا تلعب الأسرة دورًا مُهِمًّا في تنشئة الأفراد، لأنها تُمثل الخلية الأولى لبناء المجتمع، والمصدر الأساسي لتشكيل شخصية الطفل السويِّة نفسيًّا، وسلوكيًّا، واجتماعيًّا، ومعرفيًّا، فهي أول مَعينٍ يشرب منه الطفل، فتخلِّي الآباء عن رعاية الأسرة وغياب القدوة، يجعل أفرادها لقمة سائغة للتنظيمات المتطرفة. علاوة على أن نظام التنشئة الذي تتَّبعه الأسرة يؤثر بشكلٍ مباشر على تشكيل الفرد خلال مراحل نموه المختلفة، فقد يكون القاصر ضحية لصدمات نفسية متجذرة منذ الطفولة.
فينبغي أن تقوم التنشئة السويَّة على مناهج تُرسخ وتغرس الوسطية، وتُحيي ممارسة الفِكر النقدي الذي يميز الخبيث من الطيب في نفوس النشء؛ لتجنب الانحرافات الفِكرية والنفسية والسلوكية التي تنشأ نتيجة لاضطراب في أساليب التربية، ونقص الرعاية وغياب الرقابة الأسرية، وتأثير أصدقاء السوء، والشعور بالإحباط والنقص، وفقدان الثقة في النفس، كل هذه العوامل يمكن أن تدفع بالفرد إلى الخروج على المجتمع بسبب هذه الظروف الملتبَسة. أضف إلى ذلك هؤلاء الشباب الذين يعانون من "الاغتراب الذاتي"، واللا مبالاة، والإهمال والحرمان، والتهميش الثقافي، والسياسي...
وقد يكون تطرف هؤلاء الشباب والقُصَّر ناتجًا عن تأثيرات البيئة التي يعيشون فيها أو ما يُحيط بهم، كالمؤسسات التعليمية، والتربوية، أو الأسرة، أو دار العبادة، أو حتى وطنهم الأصلي (الأم)، أو مستوى معيشتهم. كما يمكن أن تكون الرغبة في الحفاظ على الهوية الشخصية والمقاومة الكاملة للاندماج داخل نسيج المجتمع الغربي سببًا وراء سقوطهم في براثن التطرف، حيث تتولد هذه المقاومة من حرص الأسرة والأقران على الحفاظ على الهوية الأصلية والتحذير من فقدانها. فعلى سبيل المثال، قد يواجه الشاب في الدول الغربية صعوبات جمة بسبب معتقداته الدينية أو الثقافية، مثل: التهميش، والتمييز، مما يعرقل حصوله على وظيفة، أو سكن، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى شعوره بالحرمان الاجتماعي، ويُحفزه على الانتقام من المجتمع الذي يشعر أنه لا يقبله. إن حرمان الفرد من الحقوق الاجتماعية أو بعضها، وكذلك الانغلاق المجتمعي، وعدم السعي لحل المشكلات المجتمعية، تعد من العوامل الرئيسية التي تستغلها التنظيمات المتطرفة لاستقطاب دماء جديدة.
كما أن الحفاظ على وحدة النسيج المجتمعي، ومقاومة عنصرية "نحن" و"هم"، تُمثل حائط صَدٍّ منيع أمام انتشار التطرف، وتعمل أيضًا على تجفيف جميع البيئات المجتمعية المواتية له، والتي تسعى التنظيمات المتطرفة إلى استغلالها لصالحها، من خلال انتقاد الوضع الاجتماعي الراهن، واللعب على وتر الشعور بالحرمان، والتهميش، والإقصاء من النسيج المجتمعي، وإيهام الشباب والفئات المنبوذة من المجتمع أنهم قادرون على وضع حلول للمشكلات المجتمعية المعضلة، لذلك فإن الحفاظ على النسيج المجتمعي ووحدته هو وقاية لأفراد المجتمع من العُزلة، والعنصرية، والتمييز، فعندما نجد العُزلة المجتمعية بسبب دين، أو عِرق، أو جنس، أو لون، أو عندما نشعر بوجود سياسات تضييق قائمة على أساس عنصري، نجد أن التنظيمات المتطرفة تُلقي بشباكها على هذا المجتمع الذي أصبح بيئة صالحة للتطرف، حتى يقع في شَرَكِها العديد من الشباب الباحث عن مجتمع يجد فيه نفسه، ويستطيع التعايش معه؛ ليبدأ في تبنِّي أفكارها، وتنفيذ أجنداتها.
وفي بعض الأحيان يكون الدافع وراء التطرف، والانضمام لصفوف التنظيمات المتطرفة لدى بعض الشباب والفتيات، لا سيما داخل المجتمعات الغربية، هو حب المغامرة والرغبة في البطولة، فكما يجد البعض متعة في مشاهدة أفلام "هوليوود"، هناك آخرون يشعرون بمتعة وانتصارٍ وهميٍّ في الانضمام لصفوف تلك التنظيمات، والتي تُمثل بالنسبة لهم رمز "القوة والإقدام" وتحديًا للأجهزة الأمنية، لدرجة أنهم يستطيعون مراوغة تلك الأجهزة، مما يعزز لديهم الشعور بالقوة، والذكاء، والمهارة. هذا الجانب قد يكون مغريًا لبعض الشباب الغربي الذين لا يُعانون فقرًا، ولا جهلًا، ولا ظروفًا اجتماعية قاسية، ويحفزهم على الانضمام لصفوف تلك التنظيمات. إضافة إلى ذلك، قد تنساق بعض الفتيات، لاسيما داخل المجتمعات الغربية، وراء الرغبة في تحقيق حلم الارتباط ببطل مغامر، ووهم الزواج من شاب يُجسد في أعينهن صورة البطل الذي لا يهاب أيَّة أنظمة أو أجهزة أمنية، ويتغلب على جميع العوائق التي تعترض طريقه.
وفي الختام، لا بد لحماية النشء والقُصَّر الأوروبيين من الوقوع في براثن التطرف، وذلك من خلال تدشين وتنفيذ حزمة شاملة من البرامج التوعوية والتثقيفية التي تناقش مخاطر التطرف، وكيفية التعرف عليها، والتصدي لها. إضافة إلى توفير الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال والمراهقين لتعزيز الشعور بالانتماء والهوية الوطنية. كما ينبغي متابعة سلوكياتهم والتدخل المبكر في حال ظهور أية مؤشرات على انجذابهم نحو التطرف، وذلك من خلال التعاون بين المدارس، والأسرة، والمجتمع. ويمكن أن تُسهم هذه الإجراءات جميعها في خلق بيئة تعزز حماية القُصَّر من الوقوع في فخاخ التطرف، وتعزيز مقاومتهم للأفكار المتطرفة والشاذة.
وحدة رصد اللغة الفرنسية
[3] - https://www.lejdd.fr/societe/olivier-christen-procureur-antiterroriste-affaibli-daech-vise-desormais-les-mineurs-151897
[8] -https://www.rtl.fr/actu/justice-faits-divers/enquete-rtl-une-nouvelle-generation-de-mineurs-ultra-radicalises-inquiete-la-justice-7900318339
[12] - https://www.lejdd.fr/societe/olivier-christen-procureur-antiterroriste-affaibli-daech-vise-desormais-les-mineurs-151897