تشهد الأيام الحالية تطورًا سريعًا في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وصار تدخله في شتى مجالات الحياة أمرًا واقعًا، فمن المجال الأدبي واستخدامه في الكتابة والترجمة والتحليل، إلى المجال التقني وإنشاء الأكواد البرمجية إلى غير ذلك من المجالات، وصولًا إلى المجال الديني واستخدامه في الفتوى وكتابة الأبحاث الدينية، وسور القرآن الكريم والأحاديث النبوية.
ولا تكمن المشكلة في أن يصبح الاعتماد على الذكاء الاصطناعي جزءًا من أدواتنا في الوفاء بالأعمال والتكليفات، أو حتى التفكير في حلول لمشكلات أو غير ذلك، ولكن الخطر كل الخطر أن تقع هذه الأداة الاصطناعية المبرمَجة في يد غير المتخصصين، خاصة في المجال الديني والدعوي، فكما يوفر الذكاء الاصطناعي فرصًا كبيرة للتقدم والازدهار ويسهم في إنجاز العديد من المشاريع بسهولة وسرعة فائقة، فإنه يمثل تهديدًا خطيرًا إذا ما تم استخدامه من قبل غير المتخصصين، فغير المتخصص في المجال الديني مثلًا لا يمكنه أن يلحظ الأخطاء الواردة في النصوص الدينية التي يوردها الذكاء الاصطناعي للتدليل على حكم أو إثبات حالة كما في القرآن الكريم، أو الأحاديث النبوية، أو الأقوال المأثورة عن الصحابة والتابعين أو الفتاوى الشرعية المهمة، إلى غير ذلك، وقد يستخدمه البعض لأغراض بحثية فيوقعه في أخطاء لا حصر لها، منها تحريف نصوص القرآن الكريم، وتأليف أحاديث غير موجودة ولا يصح نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الاستشهاد بأقوال عن التابعين لم ترد في كتب التراث، مدعيًّا أنها وردت في بعض الكتب، ويذكر بعدها مراجع مزيفة.
وقد انتشرت هذه الأدوات الذكية بكثرة، وشاعت بين المستخدمين بشكل مقلق، وتعددت مجالات استخدامها، كما حذر كثير من المتخصصين من استخدامها بشكل غير دقيق، خاصة في المجالات المتخصصة التي تحتاج إلى فهم ودراسة قبل الخوض فيها، أو استخدامها في النصوص المقدسة الثابتة التي لا تقبل التحريف أو التأويل.
وبعد انتشار العديد من التحذيرات حول دعاوى التحريف التي تقوم بها أدوات الذكاء الاصطناعي في كتابة نصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، رأى مرصد الأزهر لمكافحة التطرف تحذير قرائه ومتابعيه من هذه التحولات الخطيرة التي قد لا يدركها البعض خاصة من النشء، فبناءً على تجربة قام بها المرصد لبعض أدوات الذكاء الاصطناعي والتي تسمى: "Meta AI" فكانت التجربة كما يلي:
عندما طُلب منه كتابة الآيات التي ذكر فيها لفظ "الربا" في القرآن الكريم: ذكر 7 آيات، آيتان فقط صحيحتان في النص والعزو، وآيتان صحيحتان في النص فقط ومختلفتان في العزو، وآيتان محرفتان تحريفًا ظاهرًا، وآية لم ترد في كتاب الله عزَّ وجلَّ ولا حتى جزء منها.
وقد يغيب عن غير المتخصص الذي لا يحفظ كتاب الله عزَّ وجلَّ ملاحظة هذا التحريف، ومن ثمّ قد يعتمد عليه في أبحاثه أو تساؤلاته عن أمر ما، الأمر الذي قد يؤدي إلى تشويش عقيدته، أو انحرافه عن صحيح الدين، أو يوقعه في الإلحاد، أو التطرف؛ بسبب التناقض الذي قد يحدث من مثل هذا التحريف الكلي، أو الجزئي.
كما أجرى المرصد تجربة أخرى حيث طلب من "Meta AI" ذكر الآيات القرآنية التي تتناول أحكام الصلاة، فذكر ١٣ آية، من بينها آية واحدة صحيحة في المتن ومتعلقة بالموضوع لكنها خطأ في العزو، وهي: "فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم" فقد وردت هذه الآية في سورة النساء رقم (103)، وليس المائدة (10). وآية أخرى صحيحة في المتن والعزو لكنها لا تتعلق بالموضوع، وهي: "فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". الأنفال (17)، أما باقي الآيات فهي محرفة تحريفًا كليًّا، أو جزئيًّا، فالمعرفة تحريفًا كليًّا مثل: (ثم توضؤوا للصلاة)، (وإذا كنتم تقاتلون في سبيل الله فتصدعوا إلى الصلاة)، (وإذا وجد ماء فاغسلوا وجوهكم وأرجلكم). (يا أيها الذين آمنوا ليستطيع المشركون خالقي لكم شيئا من الله وهم يلمزون)، والمحرفة تحريفًا جزئيًّا مثل: (وإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأرجلكم إلى الركبين)، (فإذا أمنتم فإن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا).
أما فيما يخص السنة النبوية المطهرة، فقد تم سؤاله عن حكم من نام ولم يصلِّ العشاء، وكما يظهر في الصورة كمية التحريف التي وردت في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. فالآية الأولى التي ذكرها محرفة، وليس لها علاقة بموضوع السؤال، والآية الثانية محرفة أيضًا. أما الأحاديث الثلاثة فكلها أحاديث مؤلفة ومختلقة ولا وجود لها بهذا المتن.
والملاحظ من خلال التجارب السابقة أن هذه الأداة وغيرها من الأدوات والتطبيقات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي تظهر للقارئ وكأنها شخص أكاديمي يجيبه إجابات دقيقة مفصلة، حيث يقسم الإجابة إلى عدة عناصر وتحت كل عنصر يسرد تفاصيل دقيقة، لكنه في الحقيقة أبعد ما يكون عن الصواب، فإجاباته إما مؤلفة، أو مزيفة، أو خاطئة، أو على أقل تقدير تدور حول الإجابة الصحيحة، وقليل من يدرك ذلك.
وقد شاع استعمال هذه الأدوات بين المستخدمين بشكل كبير وفي وقت قليل جدًّا؛ نظرًا لأنها مجانية وسهلة الوصول لجميع المستخدمين، ما يثير المخاوف من سوء استخدامها، أو الاعتماد عليها في أمور دينية، سواء كان في تجارب فردية أو أبحاث أكاديمية، أو الاستعانة بها من قبل المتخصصين مثل: الدعاة، والخطباء لتزويدهم بمعلومات، أو إعادة صياغة الخطبة أو البحوث الأكاديمية بشكل أكثر بلاغة وإبداعًا، وفي الوقت نفسه أكثر خطأً، وتحريفًا.
ومرصد الأزهر إذ يحذر من استخدام هذه الأدوات بغير حذر، فإنه يشدد على التأكد مما ورد بها من معلومات وعدم الاعتماد عليها في مجالات متخصصة، خاصة فيما يمس الدين والعقيدة الإسلامية؛ لأن ذلك قد ينتج عنه تضليل بعض المسلمين، وتشويه النصوص الدينية، ونشر الأفكار المتطرفة، أو الأفكار الإلحادية، فضلًا عن التحريف المتعمد في النصوص الثابتة الذي قد يستغله بعض أعداء الدين ذريعة للتشكيك في الدين الإسلامي، أو الطعن في معتقدات المسلمين، وثوابتهم.
ومما يوصي به مرصد الأزهر لمكافحة التطرف في التعامل مع مثل هذه الأدوات الذكية هو التعامل معها بحذر شديد واستخدامها فقط في الحصول على المعلومات العامة دون الاعتماد عليه في معلومات متخصصة، كما يمكن الاستفادة منها في تطوير البرامج التعليمية الدينية التي تدمج بين التكنولوجيا والدين وفق مدخلات تتم مراجعتها بشكل دقيق.
كما يوصي المرصد بأهمية توعية الشباب والنشء بضرورة الحفاظ على الهوية الدينية في العصر الرقمي وعدم الانسياق وراء النتائج التي تقدمها البرمجيات المتاحة دون بحث ودراسة، من خلال تنظيم حوارات دينية ولقاءات تجمع بين علماء الدين والمتخصصين في تقنيات الذكاء الاصطناعي.
وحدة البحوث والدراسات