تعدُّ منطقةُ الساحلِ الإفريقي واحدةً من أكثر المناطق تأثرًا بالنزاعات المسلحة، والتطرف العنيف في العالم، وفي السنوات الأخيرة أصبح استغلال الذهب في منطقة الساحل الإفريقي من أخطر الظواهر التي تُسهم في تمويل التنظيمات الإرهابية المتطرفة، في ظل الانفلات الأمني، وتراجع سيطرة الحكومات المحلية على مناطق التعدين؛ حيث وجدت التنظيمات الإرهابية المتطرفة مثل: تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، و"داعش" في الساحل الإفريقي بيئة خصبة لاستغلال المناجم غير القانونية.
ويتم توظيف هذا الذهب المهرب إلى الأسواق العالمية في دعم عملياته الإرهابية، ما يعزز من قدرته على شراء الأسلحة، وتجنيد المقاتلين، ويزيد من عدم الاستقرار في منطقة الساحل التي تواجه تحديات سياسية واقتصادية معقدة.
وهذا الاستغلال غير المشروع للموارد الطبيعية يمثل تهديدًا ليس فقط لأمن الدول الإفريقية، بل لأمن العالم بأسره، حيث يُستخدم الذهب لتمويل شبكات الإرهاب العابرة للحدود، كما أنه لا يعزز القدرات المالية للتنظيمات الإرهابية المتطرفة فحسب، بل يُسهم أيضًا في تفاقم الأزمات الإنسانية والاقتصادية في المنطقة؛ إذ يخلق حلقة مفزعة من العنف والفقر، مما يجعل من الصعب تحقيق الاستقرار والتنمية.
ويؤثر استغلال التنظيمات المتطرفة للذهب على الاقتصاد المحلي بصورة سلبية؛ فبدلًا من أن تكون هذه الموارد مصدرًا للرفاهية وتنمية المجتمعات، تتحول إلى أدوات لزعزعة الاستقرار وتعزيز العنف، كما تعاني المجتمعات المحلية من عدم الاستقرار، وفقدان الثقة في الحكومات، ما يسهم في تزايد التوترات والنزاعات.
وفي هذا السياق، ذكرت وكالة "يورو برس" الإسبانية أنه في عام 2012م، أنه تم اكتشاف كميات كبيرة من الذهب في منطقة تمتد عبر الصحراء الكبرى من الشرق إلى الغرب، ما أدى إلى ازدهار عمليات التعدين.
هذه الأنشطة الاقتصادية غير المشروعة استفادت منها تنظيمات إرهابية، إضافةً إلى تنظيمات أخرى مسلحة مثل: الميليشيات المحلية، وعصابات التهريب؛ إذ تتحكم في مناطق التعدين، أو تستفيد من هذه الموارد عن طريق فرض ضرائب غير شرعية.
وأضافت وكالة الأنباء أنه في دول الساحل مثل: مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، يشكل التعدين الحرَفي للذهب مصدر دخل مهم للدولة، والمجتمعات المحلية، إذ يعمل فيه أكثر من 3 ملايين شخص بشكل مباشر، وتقدر إيراداته بما يتراوح بين 1.9 و4.5 مليار دولار سنويًّا، لكن الأرقام الفعلية، بما في ذلك العاملين غير المباشرين، أعلى بكثير.
وفي بعض الأحيان، لا يرى عمال المناجم الحرفيون أن التنظيمات الإرهابية المتطرفة تشكل تهديدًا، بل إنهم قد يتعاونون معهم بهدف استعادة حقوقهم؛ فعلى سبيل المثال، في منطقة "سوم"Soum ببوركينا فاسو، لجأ عمال المناجم إلى التنظيمات الإرهابية لإعادة فتح المناجم التي أغلقتها السلطات المحلية.
وتشير التقارير إلى أن هذه التنظيمات بدأت بفرض "ضرائب" على عمال المناجم مقابل الحماية، قبل أن تسيطر تدريجيًّا على هذه المناجم بالكامل، ما وفَّر لها أموالاً طائلة لدعم الإرهاب على المستوى المحلي والدولي.
وعلاوة على استغلال الذهب مصدرًا للتمويل، تُعد المناجم مكانًا خصبًا لتجنيد الأفراد؛ حيث يستغل الإرهابيون الوضع لنشر أفكارهم المتطرفة في مجتمعات تعاني من مشاكل مثل: الفساد، والجريمة. كما تشكل المناجم بيئة جيدة لتدريب الأفراد على تصنيع المتفجرات؛ إذ تستخدم بعض المواد مثل نترات الأمونيوم في استخراج الذهب، وهي المادة نفسها التي تُستخدم في صناعة القنابل. وتُقدر التقارير أن هذه المناجم غير القانونية قد تولِّد ما يصل إلى 5 مليارات دولار سنويًّا، عن طريق بيع الذهب في السوق السوداء، ما يعزز من قدرة تلك التنظيمات على تمويل عملياتها الإرهابية.
وفيما يخص تداعيات استغلال الذهب على الأمن العالمي، ذكرت صحيفة "لا راثون" الإسبانية أن سيطرة التنظيمات الإرهابية على مناجم الذهب يُعد جزءًا من إستراتيجية أوسع تهدف إلى إنشاء "خلافة" جديدة تشبه تلك التي أقيمت في العراق وسوريا.
هذا الهدف يحمل في طياته تهديدات كبرى على الأمن الإقليمي والدولي؛ حيث تستغل هذه التنظيمات الذهب مصدر تمويل لتعزيز قدراتها العسكرية، وتوسيع نفوذها العالمي. ولهذا من المتوقع أن تتزايد التهديدات الإرهابية في الغرب نتيجة هذا التمويل المتزايد. كما تواجه أوروبا تحديات كبرى في التعامل مع هذا التهديد المتزايد الناجم عن تمويل الإرهاب عبر مناجم الذهب في الساحل؛ حيث إن انسحاب القوات الأوروبية من المنطقة أسفر عن فقدان معلومات استخباراتية مهمة حول نشاط تلك التنظيمات المتطرفة، ما أدى إلى تزايد الخطر على المصالح الأوروبية في إفريقيا وخارجها. ولهذا وصف بعض المراقبين هذه الخطوة بأنها "إستراتيجية انتحارية"، في ظل تزايد التهديدات.
ويرى مرصد الأزهر لمكافحة التطرف أن استغلال الذهب في الساحل لتمويل التنظيمات المتطرفة يعد تهديدًا عالميًّا خطيرًا ومتزايدًا، ويتطلب التصدي لهذا التحدي تعاونًا دوليًّا، وجهودًا مستمرة لتأمين المنطقة، وتنميتها. ومن خلال معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية في دول الساحل الإفريقي، يمكن للمجتمع الدولي أن يسهم في تقليل تأثير هذه التنظيمات المتطرفة وضمان مستقبل أكثر استقرارًا وأمانًا للسكان المحليين، كما يدعو المرصد إلى وضع إستراتيجيات شاملة تتضمن تعزيز الأمن في المناجم، وتقديم الدعم الاقتصادي للمجتمعات المحلية.
إن استغلال الذهب في الساحل الأفريقي يعد قضية أمنية دولية، لأنه تحوَّل في الفترة الأخيرة إلى مصدر قوي لتمويل التنظيمات الإرهابية في المنطقة، ما زاد من زعزعة استقرار الدول الضعيفة، والمؤسسات المحلية. كما أنه يشكل تهديدًا عالميًّا متزايدًا يؤثر على الأمن الإقليمي والدولي. هذه الظاهرة تعمق الأزمات الإنسانية والاقتصادية، وتفاقم الفقر والعنف، مما يجعل من الصعب تحقيق التنمية والاستقرار في المنطقة. كما أن تصاعد نفوذ التنظيمات الإرهابية عبر الموارد غير المشروعة يعزز من قدرتها على تنفيذ عمليات عابرة للحدود، مما يضاعف التحديات الأمنية على المستوى العالمي.
ومن هذا المنطلق يورد المرصد بعض التوصيات وهي:
1. تعزيز التعاون الدولي: يتطلب التصدي لهذه الظاهرة جهودًا مشتركة بين الدول المتضررة والمجتمع الدولي، بما يشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية، ودعم عمليات مكافحة التهريب والإرهاب.
2. ضبط المناجم غير القانونية: ينبغي على الحكومات المحلية والدولية وضع آليات رقابية صارمة لتأمين المناجم، ومنع استغلالها من جانب التنظيمات الإرهابية.
3. تنمية المجتمعات المحلية: الاستثمار في البنية التحتية، والتعليم، وفرص العمل للمجتمعات المحيطة بمناطق التعدين، بما يضمن الاستفادة من الموارد الطبيعية في التنمية بدلًا من تعزيز العنف.
4. مكافحة الفساد: العمل على تحسين شفافية المؤسسات المحلية، وتعزيز الثقة بين الحكومات والمجتمعات المحلية، لمنع التعاون بين السكان والتنظيمات المتطرفة.
5. إشراك المنظمات الدولية: تعزيز دور المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي لتقديم الدعم الفني والمالي لدول الساحل في مواجهة هذه التحديات.
6. الحد من الطلب على الذهب المهرب: فرض قيود أكثر صرامة على الأسواق العالمية لمنع تداول الذهب غير المشروع، ومحاسبة الجهات التي تساهم في بيعه وشرائه.
وختامًا… يمثل التصدي لاستغلال الذهب في منطقة الساحل الإفريقي خطوة حاسمة نحو الحد من تمويل التنظيمات الإرهابية وتحقيق الاستقرار الإقليمي، من خلال تنفيذ إستراتيجيات شاملة، يمكن للمجتمع الدولي الحد من تأثير هذه الظاهرة وضمان مستقبل أفضل لدول الساحل وسكانها.