في تقريرها الصادر في يناير 2025م، عرضت وزارة الداخلية الإسبانية بيانات مثيرة للقلق أشارت إلى زيادة ملحوظة في عدد القُصَّر المعتقلين بتهم تتعلق بالإرهاب الجهادي خلال عام 2024م. وتسلط هذه الإحصائيات الضوء على تحول خطير في أنماط التطرف في إسبانيا، وتعد إشارة تحذير حول حجم التهديد الذي تمثله التنظيمات المتطرفة، لا سيما فيما يتعلق باستهداف الشباب والمراهقين. ومن جانب آخر يعكس التقرير ارتفاعًا في مستوى التعاون الأمني في مواجهة هذا النوع من التهديدات، بينما يطرح في الوقت ذاته تحديات جديدة على الأمن الداخلي الإسباني.
الإحصائيات والاتجاهات الأساسية في التقرير
وفقًا للتقرير، أوقفت السلطات 15 قاصرًا في عام 2024 بتهم تتعلق بالتطرف والإرهاب، وهو رقم قياسي مقارنة بالأعوام السابقة. وتمثل هذه الأرقام حوالي 18.3% من إجمالي عدد المعتقلين بسبب الإرهاب في إسبانيا في العام نفسه (82 شخصًا). ومن بين هؤلاء القُصَّر، كان هناك 5 عناصر متطرفة يخططون لتنفيذ هجمات إرهابية في إسبانيا، وهو ما يعكس تحولًا حادًّا في دور الشباب داخل المنظمات الإرهابية؛ إذ لا يقتصر دورهم بوصفهم داعمين أو مجندين فحسب، بل أصبحوا جزءًا من الخلايا الإرهابية المخطط لها.
وبالنظر إلى البيانات المقدمة في التقرير، يمكن ملاحظة أن العدد الإجمالي للاعتقالات بتهم الإرهاب في عام 2024م قد شهد زيادة طفيفة مقارنة بعام 2023م، الذي بلغ عدد الاعتقالات فيه 78 شخصًا. وبرغم أن الأرقام في عام 2024م لا تزال أقل من السنوات التي تلت هجمات مدريد في 2004م (131 حالة اعتقال)، فإن الاتجاه العام يظهر قفزة ملحوظة في عمليات الاعتقال التي تستهدف الشباب، ما يعكس تغيرًا كبيرًا في تكتيكات العناصر الإرهابية.
ومن أبرز حالات الاعتقال، كانت تلك التي وقعت في يناير 2024م في مدينة مونتيانو (إشبيلية)؛ حيث اعتقلت السلطات مراهقًا سوريًّا كانت بحوزته تعليمات مفصلة حول صناعة مواد متفجرة، بما في ذلك مادة TATP أو "أم الشيطان"، وهي نوع من المتفجرات الشائعة في الهجمات الإرهابية التي نفذها تنظيم "داعش" في أوروبا. أما في ديسمبر من العام نفسه، فقد تم اعتقال 4 من القُصَّر في مدينة إلتشي (أليكانتي) كانوا يخططون للهجوم على كنيسة "سانتا ماريا".
الأبعاد الاجتماعية والنفسية لظاهرة التطرف بين القُصَّر
ويشير التقرير إلى أن التطرف بين القُصَّر لا يُعتبر ظاهرة محلية فحسب، بل هو جزء من اتجاهات أوسع تسجلها الدول الأوروبية الأخرى التي شهدت أيضًا زيادة في عدد المعتقلين من الشباب. ومن اللافت أن التقرير يلفت الانتباه إلى أن هؤلاء القُصَّر غالبًا ما يكونون قد خضعوا لعملية "توجيه" من جانب أفراد آخرين ذوي ميول متطرفة؛ حيث يقوم هؤلاء بتأثيرهم على عقول الشباب عبر الإنترنت، أو في بيئات اجتماعية مغلقة.
وتسهم عدة عوامل في هذا التحول، أبرزها التأثر بالمحتوى المتطرف على الإنترنت، حيث توفر منصات مثل "ديسكورد" و"تيليغرام" وغيرها من شبكات التواصل الاجتماعي مساحة لانتشار الفكر المتطرف والتواصل بين المتطرفين في جميع أنحاء العالم. ويعني ذلك أن القُصَّر، في هذه الحالة، ليسوا فقط ضحايا للاستقطاب، بل إنهم يقومون في بعض الحالات باستقطاب أقرانهم. هذا يعني أن الفكر المتطرف أصبح قادرًا على الانتقال من فرد لآخر بسرعة غير مسبوقة، ما يضاعف من خطر تحوله إلى تهديد حقيقي.
التحديات الأمنية والإستراتيجيات المتبعة
يعتبر المسؤولون الأمنيون أن التحديات التي يصنعها هذا النوع من التطرف بين القُصَّر هي من بين أبرز التحديات التي تواجه الأجهزة الأمنية في إسبانيا. في حديثه عن هذا الموضوع، أشار "كارلوس إيجوالادا"، مدير المعهد الدولي لدراسة الإرهاب، إلى أن تحول الشباب إلى جناة محتملين يشكل تحولًا في إستراتيجيات التنظيمات المتطرفة؛ حيث لم تعد هذه التنظيمات تقتصر على تجنيد الشباب لتنفيذ الهجمات فقط، بل أصبحت تسعى إلى تحفيزهم على التخطيط والتنفيذ بأنفسهم، وهو ما يزيد من تعقيد المكافحة.
واعتبر "إيجوالادا" أن هذا التحول يعكس قدرة أكبر على "التأثير" و"التوجيه" داخل المجتمعات المحلية، كما أن الأساليب المستعملة في عمليات الاستقطاب تزيد تطورًا، ما يجعل من الصعب مكافحة الفكر المتطرف على مستوى الشباب. وعلاوة على ذلك، يعترف التقرير بأن الأجهزة الأمنية في إسبانيا قد تمكنت من إحباط العديد من المخططات الإرهابية، بيد أن التطور السريع في تقنيات التواصل بين الشباب يعكس الحاجة الماسة لتطوير إستراتيجيات الوقاية.
ومن خلال هذا التقرير، نستنتج أن تطور ظاهرة التطرف بين القُصَّر في إسبانيا يشكل تحديًا أمنيًّا يتطلب استجابة شاملة على المستويين المحلي والدولي. وفي الوقت الذي تحاول فيه الأجهزة الأمنية الإسبانية تعزيز إجراءات المراقبة والمكافحة، فإن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي تبقى أحد العوامل الرئيسة التي تسهم في تسريع عملية استقطاب الشباب. لذلك، يظل التعاون بين الحكومات، والمؤسسات الأمنية والتعليمية ضرورة ملحة لمواجهة هذا التحدي المتزايد.
وفي تعليقه على تقرير وزارة الداخلية الإسبانية حول التطرف بين القُصَّر، أبدى مرصد الأزهر لمكافحة التطرف قلقه البالغ إزاء تزايد معدلات التطرف بين فئة الشباب في العديد من الدول، بما في ذلك إسبانيا. وأكد المرصد أن هذه الظاهرة تمثل تهديدًا خطيرًا، ليس على الأمن الداخلي للدول فحسب، بل على قيم السلام والتعايش المشترك التي تشدد عليها الأديان السماوية، وعلى رأسها الإسلام الذي يرفض العنف والتطرف بكل أشكاله.
وأشار مرصد الأزهر إلى أن استهداف التنظيمات المتطرفة للقُصَّر يُعد من أخطر أساليبهم لتوسيع دائرة تأثيرهم، وزيادة أعداد المجندين في صفوفهم. ويعكس ذلك تحولًا في إستراتيجيات التنظيمات الإرهابية التي لم تعد تقتصر على تجنيد الشباب البالغين، بل أصبحت تستهدف في مراحل مبكرة فئة المراهقين في طور التكوين العقلي والنفسي، ما يجعلهم أكثر قابلية للتأثر بالأفكار المتطرفة.
ويؤكد المرصد أن الاستخدام المفرط للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في نشر الفكر المتطرف بين الشباب يعد من أكبر التحديات في الوقت الحالي. فقد أصبحت هذه الوسائل بيئة خصبة للمجموعات المتطرفة لنشر أفكارها، واستقطاب الأفراد بسهولة عبر الخطب التحريضية والمواد الدعائية التي تتسم بالكثير من التضليل والتشويه. ويؤكد المرصد على أن دور الأسرة والمدرسة والجامعة أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى في التصدي لهذه الظاهرة، من خلال تعزيز قيم التسامح والاعتدال في المجتمع، وتقديم التوعية الدينية التي تشدد على المفاهيم الوسطية.
وحدة رصد اللغة الإسبانية