أين يسكن الشيطان؟

  • | الأربعاء, 29 يناير, 2025
أين يسكن الشيطان؟

     كان السؤال في الثقافة الشعبية والدينية عن مكان وجود الشيطان مصدرًا للعديد من التساؤلات والتفسيرات عبر التاريخ، فالبشر بطبيعتهم دائمًا ما يحاولون ربط الشرور التي تواجههم في الحياة بقوة خبيثة، قوة خفية أو ملموسة تتحكم في هذا الشر وتوجهه.  ففي النصوص الدينية والرموز الثقافية، تم تصوير الشيطان على أنه كائن شرير، يسعى لزرع الفتنة وتدمير الخير في كل مكان؛ يقول الله تعالى في محكم آياته: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِير} [فاطر:6]. وعن جابر بن عبد الله، قال رسول الله ﷺ: "عرش إبليس في البحر يبعث سراياه في كل يوم، يفتنون الناس، فأعظمهم عنده منزلة، أعظمهم فتنة للناس".

والشيطان بحسب المسيحية أيضًا رمز للشر، فيرون أنه كائن روحي له سلطان على زمرة من الكائنات الروحية النجسة الخاضعة له وهم شياطين أيضًا (متى 9 :34). كل هذا من المنظور الديني، ولكن إذا نظرنا إلى الواقع السياسي من منظور معاصر، قد نجد أن هذا السؤال يأخذ طابعًا مختلفًا عندما يتعلق الأمر بالظلم والمعاناة التي يعيشها العديد من الشعوب، ويمكننا أن نتساءل: هل يمكن أن يكون الشيطان رمزًا أو استعارة تعبر عن أفعال بغيضة وظالمة تنفذها أنظمة وقوى كبرى؟

إذا أعدنا النظر -  مجازًا- حول مكان وجود الشيطان، فربما نجد أنه يسكن في الظلم المنظم الذي يُمارس ضد المستضعفين. ففي الوقت الحالي، عندما نتأمل في واقع الشعب الفلسطيني، الذي يعاني من قسوة الاحتلال الصهيوني والتواطؤ الدولي، يبرز مثال هذا الاحتلال للأراضي الفلسطينية بوصفه أحد أبرز تجليات هذا الظلم في عصرنا الحديث. هذا الاحتلال الذي هو عبارة عن منظومة كاملة من السياسات التي تهدف إلى القضاء على الإنسان الفلسطيني؛ سواء من خلال طرده من أرضه أو محاولات محو هويته وتاريخه.

الشيطان في هذا السياق يتجسد في صور متعددة:

  1. في الأفعال الممنهجة: التي تتمثل في تدمير المنازل واقتلاع الأشجار وبناء المستوطنات على الأراضي المسلوبة، وقتل الأطفال بدم بارد وفرض الحصار على قطاع غزة. كل هذه الجرائم تعكس انعدام الرحمة وتجسد تجاهلًا صريحًا لحقوق الإنسان الأساسية. يسكن الشيطان أيضًا في وسائل الإعلام التي تبرر الجرائم وتصور الضحية على أنها الجاني. الإعلام الذي يساهم في تشويه القضية الفلسطينية، ويُظهر الاحتلال وكأنه صاحب الحق، بينما يُتهم الفلسطيني بمقاومته للظلم.
  2. في سياسات التمييز العنصري: نظام الفصل العنصري الذي ينتهجه الصهاينة في الضفة الغربية يُعد تجسيدًا واضحًا لسياسات الشيطان من الجدران العازلة والحواجز العسكرية والقوانين العنصرية التي تمنع الفلسطينيين من التنقل بحرية، كلها أدوات شيطانية لقمع شعب كامل. الشيطان يتجسد أيضًا في محاولات الاحتلال لضرب الوحدة الفلسطينية، بزرع الفتن بين أبناء الشعب الواحد، وتحويل معاناتهم المشتركة إلى صراعات داخلية تخدم مصلحة الاحتلال.
  3. في انتهاك المقدسات: يسكن الشيطان في الاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى، حيث تنتهك حرمة الأماكن المقدسة تحت حماية الجنود المدججين بالسلاح. هذه الاعتداءات ليست مجرد أفعال فردية، بل رسالة ترمز إلى محاولات محو الهوية الثقافية والدينية للشعب الفلسطيني بكامله.
  4. في الصمت العالمي والتواطؤ الدولي: العالم الذي يغض الطرف عن ممارسات الاحتلال الصهيوني، أو الذي يكتفي بالإدانة الشكلية دون اتخاذ خطوات جادة، يتحول إلى جزء من منظومة الشر. إن الشر ليس فقط في من يقتل ويهدم، بل في من يرى كل هذا ويظل صامتًا، حيث قال بعض العلماء: "الساكت عن الحق شيطان أخرس، والناطق بالباطل شيطان ناطق".

في سياق هذا الواقع، قد يُنظر إلى الاحتلال الصهيوني على أنه تجسيد لشرور العالم، حيث تتراكم الأفعال القمعية في مشهد يستحضر فكرة الشيطان في صورته التي تبتعد عن الرحمة وتستمر في تدمير الإنسان. بالطبع، فليس الهدف تجسيد الشيطان في شكل سياسي أو ديني، وإنما تسليط الضوء على واقع مآسي الشعوب التي تعاني بسبب سياسات قمعية مدعومة من قوى عالمية.

في النهاية، أين يسكن الشيطان؟ إن الشيطان قد لا يكون موجودًا في مكان واحد بصورة مادية، وإنما قد يسكن الشيطان في صميم تلك القلوب التي لا ترى في الآخر إنسانًا، بل عدوًّا يجب محوه. قد يسكن في المؤسسات التي تضع سياسات تهدف إلى استعباد الشعوب، وطمس هويتها، وخنق أصواتها لتبقى صرخات الاستغاثة بلا صدى. يسكن الشيطان حيثما يُسلب طفل حقه في الحياة، وحيثما تُبنى المستوطنات على أنقاض أحلام أناس كانوا يومًا أصحاب الأرض وما زالوا. يسكن في الأماكن التي تعاني فيها العائلات من التشريد، وفي الحواجز التي تقطع أوصال المدن والقرى لتتحول إلى جزر معزولة عن بعضها البعض. يسكن في الصمت الذي يخيم على المجتمع الدولي، وفي أعين القادة الذين يرون الحقيقة واضحة أمامهم، لكنهم يختارون غض الطرف لأن مصالحهم تعلو فوق معاناة البشر.

إن الشيطان الذي نقصده  ليس مجرد قوة مستقرة، بل هو متحرك، متغير، يتغذى على خوف الناس من المطالبة بحقوقهم أمام قوة الظالمين. ورغم ذلك، فإن الشيطان لا يملك أن يطفئ شعلة الحق التي تضيء القلوب المؤمنة بعدالة قضيتها. قد يسكن الشيطان في أماكن كثيرة، لكنه لن يسود إلى الأبد؛ لأن كل شجرة تُقتلع ستُزرع مكانها أخرى، وكل منزل يُهدم سيُبنى من جديد، وكل صرخة ألم ستتحول إلى نداء للحرية. ستظل فلسطين رمزًا للصمود، وشاهدًا على أن الشيطان وإن سكن بيننا، فإن النور الذي يحمله الحق أقوى من ظلامه؛ لأن الحق لا يموت، حتى وإن بدا ضعيفًا.

وأخيرًا... إذا كان الشيطان يسكن في الظلم، فإن الأمل يسكن في المقاومة، وإذا كان الشيطان يعشش في أماكن الخذلان، فإن الخير يتجلى في أصوات الأحرار الذين لا يخافون قول الحق، يسكن الأمل في الأطفال الذين يحملون الحجارة وهم يعلمون أن عدوهم مدجج بالسلاح، في الصامدين على أرضهم رغم الحصار، وفي الأمهات اللواتي يحلمن بمستقبل أفضل لأطفالهن رغم الدمار. ربما الشيطان له أماكن يسكنها، لكن الخير أيضًا له أماكن يبنيها.

    وحدة الرصد باللغة الأردية

 

طباعة