في عصر المعلومات والتكنولوجيا، لم تعد الحروب تعتمد على الأسلحة التقليدية فقط، بل تحولت إلى حروب نفسية واجتماعية تهدف إلى زعزعة الاستقرار والتأثير على الرأي العام. وتُعد الشائعات من أخطر الأدوات المستخدمة في هذه الحروب؛ حيث تستغل الميل الطبيعي للإنسان إلى تصديق ما يتوافق مع عواطفه، حتى وإن كان بعيدًا عن الحقيقة.
وتعتمد الشائعات على التلاعب بالعقول وزرع الشكوك بين أبناء المجتمع الواحد، مما يؤدي إلى إضعاف الروابط الاجتماعية وتسهيل عمليات السيطرة عليهم، كما أنها تفتح المجال للتدخلات الخارجية، حيث تلعب الأخبار المضللة والإعلام الموجه دورًا رئيسيًّا في تضخيم الأحداث وإضفاء أبعاد غير واقعية عليها، مما يسهم في تأجيج المشاعر والانقسامات.
ولا يتم نشر الشائعات عشوائيًّا، بل تُبنى على أسس مدروسة تستند إلى فهم سيكولوجية الأفراد والجماعات. وغالبًا ما تبدأ الشائعة ببذرة من الحقيقة، ثم يتم تضخيمها وإضافة الأكاذيب إليها، مما يجعلها أكثر مصداقية لدى المتلقين. وفي بعض الأحيان، لا تعتمد الشائعة على أي أساس حقيقي، بل تستند فقط إلى استعداد المستمعين لتصديقها، حتى وإن خالفت المنطق، كما أن خطورة الشائعات لا تكمن فقط في نشر الأكاذيب، بل أيضًا في قدرتها على هدم المجتمعات من الداخل، مما يستدعي وعيًا مجتمعيًّا وإعلاميًّا لمواجهتها والتصدي لها بفعالية.
في العصر الحديث، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي من أقوى الأدوات الإعلامية؛ حيث لعبت دورًا بارزًا في نقل المعلومات حول الأحداث والقضايا المختلفة، وأسهمت في تفسيرها ونشرها على نطاق واسع، كما فرضت نفسها وسيلةً أساسية للتواصل بين الأفراد والجماعات، متجاوزة الحدود الجغرافية والثقافية، خاصة في ظل العولمة والثورة التكنولوجية، في ظل تراجع دور الإعلام التقليدي وزيادة التشكيك في مصداقيته، مما جعلها منصات المصدر الرئيسي للأخبار والمعلومات لدى ملايين المستخدمين.
إلا إن هذا التطور صاحبه جانب مظلم؛ حيث استغلت التنظيمات المتطرفة والحركات ذات الأجندات الخفية وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها أداة فعالة لنشر الشائعات وتزييف الحقائق، فقد أصبحت هذه المنصات ساحة مفتوحة لترويج الأكاذيب، وبث الخوف والقلق، وتأجيج النزاعات، وتعميق الأزمات السياسية والاجتماعية، وساعد في ذلك انخفاض الوعي الرقمي لدى شريحة واسعة من المستخدمين، وغياب آليات فعالة للتحقق من صحة المعلومات قبل تداولها.
وقد كشفت الأحداث العالمية الكبرى، لا سيما خلال الاضطرابات السياسية والأزمات، عن الدور الخطير الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الفوضى من خلال تضخيم الأخبار الكاذبة وترويج معلومات مضللة حول انهيار حكومات واندلاع صراعات دامية. وغالبًا ما تكون هذه الشائعات جزءًا من مخططات مدروسة بعناية، تقف وراءها جهات تهدف إلى زعزعة الاستقرار وإحداث انقسامات داخل المجتمعات، مما يجعل التصدي لهذه الظاهرة مسؤولية جماعية تتطلب تعزيز الوعي الإعلامي وتطوير إستراتيجيات فعالة لمواجهتها.
ومنذ فجر الإسلام، أدركت الشريعة الإسلامية خطورة الشائعات وما تسببه من ظلم للأفراد، وهدم للعلاقات الاجتماعية، وزعزعة استقرار المجتمعات. فهي ليست مجرد أخبار كاذبة، بل أدوات خطرة تُستخدم لإثارة الفتن، والتأثير على الرأي العام، وزرع الشكوك بين الناس؛ ولذلك وضع القرآن الكريم والسنة النبوية منهجًا صارمًا في التعامل مع الأخبار، يقوم على التثبت والتحقق قبل تصديق أية معلومة أو نشرها.
يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (الحجرات: 6). كما حذّر النبي ﷺ من نقل الأخبار دون تحقق، فقال صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّث بكل ما سمع" (رواه مسلم).
ويتضح من ذلك أن نشر الأخبار دون تمحيص يجعل الإنسان مسؤولًا عن نشر الفتنة والبلبلة في المجتمع، وقد تكون العواقب وخيمة. ومن أخطر الشائعات تلك التي تستهدف القيم والأخلاق، حيث حذر القرآن الكريم من خطورة نشر الفاحشة والأكاذيب، فقال الله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ (النور: 19).
وقد جسَّد النبي ﷺ هذا المنهج عمليًّا في حادثة الإفك، التي استهدفت السيدة عائشة رضي الله عنها، بالرغم من خطورة الموقف، حيث لم يتسرع في اتخاذ أي قرار حتى نزل الوحي ببراءتها، مما يؤكد أهمية التروي والتثبت قبل تصديق الأخبار ونشرها.
وفي ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الشائعات تنتشر بسرعة غير مسبوقة، مما يستوجب وعيًا مجتمعيًّا أكبر لمواجهتها؛ فكل فرد مسؤول عن تحري الدقة قبل مشاركة أية معلومة، لأن كل كلمة قد تكون لها تداعيات خطيرة على استقرار المجتمع، فمحاربة الشائعات ليست مجرد التزام أخلاقي، بل هي واجب ديني ووطني، لأن التصدي لها يحمي الأمن القومي، ويُجنب المجتمعات الفتن والانقسامات، ومن الضروري وضع إستراتيجية متكاملة لمكافحة هذه الظاهرة، تشمل تعزيز الوعي الإعلامي، وتشديد القوانين على مروجي الأكاذيب، إضافة إلى تكثيف الوعي الديني والتوعوي حول مخاطر الشائعات.
وختامًا نقول: إن الشائعات سلاح فتاك يُستخدم لضرب المجتمعات من الداخل، وتمزيق نسيجها الاجتماعي، وإحداث فوضى قد تمتد آثارها لعقود، لكن الإسلام قدم لنا منهجًا واضحًا يقوم على التثبت والصدق، ويمنع الانسياق خلف الأخبار المغرضة التي تطلقها الجهات المعادية لإضعاف الدول وإثارة الفتنة بين الشعوب. ومن هنا، فإن التصدي للشائعات واجب ديني ووطني يتطلب تضافر الجهود من جميع فئات المجتمع، بما في ذلك المؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية، لضمان بيئة صحية وآمنة للجميع، وبناء مجتمع واعٍ قادر على التصدي لهذا الخطر، من خلال غرس ثقافة التحقق، وتعزيز الوعي الإعلامي، وتربية الأجيال القادمة على منهج الإسلام القائم على الحق والعدل، حتى نبني مجتمعات قوية، متماسكة، عصية على الاختراق، فبالتوعية والتحقق، وبالتمسك بالقيم الإسلامية التي تحث على الصدق والتثبت، يمكننا تحصين مجتمعاتنا ضد هذه المخاطر، وضمان بيئة مستقرة وآمنة للجميع.
وحدة الرصد باللغة الصينية