مصطلح التفجير بين ثقافة التعمير وثقافة التدمير في ضوء الكتاب والسنة

  • | الخميس, 24 مارس, 2016
مصطلح التفجير بين ثقافة التعمير وثقافة التدمير في ضوء الكتاب والسنة

بسم الله الرحمن الرحيم

المبادئ العامة:
(1)    التفجير مصدر للفعل الثلاثي المضعف  "فجَّر" يقال: فجَّر الماءَ: أي شقَّ له طريقًا فجرَى, وفي القرآن: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا}. أما الفجور فمصدر للفعل الثلاثي " فَجَرَ " يقال: فَجَرَ فُجُوراً: أي إذا انبعث في المعاصي والمحارم.
(2)    القرآن الكريم يستعمل مصطلح التفجير للبناء والتعمير، وخلق أسباب الحياة، وهو بهذا المعنى ممدوح شرعًا، لأنه يحافظ على بقاء النوع الإنساني ويحقق مقصود الشرع في إحياء الخلق.
(3)    لَمْ يُسْتَعْمَلْ التفجير في الإسلام قط للتدمير أو قتل الإنسان، أو إتلاف الأموال وهدم البناء، لأن ذلك لون من ألوان الفساد في الأرض، والله لا يحب الفساد، فكان التفجير بهذا المعنى مذمومًا شرعًا.
التفصيل:
أولا:  التفجير الممدوح شرعًا:
إذا راجعنا إلى القرآن الكريم والسنة النبوية لوجدنا أن ثقافة التفجير فيهما إنما تقوم على استخراج الطاقة من باطن الأرض للتعمير وتوفير مقومات الحياة، من مياه ومعادن وبترول..والنصوص القرآنية خير شاهد على ذلك، إما صراحة، أو ضمناً على النحو الآتي:
(أ‌)    أصل التفجير في القرآن الكريم، إخراج الماء من باطن الأرض لسقي الزرع والثمار والإنسان والحيوان انطلاقًا من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30]، فأسباب الحياة بهذه الآية، إنما تعتمد على استخراج الطاقة المائية والانتفاع بها, وكذلك مضمون قوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود:61]، فاستعمركم: أي مكنكم من طاقات الأرض ومنها عنصر الطاقة المائية؛  لديمومة التعايش وخلق أسباب الرزق لتنعموا بالحياة على أن يصاحب ذلك الصلاح في الأرض لا الفساد فيها، اتباعًا لقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف:10]، أي أن الله سخَّر الأرض لتكون موطنًا للإنسان للانتفاع بخيراتها ليستقر له المعايش فيها.
(ب‌)    لن ينعم الإنسان بالمعاش في الأرض إلا بتفجير طاقاتها الباطنية، لتعمير صحرائها وتكثير زرعها من خلال استخراج المياه والمعادن وهما الأساس في إصلاح الأرض لعموم الخلق بعيدًا عن الإفساد فيها إتلافًا أو إهلاكًا.
قال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، فليس من الإحسان استخدام التفجير لهلاك الإنسان وإتلاف المال؛ لأن ذلك ضرب من الفساد في الأرض يناقض مقصود القرآن الكريم.
(ج) مقصود القرآن في آيات التفجير إبقاء الحياة وتعمير الخراب، يظهر ذلك جليًّا في السياق القرآني لمصطلح التفجير.
قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} [الكهف:33]؛ فمصطلح التفجير في الآية: إنما جعل لإخراج الطاقة المائية لإحياء الزروع والثمار، وكلاهما من مقومات الحياة، فكان استعمال المصطلح في سياق تنمية الثروة الزراعية، دليلًا حيًّا على أن ثقافة التفجير في القرآن الكريم إنما تقوم على الإصلاح والتعمير، لا الإفساد والتدمير.
(د) جاء السياق القرآني في موطن آخر ليدل ضمنيًّا على أن تفجير الماء إنما تقوم عليه زراعة الصحراء، وإحياء الأرض الموات تمهيدًا لإقامة المجتمعات البشرية، وهو هدف إنساني يعين على تحقيق الهدف الديني؛ لذلك ربط الله – عز وجل – إحياء العبادة بإحياء التجمعات البشرية من خلال الطاقة المائية لتوثيق العلاقة بين حق العبد, وحق الرب وفي كلٍ خير، نجد ذلك في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
فكان أن تفجّر ماء زمزم استجابة للدعاء؛ فهوى إليه الطير والإنسان، فدبّت الحياة في المكان، وعمُرت الأرض بالإنسان، جاء في أخبار مكة "فإذا الملك عند موضع زمزم، فضرب الأرض بجناحيه، فظهر الماء، فأخذت هاجر تحوّطه وتقول زمّ، زمّ – أي أمسك- فسكن الماء وأخذت تغرف وتشرب فدرَّ لبنها للرضيع إسماعيل عليه السلام، وأقبل الناس عليها ونزلوا عند البئر، وعُمِّر المكان ودبّت فيه الحياة ( )، وأقيمت الصلاة والمناسك إلى ما هو عليه الحال اليوم، ثم استصحب ذلك على مر الزمان تفجير الطاقة البترولية؛ لتعظيم الثروة الاقتصادية؛ ليؤكد الإسلام أن الدين بشعائره, ومقدساته يرتبط ارتباطًا وثيقًا بغنى البشرية, ورفاهيتها؛ لذلك جاء مضمون النص القرآني؛ ليعلن أن الرزق بالزروع والثمار إنما هو عون على طاعة الله عز وجلّ.{رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
فكأن هذا السياق القرآني ربط بين الدين والدنيا, بين العقيدة وابتغاء الثروة، ولن تكون الزروع والثمار في الأرض الموات إلا بتفجير الطاقات الكامنة في الأرض والمسخرة لذلك, لتحقيق النفع قال تعالى {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [النحل: 13]
وقد تنبأ النبي – صلى الله عليه وسلم-  بهذه الثروة البترولية ضمن الطاقات الكامنة في باطن الأرض فقال – صلى الله عليه وسلم:" تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلاَذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، قَالَ: فَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ: فِي مِثْلِ هَذَا قُطِعَتْ يَدِي، وَيَجِيءُ القَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ، وَيَجِيءُ القَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلاَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا" رواه مسلم.
 فقوله – صلى الله عليه وسلم – "تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلاَذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ" أي تخرج الكنوز المدفونة فيها.
 (ه) وفي موطن آخر ذكَّر اللهُ - عز وجل -  نبيه - صلى الله عليه وسلم- وأمَّته بأن مصطلح التفجير قديم موجود في كل أمة, وكل زمان ومكان, كان سببًا للنفع وتيسيرًا للنعمة، وجلبًا للخير، فاستعملوه لذلك إن كنتم من الشاكرين المصلحين، فقال تعالى في حق موسى عليه السلام وقومه: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60]. فقوله: {اسْتَسْقَى} أي طلب السقي بالماء، بناء على إلحاح قومه لندرة الماء، وجدب الحياة آنذاك، ففجر الله له الماء من الحجر بعد أن أشار إليه بالوسيلة، وهي:{اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ}، فكانت تلك نعمة من الله ورزق قامت عليه الحياة، فلا يقابل بالجحود والنكران.
وبهذا المعنى جاءت الآية الكريمة لتعطي النصيحة لكل أمة وكل فرد، ألا تُحِّولوا نعمة الله إلى نقمة، ولا تقابلوا رزق الله بالعصيان فيُسلب منكم، فإياكم واستخدام التفجير للقتل والتدمير، فإن ذلك فتنة في الأرض وفساد كبير, قال تعالى في عجُز الآية: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، والآية خطاب لجميع الناس إلى يوم الدين، لتذكّر المفسدين الذين توحي إليهم شياطينهم بالتفجير للهلاك والتدمير بأن الله – عز وجل – خلق الطاقة لتقوم عليها أسباب الحياة والبقاء لا الهلاك والفناء .

ثانيًا: التفجير المذموم شرعًا:
إذا كان مصطلح التفجير في النص القرآني جاء في سياق غرس الخير، وتوفير أسباب الحياة لارتباطه باستخراج الطاقة الكامنة من ماء وبترول ومعادن لتعمير الأرض، وإحياء النفس الإنسانية، فإنه ممدوح شرعًا، فإن استخدامه للفساد في الأرض وتدمير مقومات الحياة مذموم شرعًا؛ لأنه يناقض مقصود الشرع في إحياء النفس، }وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا{ [المائدة:32]، فمن تفنن في ابتكار أدوات التفجير لقتل المسلمين، أو غير المسلمين، أو عرّض حياتهم للخطر، وأتلف أموالهم، ودمّر بنيانهم، فإن فعله حينئذ من الفجور، أي الخروج عن طاعة الله، يقال: فجر، بمعنى فسق، أي خرج عن الشرع والملة، وبات منافقًا يخادع الناس فلا يؤمن جانبه.
ولقد شنَّع القرآن الكريم والسنة المطهرة على من اتخذ الدين وسيلة للفساد في الأرض، فقتل ودمّر، وأتلف وخرّب، ولم يلتفت إلى قوله تعالى: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، ثم ينسب نفسه إلى الإسلام، وهو كذب متعمد على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل يبغض التدمير والفناء، ويحب الحياة والبقاء، ولقد سجل الله ذلك في القرآن فقال تعالى: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]؛ فمن استخدم أدوات التفجير لقتل النفس أو الفساد في الأرض، فكأنه فتح الباب لقتل الناس جميعًا، وأعان على هلاك الحرث والنسل، وليس من مفردات الثقافة الإسلامية قتل الناس دون حق، أو هلاك الحرث والنسل دون مسوِّغ شرعي، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:33]. وقال عز وجل: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:205-206]، فبئساه فكر هذا الذي يدعو إلى خراب الديار وفساد البيئات, وتقطيع الأرحام؛ لذلك قدح فيه الإسلام وذمه، ورتب عليه اللعنة في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22-23]، ومن يظن أنه يخادع الله والناس، وزين له شيطانه أنه يحسن الصنع، فإن أبلغ رد عليه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103-104]، وفي الصحيح أن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا - أَوْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ - حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ" [صحيح البخاري].
فالذي يتسلل بين الآمنين في ديار الإسلام وغيرها في حال السلم؛ ليقتل أو يدمر ويزعم أنه من أهل الجهاد، فهو كاذب على الله، لأن الله تعالى قال: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء:33]، وهو قد خان العهد في المسلمين, وأفسد الأمان للمستأمنين، والله تعالى يقول: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34]، وهو قد فجر في خصومته، فحول بنيان الإنسان إلى أشلاء, بعد أن بناه الله و قَوَّمَهُ , وحَسَّنَهُ ,و رَكَّبْهُ فقوَّى بنيانه ليشد بعضه بعضًا, قال – تعالى-:}لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ{ (التين: 4) فمن هدمه فقدْ فَقَدَ البصيرة فاستحق اللعن {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23]، والله أعلم.

 

طباعة
كلمات دالة: