ومضات مضيئة من الحضارة الإسلامية أسهمت في بناء مجتمعات قوية ومتماسكة

  • | الخميس, 27 فبراير, 2025
ومضات مضيئة من الحضارة الإسلامية أسهمت في بناء مجتمعات قوية ومتماسكة

سعى مرصد الأزهر منذ افتتاحه عام 2015م إلى تقديم النموذج الإيجابي للمجتمعات المسلمة التي تتميز بالوسطية والاعتدال، وإزالة اللبس حول كثير من المفاهيم الخطأ التي أَشاعتها التنظيمات المتطرفة.

ومن هذا المنطلق، قدم مرصد الأزهر عبر وحداته المختلفة العديد من التقارير والحملات التي تهتم بإبراز الجانب الحقيقي للدين الإسلامي. ومن أهم القضايا الأساسية التي تشغل الفكر الإنساني عبر العصور: فهم العلاقة بين المجتمع والدين، والتي استغلها العديد من المتطرفين في إشعال الحروب الطائفية والدينية. ولم يكن التطرف يحمل وجهًا دينيًّا فقط، فقد استخدم الشعبويون والقوميون خطابًا عاطفيًّا يحفِّز المشاعر العامة ومفاهيم وشعارات رنانة، محاولين زعزعة الاستقرار عبر خلق استقطاب حاد في المجتمع وتعصب مفرط وغلوٍّ ممقوت، ليتحول التطرف إلى أداة للإقصاء والكراهية. فقد جعلوا الدين والمجتمع في حالة تعارض، متغافلين الحقائق التاريخية التي حملتها الحضارة الإسلامية القائمة على مبدأ التكامل بين الدين والمجتمع؛ حيث أسهم العلماء والتجار والحكام في نشر قيم العدل، والعلم، والتسامح. كما شهد التطبيق العملي للحضارة الإسلامية عبر التاريخ نُظُمًا اجتماعيةً قويةً تقوم على القيم الإسلامية، مما أدى إلى استقرار المجتمعات وازدهارها.

دور الدين الإسلامي في تشكيل هوية المجتمعات

شهد التاريخ الإنساني علاقات متغيرة بين المجتمع والدين، ليبقى الدين أحد العوامل الراسخة التي يُرجَع إليها في مواجهة التحديات والتغيرات. وفي العديد من الحضارات، مثل الحضارة الإسلامية والمسيحية والهندوسية، كان الدين هو القوة الدافعة وراء الفنون والأدب والقوانين. غير أن الإسلام يبقى النموذج الأكثر وضوحًا في حماية حقوق الأفراد وتعزيز الاستقرار الاجتماعي، وذلك منذ نزول الوحي على النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث لعب الإسلام دورًا محوريًّا في تشكيل هوية المجتمعات، من خلال التعاليم الدينية التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من القيم الأخلاقية والتقاليد الاجتماعية. كما قدم النموذج الإسلامي وجهًا أخلاقيًّا يرتكز على التراحم بين طبقات المجتمع والتكافل الاجتماعي؛ حيث فرض الإسلام نظامًا اقتصاديًّا متوازنًا يضمن العدالة ويحول دون الاستغلال، وحملت الشريعة الإسلامية العديد من القوانين التي تحمي جميع أفراد المجتمع، كتحريم الربا والغش. جاءت تلك القيم النابعة من الشريعة الإسلامية لتؤسس لمعنى الآية القرآنية: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (سورة آل عمران: الآية 110). فالخيرية التي تميزت بها الأمة الإسلامية نابعة من الإصلاح في المجتمع، وليست عنصرية قائمة على تمييز فئة معينة من البشر.

إسهامات الحضارة الإسلامية في نهضة المجتمعات

قدمت الحضارة الإسلامية العديد من القيم التي يمكن الاستفادة منها في بناء المجتمعات المتماسكة والمتطورة؛ حيث تعد الحضارة الإسلامية نموذجًا فريدًا لبناء مجتمع متوازن يحقق الازدهار دون التفريط في المبادئ الأخلاقية والدينية. وتجلت تلك القيم في العديد من النقاط أهمها:  

التعايش السلمي

لم يعرف التاريخ الإنساني حضارة سعت إلى التعايش مع الآخرين مثل الحضارة الإسلامية. فقد أدرك المسلمون الأوائل حكمة التعدد والاختلاف، وفي سنوات ازدهار الحضارة الإسلامية ومع تمدد الفتوحات، ضمت الدولة الإسلامية الكثير من أصحاب الديانات المختلفة، ليظهر التسامح الديني الذي أظهره المسلمون، من حيث تمتع كل أفراد المجتمع بحرية ممارسة شعائرهم الدينية. ولم يكن ذلك التسامح منحة أو فضلًا يقدمه الحاكم للمحكوم، بل جاء ذلك تنفيذًا للأمر الإلهي الذي جاء في القرآن الكريم، قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (سورة هود: الآية 118). ولهذا نجد أنه في السنوات الأولى لانتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية، كانت الشريعة الإسلامية هي قانون الأمة بين العديد من أصحاب الديانات المختلفة. ولم يكن المسلمون في ذلك الوقت هم الأكثرية الغالبة على أهل هذه البلدان، فسمحوا لهم بإقامة شعائرهم وحافظوا على أماكنهم المقدسة، واستمد المسلمون هذه القيمة العظيمة من قوله تعالى: "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ" (سورة الحج: الآية 40).

وقد ظهر هذا النموذج واضحًا في العهدة العمرية، وهي العهد الذي أعطاه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأهل مدينة القدس (إيلياء) بعد فتحها سنة 15 هـ / 636 م. وفيها ضُمن الأمان وحُفظت حقوقهم الدينية والمدنية. وتُعتبر هذه الوثيقة رمزًا للتسامح الإسلامي مع أصحاب الديانات الأخرى.

العلوم والفنون

في الوقت الذي تعرض فيه العلماء في العديد من دول الغرب، وخاصة أوروبا، لأشكال مرعبة من الاضطهاد والتعسف في العصور المظلمة، أولت الحضارة الإسلامية اهتمامًا كبيرًا بالعلم والتعليم، اقتداءً بأوامر الرسول الكريم الذي أوصى بطلب العلم، وحث أصحابه على التعلم. فكانت الحضارة الإسلامية مقصدًا لكل راغبي التعلم. ففي سنوات قليلة، ازدهرت الحركة العلمية، وشهدت بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، تأسيس المدارس والمكتبات التي أصبحت مراكز إشعاعٍ ثقافيٍّ وعلميٍّ.

ومن أهم تلك المؤسسات العلمية مكتبة بغداد، المعروفة باسم بيت الحكمة، وهي إحدى أبرز المؤسسات العلمية والثقافية في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية. فكانت مركزًا عالميًّا للعلم والمعرفة؛ حيث جمعت بين الترجمة والبحث والتأليف في مختلف المجالات العلمية والأدبية. ولم تقف الحضارة الإسلامية عند حدود حضارية معينة، بل احتضنت العديد من الثقافات والشعوب، وترجمت أعمالًا علمية وفلسفية من اليونانية والفارسية والهندية والسريانية إلى العربية، مما أسهم في حفظ تلك المعارف، ونقلها إلى الأجيال اللاحقة. وقدمت الدعم المادي والمعنوي للعلماء والمفكرين، مما أدى إلى ظهور شخصيات علمية بارزة، مثل الخوارزمي (مؤسس علم الجبر)، وابن سينا (في الطب)، والكندي (في الفلسفة).

 أسهم العلماء المسلمون في تقدم العديد من المجالات مثل: الطب، والفلك، والرياضيات، والفلسفة، والكيمياء، حيث كانت المساجد مراكز للتعليم والبحث العلمي، وظهر العديد من النبغاء، والعلماء في الفنون والعلوم المختلفة مثل: الرازي، وابن الهيثم، والذين قدموا إسهامات كبيرة في مجالات الطب، والرياضيات، والفلك، مما يدل على أهمية دعم البحث العلمي والابتكار.

وبخلاف العديد من حضارات العالم لم تحجب الحضارة الإسلامية نورها عن بقية شعوب العالم؛ فأسهم المسلمون في نقل العديد من المعارف إلى بلدان أخرى مثل: طرق صناعة الورق الصينية، كما لم تفرق الحضارة الإسلامية بين أصحاب الديانات الأخرى في مجال التعلم ونقل العلوم، بل شجعت على التبادل الثقافي والعلمي بين جميع الأفراد بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية؛ فقد شارك العديد من العلماء غير المسلمين بشكل فعال في التطور العلمي والثقافي، أمثال حنين بن إسحاق (809–873م) الذي كان طبيبًا وعالمًا مسيحيًّا وأحد أعظم المترجمين في العصر العباسي، حيث ترجم العديد من الأعمال الطبية والفلسفية، وكذلك سابور بن سهل الذي أسس واحدة من أولى المستشفيات في بغداد، وعبد الله بن الطيب الفيلسوف المسيحي الذي كتب في الفلسفة والطب، وشرح أعمال أرسطو وجالينوس.

شهدت الحضارة الإسلامية اهتمامًا كبيرًا بالفنون والثقافة، كما احتضنت الحضارات القديمة، حيث تم دمج القيم الإسلامية مع التقاليد الفنية والثقافية للشعوب التي دخلت في الإسلام، وظهر ذلك في العديد من مظاهر الحضارة الإسلامية، وأهمها العمارة الإسلامية التي تأثرت بالحضارات الفارسية، البيزنطية، والهندية، وأثرت بدورها في الفنون الأوروبية خلال العصور الوسطى، وعصر النهضة، كما كان التبادل الثقافي كبيرًا بين مختلف الشعوب، ولم يكن مجرد ترفيه، بل كان جزءًا من الهوية الإسلامية التي تجمع بين الجمال والقيم الروحية. أسهم هذا الاهتمام في إثراء التراث الإنساني، وترك إرثًا فنيًّا، وثقافيًّا، لا يزال يُلهم العالم حتى اليوم.

الاقتصاد والتكافل الاجتماعي

لم يغفل الإسلام حقوق الفقراء، فقد أنشأت الشريعة الإسلامية القوانين والتشريعات التي تضمن حقوقهم داخل المجتمع. وقد شهدت الحضارة الإسلامية تطورًا كبيرًا في مجال الاقتصاد والتكافل الاجتماعي، حيث اعتمدت على مبادئ الإسلام التي تحث على العدل والمساواة والتضامن الاجتماعي. ومن أهم التشريعات الإسلامية التي تكفل حماية حقوق الفقراء الزكاة، وهي أحد أركان الإسلام الخمسة. وهي فريضة إلزامية على الأغنياء لمساعدة الفقراء والمحتاجين، وهي إحدى الوسائل لإعادة توزيع الثروة وتقليل الفقر. إضافة إلى الصدقة التي جعلها الإسلام من وسائل التقرب إلى الله. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ». في الوقت نفسه، اهتمت الحضارة الإسلامية بتشجيع نظام الوقف، وهو تخصيص أصل معين (مثل أرض أو عقار أو أموال) لخدمة غرض خيري أو اجتماعي بشكل دائم، حيث يبقى الأصل محفوظًا ولا يُباع أو يُوهب، في حين تُستخدم منافعه (أرباحه أو إيراداته) لخدمة المجتمع ككل، مثل: بناء المساجد، والمدارس، والمستشفيات، والمكتبات، أو توفير المياه للعامة.

في الختام، تظهر لنا الحضارة الإسلامية ومضات مضيئة وقيمًا سامية ودروس ملهمة تسهم في بناء المجتمعات على أسس العدالة، والتسامح، والعلم، والتكافل الاجتماعي؛ حيث نجحت في إقامة مجتمعات مزدهرة ارتكزت على مبادئ قوية من الأخلاق والقيم، مما أسهم في تحقيق الاستقرار، والتقدم. إن استلهام هذه الدروس والقيم اليوم يمكن أن يكون مفتاحًا لبناء مجتمعات أكثر ازدهارًا وتماسكًا؛ حيث تعزيز العدل، واحترام التنوع، والسعي نحو المعرفة. فكما كانت الحضارة الإسلامية نموذجًا يُحتذى به في الماضي، يمكن لمبادئها وقيمها أن تسهم في نهضة الحاضر، وبناء مستقبل أكثر إشراقًا.

وحدة الرصد باللغة الصينية

 

 

 

 

 

طباعة