- مقدمة:
شهد إقليم خيبر بختونخوا الباكستاني سنوات طويلة من الصراع بين الجماعات المسلحة المتشددة والدولة الباكستانية. برزت في المنطقة جماعة تحريك طالبان باكستان (TTP) أواخر عام 2007 تحالفًا لمجموعات متشددة، وذلك عقب اقتحام الجيش للمسجد الأحمر في إسلام آباد وما تبعه من موجة عنف واسعة، دفعت الحكومة الباكستانية إلى شن حملات عسكرية عدة لفرض الأمن في معاقل هؤلاء المسلحين بالمناطق القبلية المحاذية لأفغانستان (والتي دُمجت لاحقًا في خيبر بختونخوا)، أبرزها عمليتا: “الطيف المتعرج” (ضد طالبان باكستان في وزيرستان 2014) و“رد الفساد” (2017). وقد أدت هذه العمليات إلى إضعاف طالبان باكستان وتقليل هجماتها بشكل كبير في عام 2019، ودُفِعت فلول مقاتليها للجوء إلى الأراضي الأفغانية المجاورة.
ورغم تراجع حدة التمرد لعدة سنوات، عاد التوتر الأمني للارتفاع مجددًا بعد تطورات أفغانستان، حيث شجَّع استيلاء حركة طالبان الأفغانية على الحكم في كابول (أغسطس 2021) نظيرتها طالبان باكستان وأعاد التركيز لأنشطتها، ورغم أن طالبان باكستان حركة منفصلة عن طالبان الأفغانية، إلا أنها تتشارك معها الأيديولوجيا وتعتبرها حليفًا وثيقًا. كما تشير تقارير إلى أن طالبان الأفغانية وفرت ملاذًا علنيًّا لقادة طالبان باكستان ومقاتليها بعد وصولها للسلطة، بإطلاق سراح المعتقلين منهم الذين كانت تحتجزهم الحكومة الأفغانية السابقة، وقد أدى ذلك إلى توتر شديد في العلاقات بين إسلام آباد وكابول، إذ تتهم باكستان سلطات طالبان بالتساهل مع وجود مقاتلي TTP على أراضيها رغم تعهد طالبان بعدم استخدام أرض أفغانستان ضد الغير[1]. هذا الوضع الحدودي المتأزم انعكس في اشتباكات متفرقة وغارات عبر الحدود خلال 2024، مما زاد من تعقيد المشهد الأمني بين البلدين.
ضمن هذا السياق، تكتسب دار العلوم الحقانية في أكوره ختك شهرة خاصة. فهذه المدرسة الدينية السنية المعروفة بـ"جامعة الحقانية" خرّجت العديد من قادة طالبان الأفغانية منذ التسعينيات[2]. وقد أسسها وأدارها لعقود الشيخ مولانا سميّع الحق الذي لُقب بـ“أب طالبان” لتأثيره الكبير في الحركة، وكان لسميّع الحق دور سياسي أيضًا، حيث قاد جناحًا من جماعة علماء الإسلام (المعروف بجناح فضل الرحمن ثم سميّع الحق بعد انشقاقه، ولعب دور الوسيط في محاولات الحوار بين طالبان والحكومة الأفغانية قبل اغتياله الغامض عام 2018[3]. وبعد مقتله، تولى ابنه مولانا حامد الحق حقاني إدارة المدرسة وقيادة الجماعة (جمعية علماء الإسلام – جناح سميّع الحق). في ظل هذا الإرث، ظلت دار العلوم الحقانية رمزًا دينيًّا ذا صلة وثيقة بطالبان، لكنها أيضًا أصبحت هدفًا محتملًا لخصوم طالبان والجماعات المتشددة المنافسة.
- تحليل الهجوم
في ظهر يوم الجمعة 1 مارس 2025 وفي أثناء خروج المصلين من جامع دار العلوم الحقانية في بلدة أكوره ختك بعد صلاة الجمعة، وقع هجوم انتحاري دامٍ استهدف المصلين. ووفق الروايات الأولية، تسلل المهاجم مرتديًا سترة ناسفة إلى داخل مجمع المسجد رغم وجود إجراءات أمنية مشددة، وفجّر نفسه عند البوابة بينما كان المصلون يغادرون [4]. وأدى الانفجار إلى مقتل ما لا يقل عن ستة أشخاص بينهم الشيخ مولانا حامد الحق حقّاني، نائب مدير المدرسة ورئيس جناح جمعية علماء الإسلام (سميّع الحق)، وإصابة نحو 20 شخصًا بجروح متفاوتة.
بدورها، أكدت الشرطة الباكستانية هوية المنفذ بأنه انتحاري استهدف مباشرة مولانا حامد الحق في أثناء خروجه من المسجد عائدًا إلى سكنه المجاور. كما أعلن مفوض الشرطة في إقليم خيبر بختونخوا أن دلائل مسرح الجريمة تشير بوضوح إلى عملية انتحارية مخططة[5].
يشار إلى أن مولانا حامد الحق حقّاني كان شخصية بارزة، ليس فقط لكونه مديرًا للمدرسة ووريث إرث والده سميّع الحق، بل أيضًا لدوره السياسي والديني. فقد شغل سابقًا عضوية البرلمان (2002-2007) وكان يُنظر إليه حلقة وصل بين الحكومة وبعض الأوساط الطالبانية.[6] شكل مقتله ضربة كبيرة لأنصاره ولمؤسسة دار العلوم الحقانية، التي لطالما اعتُبرت معقلًا تاريخيًّا لتنشئة قادة طالبان.
- تضارب حول هوية المسؤول عن الهجوم
حتى لحظة إعداد هذا التقرير، لم تُعلن أية جهة مسؤوليتها رسميًّا عن الهجوم. لكن التأكيد على طابع العملية الانتحاري وتوقيتها (في أثناء صلاة الجمعة في مسجد) يوجهان أصابع الاتهام نحو جماعات متشددة معروفة تنشط في باكستان. في مقدمة المشتبه بهم برز اسم تحريك طالبان باكستان (طالبان باكستان)، خاصة وأن لهذه الجماعة تاريخًا من العداء مع المؤسسة الدينية التقليدية التي اعتُبرت قريبة من الدولة. وأفاد مراسلون محليون أن هناك شرخًا كبيرًا بين حركة طالبان باكستان وإدارة دار العلوم الحقانية، حيث تتهم طالبان باكستان هذه المدرسة بمساندة الحكومة في حربها ضد الحركة[7]. من هذا المنطلق، لم تستبعد المصادر الأمنية ضلوع طالبان باكستان في التخطيط للهجوم، انتقامًا أو لتصفية شخصية بحجم حامد الحق الذي ربما عارض توجهاتها.
رغم ذلك، سارع الناطق باسم طالبان باكستان إلى نفي أي تورط للحركة في تفجير مسجد الحقانية، بل وصل الأمر بالحركة إلى إدانة مقتل مولانا حامد الحق وتقديم التعازي لعائلته[8]. هذا النفي تكرر في حالات سابقة؛ فطالبان باكستان تعلن نظريًّا عدم استهداف المساجد أو دور العبادة، كما حدث بعد تفجير مسجد بيشاور 2023 حين تبرأت القيادة من هجوم أعلنه أحد قادة الحركة الميدانيين.[9] ويُظهر ذلك وجود انقسامات داخلية محتملة في صفوف طالبان باكستان نفسها أو على الأقل اختلافًا في الإستراتيجية بين قيادتها المركزية وبعض العناصر المتشددة التابعة لها، لذا فإن السؤال الذي يطرح هنا: هل نفذت الهجوم جماعة منشقة عن طالبان باكستان تخالف توجيهاتها العلنية، أم أن جهة أخرى استغلت اسم الحركة لتنفيذ أجندتها؟
احتمال آخر برز بقوة في التحليلات يتمثل في تنظيم “داعش – ولاية خراسان” (ISKP). فقد كشفت مصادر أمنية أن دار العلوم الحقانية سبق أن تلقت تهديدات من تنظيم داعش خراسان بسبب علاقتها التاريخية الوثيقة بطالبان[10] .
يُذكر أن تنظيم داعش في أفغانستان وباكستان يعتبر طالبان خصمًا عقائديًّا له، إذ يكفّرها ويتهمها بمهادنة “الكفار” - على حد وصفه - ، وأنها مجرد حركة قومية لا تمثل الإسلام “الصحيح” من وجهة نظره. ومن ثم، يمثل اغتيال شخصية مقربة من طالبان داخل باكستان هدفًا مثاليًّا لداعش لإظهار حضوره وتوسيع نفوذه على حساب طالبان وحلفائها.
تعزيزًا لهذا الاحتمال، يشير محللون إلى تنامي نشاط داعش خراسان في كلا جانبي الحدود خلال الآونة الأخيرة واستهدافه المتكرر لمساجد ومناسبات دينية لإيقاع أكبر قدر من الضحايا وإثارة الفتنة[11]. وحتى التنافس بين أجنحة طالبان الأفغانية نفسها قد يكون عاملًا؛ إذ تخشى بعض التقارير من أن تؤدي الانقسامات داخل طالبان إلى انشقاق متشددين منها والتحاقهم بداعش، مما يزيد من جرأة الأخير في ضرب أهداف داخل باكستان. وبناءً على هذه المعطيات، لا يُستبعد أن يكون منفذ الهجوم تابعًا لداعش – ولاية خراسان أو متأثرًا بفكرها، انتقامًا من المدرسة التي تُعرف بولائها لطالبان.
أما فرضية تورط جهات حكومية أو استخباراتية باكستانية في تدبير الهجوم، فقد ظهرت بوصفها جزءًا من خطاب تكهني لدى بعض الأطراف، لكنها تظل دون أية أدلة ملموسة. يدفع أصحاب نظرية المؤامرة هذه بأن اغتيال شخصيات إسلامية نافذة (كحادثة مقتل سميّع الحق عام 2018 في منزله) قد يصب في صالح جهات لا ترغب بتقارب بين العلماء المؤثرين وطالبان أو تخشى من دورهم السياسي[12]. لكن السلطات الباكستانية نفسها كانت أول من ندد بالهجوم واعتبرته اعتداءً على الأبرياء وعلى حرمة المساجد[13]. كما شددت على أنها لن تتهاون في ملاحقة المتورطين وتقديمهم للعدالة.
وفي ظل غياب أي دليل أو مؤشر يُثبت تورط أطراف رسمية، يبقى الأرجح أن منفذي الهجوم ينتمون إلى إحدى الجماعات المتطرفة المسلحة التي تسعى لزعزعة الأمن، وإرسال رسائل دموية سواء للحكومة أو لطالبان الأفغانية وحلفائها.
- التداعيات السياسية والأمنية
أثار هذا الهجوم الدموي سلسلة من ردود الفعل الرسمية في باكستان وأفغانستان على حد سواء، وزاد من تعقيد المشهد السياسي والأمني المضطرب أصلًا بين البلدين. فعلى الجانب الباكستاني، سارع كبار المسؤولين إلى إدانة ما حدث بأشد العبارات. فقد أصدر الرئيس الباكستاني (آصف زرداري) ورئيس الوزراء (شهباز شريف) بيانين أكدا فيهما أن استهداف المصلين في مسجد، عمل إرهابي جبان يناقض تعاليم الإسلام، وشددا على أن الإرهابيين هم “أعداء الوطن والإنسانية” [14]. بينما أعرب رئيس الوزراء عن حزنه البالغ لفقدان مولانا حامد الحق وغيره من الضحايا، موجهًا السلطات الأمنية والصحية لبذل أقصى جهد لمساعدة الجرحى والتحقيق العاجل في الحادث.
كما توالت بيانات التنديد من الأحزاب السياسية المختلفة في باكستان، إذ وصف قادة جمعية علماء الإسلام (فضل الرحمن) الهجوم بأنه دليل على أن حتى المساجد والمدارس الدينية لم تعد آمنة، مطالبين بمحاسبة المقصرين في حماية الشخصيات المستهدفة[15].
على الجانب الأفغاني، نددت حركة طالبان الحاكمة في كابول بشدة بالاعتداء على مدرسة ارتبط اسمها بتاريخ طالبان. فقد أصدر الناطق باسم إمارة أفغانستان الإسلامية "ذبيح الله مجاهد" بيانًا يوم الحادث يصف فيه مقتل الشيخ حامد الحق بـ“الاستشهاد” وبأنه خسارة كبيرة للمؤسسات العلمية والدينية ، ونقل البيان تعازي حكومة طالبان لعائلة الشيخ وتلاميذه، معتبرًا استهداف عالم دين في مسجد جريمة مدانة[16] .
هذا الموقف العلني لطالبان أفغانستان يُظهر حرصها على الحفاظ على خيوط الود مع حلفائها الإسلاميين في باكستان، خاصة وأن مولانا حامد يُعد شخصية ذات اعتبار لدى الحركة بحكم علاقات والده التاريخية معها.
رغم وحدة الموقف المعلن ضد الإرهاب، يبقى السؤال حول تأثير الهجوم على العلاقات الباكستانية-الأفغانية المتوترة أصلًا. فمن ناحية، قد يدفع هذا الهجوم الجانبين إلى قدر من التنسيق لمواجهة الخطر المشترك المتمثل بالجماعات المتطرفة العنيفة. فإذا صحت فرضية ضلوع داعش - خراسان، فهذا العدو يهدد استقرار كل من باكستان وطالبان أفغانستان على حد سواء، ما قد يشجّع على تعزيز التعاون الاستخباراتي وتبادل المعلومات بينهما. وبالفعل، اعتبر مراقبون أن تصاعد هجمات داعش خراسان هو أحد تداعيات صعود طالبان في كابول، وأن كبح جماح هذا التنظيم يتطلب جهدًا مشتركًا[17].
لكن من ناحية أخرى، قد يؤدي الهجوم إلى تعميق الشكوك المتبادلة بين إسلام آباد وكابول إذا ما تبيّن أن منفذيه ينتمون لطالبان باكستان أو تحركوا من داخل الأراضي الأفغانية. فقد دأبت إسلام آباد في الشهور الأخيرة على اتهام طالبان أفغانستان باحتضان قادة طالبان باكستان الذين يخططون لهجمات انطلاقًا من ملاذات آمنة عبر الحدود. لذا فإن أي مؤشر يربط تفجير مسجد الحقانية بعناصر موجودة في أفغانستان سيزيد الضغوط على حكومة طالبان لاتخاذ إجراءات ضدهم، وهو أمر تسبب سابقًا في توترات كادت تتطور إلى اشتباكات حدودية واسعة.
يُذكر هنا أن باكستان نفذت بالفعل ضربات جوية استباقية داخل الأراضي الأفغانية خلال 2022-2023 ضد ما تقول إنها معسكرات لطالبان باكستان، ما أثار حفيظة حكومة كابول. وعقب الهجوم الأخير، قد تجد باكستان نفسها مضطرة لتكثيف عملياتها العسكرية والأمنية في إقليم خيبر بختونخوا وعلى طول الشريط الحدودي لاستئصال الخلايا النائمة للمتمردين. وقد تستأنف القوات الباكستانية عمليات تمشيط واسعة في المناطق القبلية الحدودية، خاصة وأن الهجوم جاء ليذكّر الدولة بأن خطر الإرهاب لم يندثر وأن “لا مكان آمن من الإرهاب” حتى المؤسسات الدينية.
على صعيد الحرب على الإرهاب داخليًّا، يشكل اغتيال شخصية بحجم مولانا حامد الحق جرس إنذار جديد للسلطات الباكستانية. فبعد سنوات من التحسن النسبي في الوضع الأمني حتى 2019، شهدت باكستان عودة عمليات إرهابية نوعية منذ أواخر 2021، من أبرزها تفجير مسجد الشرطة في بيشاور (يناير 2023) الذي حصد أكثر من 100 قتيل[18]. إن تكرار استهداف المساجد والمدارس – التي يفترض أنها مواقع محمية ومقدسة – يضع الحكومة وأجهزتها الأمنية أمام اختبار صعب لإستراتيجيتها في مكافحة الإرهاب. وقد يترتب على ذلك إعادة تقييم للنهج المتبع، وربما تعزيز التنسيق مع سلطات كابول إن أمكن، أو على الأقل تحصين الجبهة الداخلية عبر تكثيف العمليات الاستخبارية ضد خلايا المتطرفين.
سياسيًّا، من المرجح أن يستغل الخصوم السياسيون في باكستان الحادث لتبادل الاتهامات بشأن التقصير الأمني. فقد تعرضت حكومة إقليم خيبر بختونخوا (التي كان يقودها حزب حركة الإنصاف قبل حلها وتعيين إدارة مؤقتة) لانتقادات بسبب تركيزها على الخصومات السياسية مع المركز أكثر من تركيزها على الخطر الإرهابي المتصاعد[19]. وربما يُعطي هذا الهجوم دفعًا للمؤسسة العسكرية الباكستانية لتشديد قبضتها أمنيًّا في الإقليم، وتأجيل أية ترتيبات سياسية هناك إلى حين ضمان الاستقرار. كما قد تُثار تساؤلات حول مدى فعالية برنامج المصالحة وإعادة الإدماج الذي طُرح سابقًا لعناصر طالبان باكستان، والذي تعثّر نتيجة تكرار الخروقات من جانب المسلحين.
ختامًا …
في المحصلة، كشف الهجوم الانتحاري على مسجد دار العلوم الحقانية عن صورة قاتمة لتشابك العوامل المحلية والإقليمية في مشهد الإرهاب الحالي، فهو نتاج صراعات تاريخية في خيبر بختونخوا بين الدولة والمتشددين، ومرتبط في جذوره بارتدادات صعود طالبان الأفغانية وتحالفاتها وعداواتها. كما ألقى الهجوم الضوء على انقسامات المعسكر المتطرف ذاته بين طالبان باكستان وداعش وغيرها، حيث لم يعد الجميع على هدف واحد بل تُنازِعُهم رؤى مختلفة.
ومما لا شك فيه أن لهذا الهجوم تداعيات سياسية وأمنية عميقة: فمن جانب سيعقّد العلاقات الباكستانية-الأفغانية إلا إذا أحسن الطرفان استثماره لتعزيز التعاون ضد عدو مشترك، ومن جانب آخر سيدفع باكستان لمراجعة سياساتها الأمنية في حربها المستمرة ضد الإرهاب. ويبقى الأمن الإقليمي رهنًا بقدرة إسلام آباد وكابول معًا على تبني إستراتيجية منسقة لكبح دوامة العنف؛ حتى لا تتكرر مشاهد الألم والفوضى في مساجد أخرى أو ساحات جديدة.
وحدة الرصد باللغة الأردية