التزام المنهج العلمي كأحد مرتكزات التقدم العلمي في الإسلام (2)

  • | الإثنين, 22 أغسطس, 2016
التزام المنهج العلمي كأحد مرتكزات التقدم العلمي في الإسلام (2)

4- مما يميز المنهج العلمي في الفكر الإسلامي، قيامه على الاستنباط، سواء عن طريق إعمال الأدلة في العلوم النظرية، أو إجراء التجارب والتحليل المعملي في العلوم التجريبية للتأكد من سلامة النتائج وإصابة الأحكام.

وقد أشار إلى الأولى قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61].

وقوله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:63].

ففي الآيتين توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم أن يستخدم البراهين الحية، والأدلة القائمة لحمل المعاندين على الإقرار بوحدانية الله تعالى، والتسليم بتفرده بتدبير أمر الكون، أرضا وسماء، شمسا وقمرا.

ونفس المنهج متبع في العلوم الشرعية، كقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[المائدة: 90]... فالأمر بالاجتناب في الآية يقتضي ترك الفعل تركا جازما وطلب الترك الجازم يدخل الفعل دائرة التحريم، فكانت الخمر وصواحبها حراما.

أما العلوم التجريبية فقد أشار القرآن الكريم إلى التجديد فيها بالتحليل والبحث، للبلوغ إلى أقصى فائدة. من ذلك قوله تعالى في عسل النحل: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 69].

فقوله تعالى: { فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ } دعوة للبحث في عسل النحل، وإجراء التجارب على مادته لاكتشاف طرق الاستشفاء به، فكأن القرآن الكريم يدفع علماء الطب والصيدلة إلى التجديد في علوم عسل النحل، لاكتشاف الجديد فيها. ولذلك جاء عجُز الآية: {لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، ولقد أثبتت كافة الأبحاث التجريبية على عسل النحل أنه من أهم المواد فعالية في معالجة أكثر من مرض، وإمداد الجسم بالقوة المناعية، ليقوى على صدّ الميكروبات والجراثيم([1]).

ومن ذلك أيضا ما لفت إليه القرآن الكريم في مجال الفضاء والبحوث الفلكية، لدفع علماء الفلك والفضاء إلى تقصي الحقائق العلمية في الكون، تجد ذلك في قوله تعالى: { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، وقوله سبحانه: { يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33].

وكذلك قوله تعالى: { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ* لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 38-40]. فهذه المعارف القرآنية تحوي إشارات كونية سيقت لدفع العلماء إلى التعلق بأبحاث الفضاء لإطلاق آليات حديثة (كالأقمار الصناعية والمراكب الفضائية) للاستفادة بما في الكون لتحقيق أقصى نفع لمصلحة الدين والدنيا.

5- إذا كان التقدم العلمي يعني التعلق بالمستقبل وتطوير آليات العلم، فإن المنهج العلمي في الفكر الإسلامي يقوم على غرس روح الابتكار والسبق في المسيرة العلمية، واستشراف المستقبل للنهوض بالبحث العلمي.

ولعلَّ هذا ما ترمز إليه الآية الكريمة: { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]. فالآية تثير في النفس الإنسانية أن خزائن العلم عند الله عظيمة، وأسراره كثيرة، ومهما أوتي الإنسان من علم في أي عصر من الأعصار فهو قليل سمح به العليم الخبير سبحانه وتعالى على قدر الجهد، والإخلاص في البحث، ولذلك فالآية دعوة للتقدم في البحث العلمي لتطوير ما انتهى إليه السابقون، لينال كل جيل من العلم بقدر ما تفضل الله به من خزائن علمه، كما تضع الآية قاعدة مهمة في مجال البحث العلمي، وهي أن كل علم مهما زاد لابد أن يكون قد سبقه جهل، فالتقدم في البحث يكشف مجالات علمية لم تكن معلومة قبل كشفها، فكأن من كشفها كان جاهلا فيها ثم أصبح عالما بها بعد كشفها، ولولا فضل الله تعالى عليه ما هيأ له الوقوف عليها. وقد أيد القرآن الكريم هذه القاعدة بقوله تعالى: { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113].

ولئلا يغتر أحد بعلمه، كانت مشيئة الله تعالى، أن جعل النفس الإنسانية جاهلة بالفطرة حتى تكتسب العلم بالقلم والخط وبما أودع الله فيها من قوى العلم أخذا من قوله تعالى: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]. فالمتأمل في هذه الآية الكريمة يدرك جيدا أنها ترمز إلى خدمة البحث العلمي، لأنها ترتب قوى العلم في الإنسان ليواكب بها التقدم العلمي.

فبدأ بالقوى الحساسة الناقلة، وهي السمع مما يدل على أن السماع أول طور في المعرفة، ثم القوى المدركة وتختص بالنظر والتأمل والمشاهدة، وهي الإبصار: { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، ثم القوى العاقلة، التي تعقل الفكرة، وتقلبها من كل الوجوه، لاستخلاص زبدة الرأي فيها، وهي الأفئدة. مما يشير إلى أن من فضل الله على الإنسان، أنه أودع فيه قوى النقل والمشاهدة والتعقل، ليدفعه دفعا إلى تطوير علمه وتجديده فكره، لينهض بكل حديث جديد.

6- من المبادئ الأصلية في الفكر الإسلام، إطلاق الحرية للعقل للتدبر والتأمل في آليات الكون والتفاعل مع كل جديد ومحاكاة الواقع، لتحديث العلوم ومواكبة العصر، بعيدا عن التقليد البغيض، والتعصب الأعمى. فالمنهج الإسلامي ينبذ الانغلاق وانطواء النفس، ولعل هذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]. فهذه دفعة للعقل أن ينطلق، ويعقل الأشباه والأمثال ليجدد ملكاته ويحلل الأفكار لاستخلاص أفضل النتائج، حتى يتمكن أن يصنَّف صاحبه ضمن العلماء، لأن الانغلاق يشد إلى الجهل، والله تعالى يقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].

فالعلم حكمة يؤته الله العقلاء الذين أعملوا عقولهم لخير البشرية ولم يقفوا عند التقليد أو التعصب؛ قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269].

ذلك أن اتباع منهج التقليد والتعصب في العلم يقل الطموح ويعوق التقدم، وقد ذم القرآن الكريم التقليد والتعصب من هذا الوجه، لأنهما يحدّان من التطلع إلى الجديد في العلم ويركنان إلى القديم حتى وإن كان باطلا، وقد جاء ذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104].

قال القرطبي: قوة ألفاظ هذه الآيات تعطي إبطال التقليد الأعمى، لأنهم احتجوا لتركهم ما أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر به في ديننا بأنهم يتبعون ما وجدوا آبائهم عليه اقتداء بهم([2]) رغم أن ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان، فآفة التقليد ركنتهم إلى الباطل وأعمتهم عن الحق، فلم يصبهم التقدم ولم تدركهم نعمة الإيمان.

قال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19].

ولذلك فالتقليد المرفوض في الفكر الإسلامي هو التقليد الذي يجرُّ إلى الجهل ويوقع في الضلال، ولهذا كان ذمُّ الله للكفار في الآيتين لاقتدائهم بالباطل، فكأن المقلد هنا جعل ذمام أمره لمن يقوده حيث شاء، وهو بهذا قد غلَّ عقله وأطفأ توقُّدَه، فاستحق أن يكون من الجاهلين، لأن التقليد في الباطل ليس طريقا للعلم، ولا موصلا له([3]).

أما التقليد في الحق والاقتداء بالأسوة الحسنة في أمور الدين فهو أصل مقرر شرعا، لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]،لأنه اقتداء موصل إلى الحق والعلم.

 

 

([1])  ينظر: الإعجاز العلمي في الإسلام، القرآن الكريم، لمحمد كامل عبد الصمد، ص 241.

([2])  تفسير القرطبي (1/698).

([3])  تفسير القرطبي (1/699).

طباعة
كلمات دالة: