التزام المنهج العلمي كأحد مرتكزات التقدم العلمي في الإسلام (1)

  • | الإثنين, 22 أغسطس, 2016
التزام المنهج العلمي كأحد مرتكزات التقدم العلمي في الإسلام (1)

إذا كان السبق في البحث العلمي يتطلب منهجا سديدا يقوم على الدقة في المعلومة وتصور الموضوع، وتنوع المعارف ذات الصلة بمجال البحث، والإمساك بخيوط المادة العلمية حتى تأتي النتائج وفقا للمقدمات، فإن أسس المنهج العلمي في الفكر الإسلامي لا تخرج عن هذا الإطار، بل لا نبالغ إذا قلنا بأن الفكر الإسلامي هو أول من نبَّه إلى الالتزام بالمنهج العلمي في البحث لتأتي النتائج وفق المقدمات والمقاصد، ويمكن رصد أسس المنهج العلمي في الإسلام بمصدريه، القرآن والسنة، فيما يلي:

1- أخذ المادة العلمية من المصادر الموثوق بها لتحري الصدق في المعلومة، والبناء على المرجعية الصحيحة. وقد نبَّه إلى ذلك كل من القرآن والسنة، ففي القرآن قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } [الأحزاب: 70]، فالسداد هو الصواب في القول والصدق في الخبر، ومنه قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة: 119]، ذلك أن الصواب في الأقوال، والدق في المعلومات، يحيط العمل والبحث بالصلاح، لذلك قال تعالى بعد آية الأحزاب: { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ }[الأحزاب: 71].

أما الاعتماد على المعلومة المزيفة، والخبر الكاذب، ففيه إهدار لقيمة العلم، وتزييف للنتائج، مما يتولد عنه الفساد في الفكر والمنهج.

وهو ما يعرف في الوسط العلمي والأكاديمي بالسرقات العلمية، أي تزييف الحقيقة، بأن ينسب العلم إلى غير صاحبه، أو ينسب علم الغير لنفسه.

وقد وضع الله تعالى هذا السلوك موضع الذم في القرآن الكريم، فقال تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75]، أي أنهم يتلقون كلام الله فيغيرونه بكلام من عند أنفسهم وينسبونه إلى الله تعالى. فهذا النوع من تغيير الحقائق وتزييف المعلومات والكذب في النقل لغرض خبيث، فاستحق القائم به التهديد والوعيد، فقال الله عز وجل: { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } [البقرة: 79].

فأشارت الآية إلى أن اللجوء إلى الزيف للكسب السريع، يكشفه الله ويفضح صاحبه، ومآله الهلاك والبوار، وإذا كان منطوق الآية يجرِّم الكذب على الغير، ونسبة ما لم يقله إليه، فمفهومها يجرِّم بالأولى نسبة المرء لنفسه علم غيره.

أما في السنة النبوية، فقد حثَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على الصدق في نقل الأخبار، وإذاعة المعلومات ونشرها، ففي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا. وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا» ([1]).

في نفس الوقت حذر من الكذب في العلم، والتزييف في المعلومات، فقد روى البخاري عن سلمة قال: «مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»([2]).

فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم الكذب في مصدر المعلومات سببا للقرار في النار.

وشبيهه ما رواه علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبْ عَلَيَّ يَلِجِ النَّارَ»([3]).

يؤخذ من هذا أن الكذب في العلم وتزييف الحقيقة أخطر أنواع الكذب؛ لما ينتج عنه من أضرار، ولذلك شدد فيه كل من القرآن والسنة، حماية للمصادر العلمية، وضمانا لحقوق العلماء، وصونا للابتكار من السطو عليه، وفي هذا إشارة لقانون حماية الملكية الفكرية المعاصر.

وفي هذا إشارة كافية إلى أن المنهج الإسلامي يحوي في أصوله إشارات التقدم العلمي، وقانون حمايته.

2- من أسس المنهج العلمي في الإسلام أن يهدف البحث العلمي إلى التوصل إلى الحقائق العلمية التي تخدم الدين والدنيا، سواء حصل العلم عن خبر صادق، أو استدلال صائب، لأن العلم إما نقل مصدّق، أو استدلال محقق.

وقد أشار إلى ذلك القرآن الكريم في أكثر من موضع منها:

أ- قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]. فهذا خبر يحمل علما يقينا مصدقا بذاته، لأن الذي أعلمنا به هو الله عز وجل بنفسه، فقدم العلم قبل الحقيقة، ليشير إلى منهج فريد، وهو أن باب الوصول للحقائق واليقين هو العلم، ولذلك صنف البخاري رحمه الله تعالى هذه الآيات في كتاب العلم، تحت عنوان: باب العلم قبل القول والعمل.

ب- أما منهج الاستدلال، فأشار إليه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185].، وقوله سبحانه: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النمل:61].، وقوله تعالى: { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6].

فهذه جملة معارف كونية تدرك بالنظر والتأمل، مما يقتضي أسرارها لكشف إعجازها العلمي، للوصول في النهاية إلى حقيقة يقينية، وهي وحدانية الله وطلاقة قدرته.

والتأمل وتقصي الحقائق العلمية، وتقليب النظر في ملكوت السموات والأرض لإدراك الإعجاز الإلهي فيهما، لا ينهض به إلا العلماء، فكأن القرآن الكريم دفعهم إلى المنهج الاستقرائي([4]) لقيام الحجة والبرهان على أن مدبر الكون هو الله، وأن الانتفاع بمسخرات الله في الكون لا ينال إلا بالعلم.

وقد أيد الله عز وجل هذا المبدأ بقوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[سبأ: 6].

فإن من أوتي علما بالنظر في الآيات الكونية والاستدلال السديد، يتيقن أن ما أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم حق وصدق، ومن هذه المسلَّمة ندرك أن المنهج العلمي في الإسلام يتميز بأنه يضع نصب عينيه الوصول للحقائق.

3- من أصول المنهج العلمي في الإسلام، التراكم المعرفي، وتنمية المعلومات في مجال التخصص للإحاطة بمفردات المادة العلمية، وإجراء التجارب عليها مرة بعد أخرى، حتى ينتهي إلى النتائج المرجوة.

ويقصد بالتراكم المعرفي، النظر في علم السابقين للاستفادة من التجربة، للتخلي عن أوجه القصور وتزكية أوجه الإيجاب، كما يقصد به قراءة المادة العلمية أكثر من مرة لاستيعاب المعلومة وتصورها في الذهن.

وقد أشار إلى الأولى القرآن الكريم في قوله تعالى: {  أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9].

ففي الآية، يذكّر الله تعالى قوما بقوم، يذكّر اللاحقين بالسابقين، فرغم أن السابقين أوتوا عناصر التمكين في الأرض، وهي القوة الجسمية، والقوة المالية، والقوة الإنشائية، والقوة الزراعية، فأثاروا الأرض وعمروها وشيدوا الحصون والموانع، إلا أنهم لم ينتفعوا بعلمهم فيها للوصول إلى نعمة الدين فكذبوا بآيات الله، فلم تغن عنهم أموالهم، ولا عمائرهم، فأهلكهم الله، قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 10].

فإذا ذكر اللاحقون علم السابقين، وعرفوا أوجه القصور في منهجهم فتداركوها، وبنوا علمهم على تقوى من الله عز وجل، نفعهم الله بعلمهم وزادهم فيه، أخذاً من قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].

أما قراءة المادة العلمية أكثر من مرة وتكرارها لتستقر في الأذهان كوسيلة للتراكم المعرفي، فقد أشار إليه حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى تفهم عنه. 

وفي هذا إشارة واضحة على أن التراكم المعرفي ضرورة من ضروريات المنهج العلمي لاستيعاب الفكرة في الذهن، لتصور حقيقتها وكنهها.

ولذلك عنون البخاري لهذا الحدث بقوله: باب إعادة الكلام ليفهم عنه.

وهذا دليل ساطع على أن المنهج العلمي في الإسلام يحبذ إعادة الفكرة وطرحها أكثر من مرة، وتكرار التجربة مرة بعد أخرى، ومراجعتها علميا للتأكد من صحتها.

 

([1]) صحيح البخاري- كتاب الأدب- بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، وَمَا يُنْهَى عَنِ الكَذِبِ (8/25- رقم 6094) ط: دار طوق النجاة، ط: الأولى، 1422هـ.

([2]) صحيح البخاري- كتاب العلم- بَابُ إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1/33- رقم 109).

([3])  صحيح مسلم-مقدمة الإمام مسلم- بَابُ فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  (1/9- رقم1) دار إحياء التراث العربي - بيروت.

([4])  الاستقراء: تتبع أفراد الشيء لمعرفة أحواله، وخواصه. [المصباح المنير: ص502].

طباعة
كلمات دالة: