الإسلام والنهوض بالعلم

  • | الإثنين, 29 أغسطس, 2016
الإسلام والنهوض بالعلم

إنّ من مزايا الخطاب القرآني، تعظيم العلم بكل فروعه، دينيًا وشرعيًا، أو كونيًا وإنسانيًا، وإكبار العلماء باعتبارهم أولي الألباب الذين بنبوغهم تتقدم الأمم.
ومن هنا فإن الخطاب القرآني يحتضن العلم ويشجعه بشرط أن يساهم في إصلاح البشرية لا إفسادها، فمن خلال استقراء نصوص القرآن الكريم تبرز أهمية العلم فيه ودوره في الارتقاء بالبشرية، ويتبين أيضًا أنّ الإنسان لم يُخلَق في هذه الحياة ليَعبث أو ليلهو، ولم يُخلق ليطغى بقوَّته وجبروته، ويستبد قويُّه بضعيفه، وإنما خُلِق ورُكِّب فيه ما رُكِّب من قوى العلم والإدراك، وآلات العمل والإنتاج، وسُخِّر له الكون في أرضه وسمائه، ومائه وهوائه لحِكمةٍ ساميةٍ تُعبِّر عن جلال الله وجماله، وهي أن يكون خليفة في الأرض، يَعمُرها ويعمل على إصلاحها، واتِّساع عمرانها، وإظهار أسرار الله فيها، وإقرار الخير والسعادة في نواحيها، وبذلك تكون مظهرًا لرحمة الله بعباده، وآية من آيات قُدرته وحِكمته.

وقد أرشد إلى هذه الحكمة كثيرٌ من آيات القرآن؛ منها:

1-     قوله تعالى وهو يحدِّث عن مبدأ خلق الإنسان: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾( ).
فأخبر القرآن الكريم في هذه الآيات الكريمات، أنّ أبا البشر آدم عليه السلام إنما عَلَى بالإنسانية بالعلم، فترقى بما وهبه الله من علم غير مسبوق، فاستحق الإكبار فأسجد الله له الملائكة سجود فضل واعتراف بالسبق في العلم.
وأشارت الآيات أيضا إلى أن صفة العلم هي الصفة المميزة لآدم عمن سواه، فلو كان في الإمكان شيء أشرف من العلم لأظهر الله تعالى فضل آدم بذلك الشيء، أما وقد أظهره على الملائكة بعلمه الذي علمه إياه فهو دليل على مكانة العلم عند الله تعالى. وقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ}، وقوله تعالى: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا}، دليل على أنّ الملائكة وآدم عليه السلام لا يعلمون إلا بتعليم الله تعالى إياهم، مما يدل على أن العلم هو عطاء الله لمن شاء من عباده، وهكذا لا يتميز الإنسان إلا بما آتاه الله من علم.
2-    وأثبتت الخطابات القرآنية أيضا أن الوصول لحقائق الدين إنما يكون بالعلم، نذكر من ذلك قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ}( ).
فكونه سبحانه بدأ بنفسه فشهد أن لا إله إلا هو، ثم ثنّى بالملائكة فسجل شهادتهم، ثم ثلّث بأهل العلم فسجّل شهادتهم، قارنا اسمهم باسمه واسم الملائكة في إثبات الوحدانية، دلّ على أنهم ما وصلوا إلى ذلك إلا بالعلم، فازدادوا شرفا وعلوّا.وقوله تعالى: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}( )، فأشارت الآية إلى أن دلائل قدرة الله في الكون وتدبيره في الخلق إنما جاءت تذكرة وتنبيها لأولي العلم وذوي الألباب للوصول إلى الحقيقة الإيمانية، وهي إنما الله إله واحد، مما يُعدّ تزكية للعلم الاستدلالي.
3-    ثم انتقل الخطاب بعد ذلك إلى أشرف مهمة للعلم، وهي إفهام الخلق منطق الوحي في بيان تنزيل الرب، فقال تعالى: { الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}( ).
قال القرطبي: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} أي علمه نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أداه إلى جميع الناس.وأما قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} قال ابن عباس وغيره: يعني المراد بالإنسان آدم عليه السلام، ويكون علمه أسماء كل شي ليميز بين المسميات. وعن ابن عباس أيضا: الإنسان هاهنا يراد به محمد صلى الله عليه وسلم، والبيان بيان الحلال من الحرام، والهدى من الضلال. وقيل: ما كان وما يكون، لأنه بين عن الأولين والآخرين ويوم الدين.. وعلى أي المرادين ففضل العلم في الإعلام بالأمور الكونية والأمور الشرعية واقع حيّ تشهد له الآية.
ووفقا للنسق القرآني فإنه سبحانه وتعالى كما افتتح أول رسالاته للناس في بدء الخلق بالعلم من خلال تعليمه لأبي البشر آدم عليه السلام في قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ}، افتتح آخر رسالاته للخلق رسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم فقال تعالى في أول بث الرسالة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}( ).
4-    وقد حفظ القرآن الكريم هذا التلاقي في العلم بين بدء الرسالات وختمها في خطاب الله تعالى للمسلمين ليدل على أن الإسلام يعانق العلم ويحتضنه ويحفظ له شأنه وتجديده إلى يوم القيامة.
ولأمرٍ ما شاءت إرادة الله تعالى أن يكون العلم في منهج الإسلام إنما يكون بالاكتساب والمعرفة، أي بالخط والكتابة وفقًا لقوله تعالى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}، ولعلّ في ذلك دعوة لتكثير العلم وانتشاره وارتقائه في هذه الأمة، حتى يتطور ويستمر تجدده وفقًا لوسائل العصر وتقدم الأدوات، وكذلك دعوة للتنافس في اكتسابه ليرقى به من النابهين من يرقى، مما يعود بالنفع على البشرية، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، ليدل على تطور العلم من جيل إلى جيل، وأن استشراف المستقبل في العلم هو منهج القرآن الكريم.
وحسبنا في اهتمام الخطاب القرآني بالعلم، أن يكون أول نداءٍ إلهي يَفتتح به الله - باسْم "الربوبيَّة" - وَحْيَه إلى نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم - تلكم الآية الكريمة: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ ( ).
يأمر بالقراءة، والقراءة سُلَّم المجد، وطريق العلم والمعرفة، ثم يرشد إلى الاستعانة عليها باسم "الرب" مُفيض التربية ووسائلها على جميع الخَلق، فيَشعر الإنسان بعزَّة شأنها ورِفْعة قدرها، وأنها من الشؤون العظمى ذات البال والخطَر، ثم يذكُر خلْقه وتكوينه في هذا المقام، ويُردفه بنِعمة العلم؛ ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، وبذلك يُسوِّي بين نعمة الخلْق والإيجاد، ونعمة العلم، ويكون ذلك إيحاءً بأن المخلوق الجاهل لا اعتداد بوجوده في هذه الحياة.
5-    وتنويهًا بشأن القلم ومكانته في العلم والمعرفة، يُقْسم به الله في مَعرض تَبرئة الرسول - عليه السلام - من أفدح التُّهم الباطلة التي ألصَقها القوم به، وهي تُهمة الجنون؛ ﴿ ن* وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾( ).
وكما يَطلب القراءة على الإطلاق دون تقييدٍ بمقروء مخصوص، يطلب العلمَ والنظر على الإطلاق دون تقييدٍ بمعلوم مخصوص، أو منظورٍ مخصوص؛ ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾( )، ويرشدنا هذا الإطلاق إلى أن العلم في نظر القرآن ليس خاصًّا بعلم الشرائع والأحكام من حلالٍ وحرام، وإنما العلم في نظره هو كل إدراك يُفيد الإنسان توفيقًا في القيام بمهمَّته العظمى التي أُلْقِيت على كاهله منذ قدر خَلْقه، وجعل خليفةً في الأرض، وهي عمارتها، واستخراج كنوزها، وإظهار أسرار الله فيها.
6-    الخطاب القرآني والثورة( ) العلمية:
إن المقصود بالثورة العلمية، أي النهضة العلمية بما صاحبها من تفجير( ) للطاقات الكونية أرضًا وسماءً، ونفسًا بشرية، لبلوغ أقصى نفع للإنسانية في أقل زمن بغرض تعمير الكون وإصلاحه، وحفظ المهجة الإنسانية، ليتلائم النفاذ إلى مسخرات الله في الكون، ومصلحة الإنسان في تحقيق مقاصدة في المعاش والمعاد، تدعيما لاستقامة الخلافة الإنسانية، وفقًا لمشيئة الله في خلق آدم وذريته، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30].
7-    وإذا كانت الخلافة الإنسانية في الأرض قد شاءها الله لبني آدم، فإن القرآن الكريم قد أخبر عن السبب المباشر في أحقية الإنسان لخلافة الله في الأرض، وهو العلم، فبه فضل أدمُ الملائكةَ، وبه استحق هو وذريته أن يعمروا الأرض إلى يوم الدين.
نأخذ هذا من قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ} [البقرة: 31]، وقوله تعالى: {قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33]. ولذلك حين نستدعي مصطلح الثورة العلمية، لنعرضه على اللطائف والإشارات القرآنية فسوف نجد بمشيئة الله أنه لا يخرج عن المعنى الذي أراده الله من خلقه في القرآن الكريم، بأن يفجروا الطاقات الكونية ليعمروا الأرض ويصلحوا فيها جيلا بعد جيل وفقا لوسائل كل عصر ووفقا لنباهة القائمين على القواعد العلمية والبحثية، على أن يقودهم ذلك إلى زيادة الطاقة الإيمانية أخذا من قوله تعالى: {وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9]، وقوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 61]، وقوله سبحانه: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].، فأثاروا الأرض أي فجروا طاقاتها، ونهضوا فيها بالفلاحة والزراعة والصناعة، وتلك هي مقومات التعمير للتمكين في الأرض لديمومة التعايش الإنساني في كل الأزمان والعصور، مع اعتبار أن ذلك مقيد بتقوى الله عز وجل في الاستخدامات العلمية.
-    وعلى هذا وبعد التأكيد على احترام الإسلام للعقل، وتعانقه مع العلم، فإننا نؤكد أن الخطاب القرآني يحتضن الثورة العلمية بكل تقنياتها وفي جميع مجالاتها، على أن تجلب النفع للبشرية، وتدفع عنهم الضرر، وتكشف إعجاز الله في الكون والخلق.

 

طباعة
كلمات دالة: