انهيار منظومة القيم في المجتمعات: الأسباب والعلاج

  • | الخميس, 12 يونيو, 2025
انهيار منظومة القيم في المجتمعات: الأسباب والعلاج

في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم المعاصر، تبرز قضية انهيار القيم كونها إحدى أخطر الظواهر التي تهدد نسيج المجتمعات واستقرارها، خاصة في المجتمعات العربية والإسلامية التي لطالما تميزت بثقافة راسخة وقيم متجذرة في ضميرها الجمعي، ولم تعد مظاهر هذا الانهيار خافية، بل أصبحت جزءًا من المشهد اليومي في كثير من البيئات، سواء من خلال الألفاظ المتداولة، أو العلاقات الاجتماعية المفككة، أو أنماط السلوك غير المنضبطة، وهنا يبرز دور مرصد الأزهر لمكافحة التطرف في تناول هذه الظاهرة الخطيرة من زاوية تحليلية، في محاولة لتقديم معالجة تربوية شاملة، تضع أيدي المعنيين على مكامن الخلل وسبل الإصلاح.

لقد بات من الملحوظ انتشار سلوكيات دخيلة على منظومة القيم الأصيلة مثل: الكذب، والنفاق، والغش، والتعدي اللفظي والجسدي، وتراجع الاحترام المتبادل بين أفراد المجتمع، فضلًا عن غلبة النزعة الفردية والمادية على حساب روح الجماعة والتكافل الاجتماعي، ومما يزيد الأمر تعقيدًا أن هذه السلوكيات لم تعد تثير استهجانًا عامًّا كما كانت من قبل، بل أصبحت تُعلل أو تُتقبَّل أحيانًا بوصفها "واقعية" أو "وسيلة للبقاء" أو "مواكبة لمتغيرات العصر"، وهو ما يشير إلى تحول عميق في الوعي المجتمعي، وتراجع في سلطة الضمير الجمعي.

منظومة القيم بين الماضي والحاضر

لم تكن منظومة القيم في المجتمعات الإنسانية ثابتة عبر الزمن، بل كانت دومًا في حالة تفاعل وتطور، تعكس طبيعة السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي المحيط بها، وعند المقارنة بين الماضي والحاضر، يتبيَّن حجم التحول الذي طرأ على هذه المنظومة، سواء على مستوى الثبات أو الفاعلية أو الأولويات.

في الماضي، كانت القيم تتمتع بثبات نسبي؛ إذ كانت تُنقل عبر الأجيال من خلال قنوات واضحة مثل: الأسرة، والتعليم الديني، والمجتمع التقليدي، وكانت تلقى قبولًا واسعًا دون كثير من التشكيك، وكانت قيم مثل: "الصدق، والأمانة، والحياء، والبر بالوالدين، واحترام الكبير، والعدل، والوفاء بالوعد" تمثل قاعدة راسخة في الضمير الجمعي، وتشكِّل أساسًا للسلوك الفردي والجماعي، وكان الانضباط الأخلاقي معيارًا للمكانة الاجتماعية والاحترام المجتمعي، ما يعزز التماسك بين أفراد المجتمع، ويقلل من مظاهر الانحراف، أو التفكك.

أما في الحاضر، فقد شهدت القيم تحولات سريعة ومعقدة بفعل عوامل متعددة، أبرزها: العولمة، والانفتاح الإعلامي، والتقدم التكنولوجي، وتراجع بعض الأطر التربوية التقليدية، وأصبح الفرد اليوم يتعرض لسيل من المؤثرات القيمية المتباينة، والتي كثيرًا ما تكون متضاربة، ما أدى إلى حالة من الارتباك أو التسيُّب القيمي، وبرزت قيم مادية وفردية جديدة مثل: النجاح الفردي بأية وسيلة، وتحقيق الذات بمعزل عن الجماعة، والمظهرية الاجتماعية، على حساب القيم الجمعية الأصيلة كالإيثار، والانتماء، والاحترام المتبادل.

أسباب انهيار منظومة القيم:-

تتعدد الأسباب التي أسهمت في الوصول إلى هذه المرحلة من التدهور القيمي، لعل أبرزها تراجع دور الأسرة في التربية، نتيجة لانشغال الوالدين أو غياب القدوة الصالحة، مما يترك الأبناء نهبًا للمؤثرات الخارجية التي لا تراعي خصوصية المجتمع، كما لعبت بعض وسائل الإعلام خاصة تلك التي تسعى إلى الإثارة والربح السريع– دورًا سلبيًّا في الترويج لنماذج سطحية أو منحرفة، تتصدر المشهد رغم افتقارها لأي رصيد قيمي، أو إنساني حقيقي.

ولم تسلم وسائل التواصل الاجتماعي من التورط في هذا الانهيار، بل ربما كانت الأشد تأثيرًا، حيث أتاحت فضاءً مفتوحًا لنشر الأفكار والسلوكيات بلا ضوابط ولا قيود، وأسهمت في ترويج أنماط من التفاخر، والتقليد الأعمى، والتمرد على القيم، تحت شعار: "الحرية الشخصية"، في غياب شبه تام للوعي النقدي أو المسؤولية الأخلاقية، وفي الوقت ذاته، تراجع تأثير المؤسسات التعليمية والدينية في غرس القيم وتعزيزها، نتيجة التركيز على الجوانب الشكلية أو المعرفية، دون عناية حقيقية بالبُعد الوجداني والتربوي، مما أسهم في إنتاج أجيال تعرف كثيرًا، لكنها لا تشعر بالانتماء، أو الالتزام القيمي.

ولا يمكن إغفال دور الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في هذا السياق؛ إذ إن معاناة الأفراد من الضغوط المعيشية، وتراجع العدالة الاجتماعية، وغياب تكافؤ الفرص، كلها عوامل تخلق بيئة خصبة لليأس، وتُنتج سلوكيات مضادة للمجتمع، يتعامل فيها الإنسان مع القيم بوصفها رفاهية أو ترفًا لا طائل منه، كما أن ضعف الثقة في المؤسسات، وغياب القدوة في مواقع المسؤولية، يكرّس القناعة – وإن كانت قناعة زائفة - بأن الالتزام بالقيم لا يعود بالنفع، في حين أن الانتهازية والغش قد تفتح أبواب النجاح المزيف.

علاج انهيار منظومة القيم:-

لكن رغم قتامة المشهد، تظل إمكانية الإصلاح قائمة، بل وضرورية، ويبدأ العلاج من داخل الأسرة، التي يجب أن تستعيد دورها كونها حصنًا تربويًّا، يزرع في الطفل القيم منذ نعومة أظفاره، من خلال القدوة الصالحة، والحوار البنَّاء، والرقابة الواعية، وفي الوقت ذاته لا بد للإعلام من أن يتحمل مسؤوليته في إنتاج محتوى راقٍ يعزز القيم، ويروج للنماذج الإيجابية، بدلًا من تسليع الإنسان، وتسفيه الوعي.

أما المؤسسات التعليمية، فيجب أن تُعيد النظر في مناهجها وأساليبها، حيث تكون التربية الأخلاقية جزءًا لا يتجزأ من العملية التعليمية، عبر المقررات والأنشطة والسلوك العام داخل المدرسة والجامعة، وينبغي كذلك أن يُفعَّل الخطاب الديني المعتدل، القائم على الفهم الصحيح للدين، الذي يربط بين الإيمان والسلوك، ويقدم القيم الإسلامية الكبرى كالعدل، والرحمة، والأمانة، والصدق باعتبارها جوهر الدين، لا مجرد شعارات تُردَّد.

وفي هذا الإطار، يبرز دور مرصد الأزهر باعتباره منبرًا علميًّا وفكريًّا فاعلًا، يسعى إلى كشف الانحرافات الفكرية والسلوكية، ويقدّم رؤية حضارية للإسلام، تتكامل فيها المعرفة بالقيم، ويتقاطع فيها الواجب الديني مع الحس الإنساني. ويحرص المرصد على إنتاج محتوى توعوي وتربوي يوجه الشباب نحو قيم الانتماء، والاحترام، والانفتاح الواعي، بعيدًا عن الغلو، أو التفريط.

ولذلك فإن معالجة انهيار القيم ليست مهمة جهة واحدة، بل هي مسؤولية جماعية تتطلب تضافر جهود الأسرة، والمدرسة، والمؤسسات الدينية، والإعلام، والمجتمع المدني، لصياغة مشروع وطني قيمي يُعيد بناء الإنسان، ويصون المجتمع من الداخل، ويحصّنه ضد كل أشكال الانحراف والتطرف، إن عملية بناء الإنسان وتشكيل الوعي الجمعي عملية بقدر ما هي صعبة ومترامية الأطراف، لكنها تبقى طوق النجاة الوحيد لانتشال العالم من مستنقع الفكر المنحرف والسلوكيات التي ترفضها الفطرة السليمة، وتلفظها الضمائر اليقظة.

وحدة البحوث والدراسات
 

طباعة