في زمنٍ تتعالى فيه صراعات الهويَّات، يصبح من الضروري أن نُعيد قراءةَ كيفية تشكيل الهوية للحفاظ على وحدة المجتمع، والتي تُحدد طبيعة عاداته وثقافته. ولا شكَّ أن اللغةَ أحدُ المكونات الأساسية في تكوين هوية المجتمع. وفي العصر الحديث، تتصارع الدول لبسط نفوذها، لتصبح الهوية أحدَ مكونات هذا الصراع. ورغم أن اللغة لا تُشحن في صناديق، فإنها تنتقل بهدوءٍ وعمقٍ مع كل تاجرٍ ومسافرٍ، فتدخل إلى المجتمعات الجديدة، وتُستعار مفرداتُها، وتُستخدم للتفاهم والبيع والشراء، فتصبح جزءًا من التداول اليومي. بمرور الوقت، تترسخ هذه المفردات وتتسلل إلى نسيج الهوية المحلية. ومن الفهم الواضح لدور مرصد الأزهر الاجتماعي والوطني، تُسلط وحدةُ اللغة الصينية بمرصد الأزهر الضوءَ على دور اللغة في تشكيل هوية الفرد والمجتمع، مما يسهم في ترسيخ القيم الدينية والأخلاقية.
اللغة: ذاكرة المجتمع والحضارة
اللغة ليست مجرد أداة تواصل يومي، بل هي ذاكرةٌ حية تحمل في طياتها تاريخَ المجتمع وقيمَه، وتُشكل وعاءً لحفظ الحضارة ونقلها عبر الأجيال. يظهر ذلك جليًّا في العديد من النماذج، مثل حكايات الشعوب التأسيسية، ومنها القصائد الجاهلية (المعلقات) التي حفظت تفاصيل حياة العرب قبل الإسلام.
كما أن المفردات اللغوية أرشيفٌ للتاريخ والتراث؛ فهناك كلمات عربية في الإسبانية مثل "Ojalá" المشتقة من "إن شاء الله"، تذكّر بحقبة الأندلس وتؤكد التأثير التاريخي والثقافي للحضارة العربية على سكان إسبانيا حتى الآن. كما أن الكثير من المفردات تحفظ أسماء أشياء اندثرت، لكنها تظل جزءًا من الهويّة، مثل "القِرَب" أو "المِحْبَرَة"، التي سقطت من الاستخدام، ولكنها بقيت في وجدان الشعوب.
ولا شك أن الحفاظ على اللغة هي أحد الوسائل الهامة لفهم الحضارات القديمة، مثل الهيروغليفية في مصر القديمة، التي سبب اختفاؤها فجوةً في الذاكرة الجماعية حتى فُكَّت شفرتها. كل هذه الأدلة تُثبت ما قاله المؤرخ الفرنسي فرناند بروديل: "التجارةُ هي أقوى ناقل للحضارات، واللغةُ هي بضاعتها الخفية."
تعكس اللغة طريقة تفكير الفرد وتعبيره عن مشاعره وأفكاره، مما يسهم في بناء هويته الشخصية، والتي يستخدمها في فهم مجتمعة والوقوف مبصرًا أمام أعدائه، فاستخدام لغة معينة (كاللغة الأم أو لهجة محلية) يعزز الشعور بالانتماء إلى جماعة أو ثقافة محددة. فقد تحمل اللغة في طياتها العادات، والتقاليد، والأساطير، والأدب الذي ينتقل عبر الأجيال، مما يخلق روابط عاطفية وتاريخية. كما أن الهوية تربط الإنسان بوطنه؛ فهي رمز للوحدة الوطنية أو القومية. فاللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل اليومي، بل هي الحافظة الأمينة لذاكرة الشعوب ومرآة حضاراتها. فمن خلالها تُنقل القيم، وتتوارث التقاليد، وتُسجل الأحداث، وتُصاغ العلوم والفنون. فكل أمة حافظت على لغتها، حافظت على هويتها، وكل أمة فرّطت فيها، فقدت بوصلتها الحضارية شيئًا فشيئًا. وما من أمة نهضت إلا وكانت لغتها في قلب مشروعها الحضاري، وهذا ما وعاه العرب والمسلمون قديمًا حين جعلوا العربية لغة للعلم والفلسفة والترجمة، فأصبحت جسرًا للمعرفة بين الشرق والغرب.
اللغة هوية وطنية في مواجهة الاستعمار
لم تكن المقاومة في وجه الاستعمار حكرًا على المعارك والسلاح، بل إن أقواها وأعمقها تأثيرًا تمثل في الحفاظ على الهوية، وعلى رأس مكوناتها اللغة. فاللغة ليست مجرد وسيلة للتخاطب، بل هي حافظةُ الذاكرة، ومرآةُ الثقافة، وأداةُ بناء الوعي. ولهذا، كان أول ما يستهدفه الاستعمار هو طمس اللغة الأم وفرض لغته على الشعوب، في محاولة لاقتلاعها من جذورها الحضارية.
لقد أدرك المستعمرون أن إخضاع الأمة ثقافيًّا يبدأ من بوابة لغتها. ولذلك، عمدوا إلى فرض لغاتهم في التعليم، والإدارة، والإعلام، وتهميش اللغة الأصلية، ووصفها بالرجعية أو التخلف، تمهيدًا لجيل جديد منفصل عن ماضيه، سهل التشكيل والقيادة. فتحمل كتب التاريخ تلك الأساليب الاستعمارية، حيثُ كانت اللغة العربية، على سبيل المثال، رمزًا للمقاومة في وجه الاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا، كما كانت لغات السكان الأصليين في آسيا وأفريقيا من أبرز معارك التحرر الثقافي. ولم يكن غريبًا أن تعود هذه اللغات بقوة بعد الاستقلال، تعبيرًا عن استعادة الوعي والكرامة، وأداة مقاومة.
واجهت حركاتُ الاستقلال الوطنيّ مخططَ محو الهُوية اللغوية، وخاصةً في العالم العربي. فقد كانت اللغةُ العربيةُ رمزًا للسيادة والهُوية، فحُوربت في دول المغرب العربيّ زمنَ الاحتلال الفرنسيّ. لكنّ مقاومةَ العلماء والمثقفين جعلت منها أداةَ بقاءٍ، بل وعادت بقوةٍ بعد الاستقلال. كذلك كان الحالُ في إفريقيا وآسيا. ويظهر ذلك جليًّا بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882م؛ إذ أدركت السلطاتُ البريطانيةُ أن إضعافَ اللغة العربية هو تمهيدٌ لإضعاف الوعي الوطني. فعملت على تعزيز اللغة الإنجليزية في التعليم والوظائف والمؤسسات الرسمية، وتهميش العربية باعتبارها لغةً تقليديةً أو دينيةً لا تتماشى مع "التقدم". لكن هذه المحاولةَ الاستعماريةَ واجهت مقاومةً شديدةً من الرموز الوطنية والمثقفين، مثل: مصطفى كامل، ومحمد فريد، وطه حسين، والعقاد، والشيخ محمد عبده، والرافعي؛ الذين دافعوا عن العربية كونها لغةَ حضارةٍ وفكرٍ. كما أسهم الأزهرُ الشريفُ في الحفاظ على مكانة العربية من خلال دوره الديني والتعليمي.
اللغة والهوية الدينية
بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم برسالة خالدة تتجاوز الزمان والمكان، لا تخص قومًا دون قوم، ولا شعبًا دون شعب، بل هي رحمةٌ شاملة للناس كافة. قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107). لكن تبقى اللغة العربية ذات خصائص مميزة في الرسالة الإسلامية؛ فلا يستطيع أحد فهم القرآن الكريم والأدب الجاهلي إلا بإتقان العربية التي تربط مئات الملايين بهويتهم الإسلامية والعربية.
الانتماء اللغوي والانفتاح الثقافي
الانتماء اللغوي لا يعني الانغلاق، بل هو وعيٌ بالذات واحتفاءٌ بتراثٍ حضاري عميق. فاللغة جذور الهوية، لكنها لا يجب أن تكون سجنًا للفكر. ولقد كانت الدولة العباسية في عصرها الذهبي نموذجًا رائعًا لحماية الهوية والانفتاح الثقافي على الأفكار كافة؛ حيثُ ترجموا علوم اليونان والهند دون التخلي عن العربية، بل أغنوها بمصطلحات جديدة. فالانفتاحُ الثقافي ليس تخليًّا عن الهُوية، بل هو قدرةٌ على التفاعل مع الآخر، والاستفادة من تجاربه، والمشاركة في حوارٍ عالميٍّ قائمٍ على التبادل لا الهيمنة. ولا يتحقق الانفتاحُ الحقيقي إلا من موقعِ قوةٍ وثقةٍ، وهويةٍ متماسكةٍ قادرةٍ على استيعاب الغير دون أن تفقدَ ذاتَها. فالانتماء اللغوي لا يتناقض مع الانفتاح الثقافي، بل يكمله، ويمنحه المعنى. ومن خلال هذا التوازن، يمكن للمجتمعات أن تحافظ على جذورها، وهي تفتح نوافذها نحو آفاق الإبداع والتواصل الإنساني.
وهكذا يتكامل الانتماءُ اللغوي مع الانفتاح الثقافي، فيمنحُه معناه العميق. ومن خلال هذا التوازن الدقيق، تستطيعُ المجتمعاتُ أن تحافظَ على جذورها، بينما تُشرعُ نوافذها على آفاقِ الإبداع والتواصل الإنساني.
اللغة العربية في مواجهة العولمة
لا تقتصر العولمة اليوم على انتشار التكنولوجيا والاقتصاد الحر فحسب، بل ترافقها هيمنةٌ ثقافية ولغوية جلية. فتُروَّج اللغة الإنجليزية على أنها لغة العلم والتكنولوجيا، ويُصوَّر إتقانُها جسرًا للفرص والمستقبل، بينما يُصوَّر التمسك باللغة العربية - في بعض الأحيان - على أنه انغلاقٌ أو تأخرٌ. ولا شك أن التقدم الذي رافق الثورة الصناعية التي نشأت في المملكة المتحدة، وتزامنَ مع الحقبة الاستعمارية ، كان له أثرٌ بالغ في انتشار الإنجليزية لغةً عالمية. ويتجلى ذلك بوضوح في المدارس والجامعات الخاصة التي تتبنى مناهج أجنبية، فضلًا عن الخطاب الإعلامي والإعلاني الذي يتجه نحو اللغات الأجنبية في التعبير. كما يلحظ انحسارٌ في استخدام العربية الفصحى لصالح العاميات أو اللغات الهجينة في الحياة اليومية.
وختامًا، فإن التحدي الأكبر الذي يواجهنا اليوم يتمثل في إيجاد التوازن المنشود بين الانتماء والانفتاح، وتربية الأجيال الناشئة على حب لغتهم وتاريخهم، دون زرع الكراهية تجاه الآخر المختلف. فهذا التوازن يُعد حجر الأساس في بناء شخصية متزنة، معتزة بهويتها، منفتحة على العالم. وإلى يومنا هذا، تبقى قضية اللغة حاضرةً في صميم معارك الهوية، خاصةً في ظل الهيمنة الثقافية الغربية وتغوُّل اللغات الأجنبية في مجالي التعليم والإعلام. لكن التاريخ يشهد بأن اللغة العربية كانت - ولا تزال - من أهم أدوات المقاومة الثقافية، وصمام أمانٍ يحفظ الذات الوطنية من أي محوٍ أو تذويب.
وحدة الرصد باللغة الصينية