نشرت صحيفة "النبأ" التابعة لتنظيم داعش الإرهابي، في عددها الصادر يوم الخميس 29 مايو 2025، مقالًا بعنوان: "يا جنود الله هبوا"، تزامنًا مع حلول العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، وهي أيام مباركة لها مكانة عظيمة وقدسية خاصة في وجدان المسلمين، ترتبط بالعبادات والصيام والتقرب إلى الله، وتُختتم بمناسك الحج إلى بيت الله الحرام. لكن كاتب المقال استغل هذه المناسبة الروحية العظيمة لترويج خطاب عنيف وتحريضي، يقوم على ربط مفاهيم الطاعة والعبادة بـ"الجهاد المسلح" كما يراه التنظيم الإرهابي، وليس كما يُقره الإسلام وفق ضوابطه الشرعية.
وفي المقال لوحظ ما يلي:
التلاعب بالنصوص الدينية وتحريف المعاني
افتتح كاتب المقال نصه بالتذكير بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام". ثم عمد إلى تفسيره على نحو يخدم أجندة التنظيم، بادعائه أن الجهاد القتالي يفوق جميع الأعمال الصالحة في هذه الأيام، ما دام المجاهد يُقتل ولا يعود بشيء. وهنا يُختزل الدين في القتال والموت، ويُغيَّب عن المشهد كل ما جاء به الإسلام من سلام ورحمة وبناء. والأخطر من ذلك أن المقال يتعامل مع "الجهاد" بصفته فرض عين في كل زمان ومكان، متجاهلًا تمامًا الشروط التي أجمعت عليها الأمة، مثل إذن ولي الأمر، وضمان المصلحة، ومنع إلحاق الضرر بالمدنيين العزل، واحترام ضوابط الحرب الشرعية التي أقرها علماء الأمة من السلف والخلف، بل ويذهب المقال إلى حد الترويج للفوضى المسلحة باعتبارها الطريق الوحيد لنصرة الدين.
التحريض الصريح على الإرهاب
لم يكتفِ كاتب المقال بالتنظير للجهاد وأهميته في هذه الأيام، بل أخذ يُباشر التحريض الصريح على سفك الدماء، مستخدمًا عبارات مثل: "استبسال في القتال"، و"تحقيق النكاية"، و"اضربوا رقاب الكافرين"، و"اسفكوا دماءهم"، و"صَلُّوا الراجمات"، و"فجِّروا المفخخات"...، مُصورًا الدماء على أنها وسيلة لإطفاء "ظمأ الثأر"، في خطاب ثأري إجرامي يتجاهل كل قيم الإسلام في ضبط النفس، وتحريم التعدي على الأنفس المعصومة، محولًا مشاعر الغضب إلى أداة للتدمير والانتحار الجماعي.
استغلال رمزية مكة والقدس لخدمة أجندات التنظيم
يحاول كاتب المقال أيضًا تعزيز مشروعية "المعركة" التي يخوضها التنظيم المتطرف، من خلال الزعم بأن الطريق إلى مكة والقدس يمر حصرًا عبر السلاح والدماء، فيقول: "لن يكون سبيلكم إلى بيت الله الحرام بغير الجهاد... وأيقنوا أن كل معركة تخوضونها تقربكم من بلاد الوحي...". هذا الخطاب يُعيد إنتاج سردية "الخلاص المقدس" التي تتخذ من الرموز الدينية وسيلة لتجنيد الشباب، ودفعهم نحو الموت والقتل، تحت شعار استعادة المقدسات، في حين أن أفعال التنظيم أثبتت مرارًا أن بوصلته لا تتجه فعلًا نحو القدس، أو الدفاع عن المقدسات، بل نحو إشعال الحروب الأهلية، وتفجير المجتمعات من الداخل، وخير مثال على ذلك ما يلحق بسوريا والعراق من تدمير وتخريب إلى يومنا هذا، أو ما يحدث في بعض البلدان الإفريقية التي تعاني من فوضى أمنية ونزاعات قبلية مسلحة مع حدود مترامية الأطراف؛ حيث نسمع كل يوم عن سفك دماء لمدنيين أبرياء، وتدمير لقرى لا حول لأهلها ولا قوة، بل يصل الأمر بهم إلى التمثيل بجثث هؤلاء الأبرياء في مشهد لا علاقة له بالدين ولا القيم الإنسانية.
وفي محاولة منه لتثبيت أتباعه على ما هم فيه من ضلال، يزعم أن الهدف الأسمى من أعمالهم العدوانية هو الوصول إلى بلاد الحرمين والاستيلاء عليها، فيقول: "وأيقنوا بأن كل معركة تخوضونها أيها المجاهدون في سهل أو جبل، تقربكم أكثر فأكثر من الوصول إلى بلاد الوحي التي دنسها الصليبيون والمرتدون". وهو بهذا الخطاب يسعى إلى استقطاب مزيد من الأنصار، مستغلًّا حالة التقلب الجيوسياسي التي تمر بها المنطقة، ومعتمدًا على سخط بعض الشباب من سياسات عدد من الدول، ليدفعهم نحو الهلاك وتمزيق وحدة الأمة. كما يحاول الكاتب من خلال هذا التسويغ أن يغسل ماء وجهه أمام أتباعه، ولا سيما أن تنظيم داعش لم ينفذ أية عملية ضد الكيان المحتل، الذي قتل أطفال غزة ونساءها وشيوخها على مرأى من العالم، بينما اكتفى المقال بالإشارة إلى أن "معركة القدس" مهمة بالنسبة لهم، فيقول: "والأمر نفسه ينطبق على بيت المقدس". وما ذلك إلا خداع وتضليل! فلم يطلق هذا التنظيم الإرهابي رصاصة واحدة على الكيان المغتصب منذ ظهوره المشؤوم.
لكن النقطة الأهم هنا هي ما جاء في تلك العبارة التي يقول فيها: "فلا توقفوا معارككم ولا تلينوا لعدوكم، ولا تستوحشوا لكثرة المتساقطين وقلة الثابتين، فالقلة المؤمنة انتصرت عبر تاريخ الإسلام بقوة إيمانها وعمق تجردها وشدة إخلاصها لمولاها، فنعم القلة الثابتة على الدرب، وسحقًا لمن بدَّل وغيَّر وباع الباقية بالفانية". وهذا يعني، من وجهة نظرنا، أن تنظيم داعش فقد كثيرًا من أنصاره، الأمر الذي جعله لا يستطيع مقاومة القتال كما كان عليه في البداية بسبب خداعة للشباب. كما نستشف من ثنايا النص أن عددًا لا بأس به من أنصار داعش بدأ ينفضُّ عنه ويهجره بسبب مواقفه المخزية من قضايا المسلمين، خصوصًا في فلسطين، حيث سبق واتهمت داعش حركة حماس بأنها "فرقة ضالة خارجة عن الإسلام"! وهو بذلك يروج لفكرة أن الوصول إلى مكة والقدس لا يكون إلا بـ"تطهير الطرق من طواغيت الحكم وجيوشهم الكافرة"، ويربط بين تحرير المقدسات وبين خوض معارك مسلحة ضد الأنظمة الحالية. وهو ما نراه اعترافًا ضمنيًّا بانهيار التنظيم، حيث أشار الكاتب في أحد مقاطع المقال بأن "القلة المؤمنة" هي التي ستبقى، في إشارة إلى "المتساقطين" و"المتخلفين عن الركب"، وهي صياغة تنطوي على اعتراف بانحسار التنظيم وتفككه. فكأن التنظيم بات يعاني من فقدان ثقة أتباعه، وانشقاقات داخلية، نتيجة فشل مشروعه وافتضاح تناقضاته. كما أننا نستشف من ثنايا المقال إلى أن كثيرًا من الأتباع بدأوا بمراجعة مواقفهم، ربما يحدث ذلك في ظل صمت التنظيم عن الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين في غزة، واتهامه السابق للمقاومة بأنها "فرقة ضالة".
احتكار الدين والجنة
يتكرر في المقال خطاب احتكار الدين، حيث يُصوَّر أفراد التنظيم على أنهم الفرقة الناجية، و"جنود الخلافة"، و"المجاهدون على الثغور"، بينما يُتهم باقي المسلمين بـ"الخذلان"، و"التخاذل"، و"موالاة الكفار"، وهي لغة تكفيرية إقصائية خطيرة، تُغذي الانقسام الداخلي وتنم عن العنف ضد المخالف. يبقى أن نشير –كما سبق وأوردنا في كتاباتنا السابقة- إلى أن الجهاد له ضوابط وليس فوضى دموية، فالجهاد في الإسلام ليس عبثًا ولا مشروعًا فرديًّا أو جماعيًّا خارج مؤسسات الأمة. بل له ضوابط شرعية واضحة: منها ضرورة إذن الإمام الشرعي، والالتزام بعدم إيذاء المدنيين، وتحقيق المصلحة ودرء الفتنة، والالتزام بأحكام الحرب وفق الشريعة الإسلامية. أما ما يروج له هذا المقال، فهو إرهاب محض يُحرِّف الدين ليُغطي مشروعًا تخريبيًّا. والجدير بالذكر أن تفجير المفخخات واغتيال المدنيين واستهداف البنى التحتية وترويع الآمنين، هي جرائم محرمة بإجماع علماء المسلمين، وتدخل تحت طائلة "الفساد في الأرض"، لا "الجهاد في سبيل الله".
الحج عبادة سلمية لا علاقة لها بالعنف
من المؤسف أن تُربط مناسك الحج، وهي ذروة السلام والتجرد لله تعالى، بدعوات للعنف وسفك الدماء. إن محاولة استغلال مشاعر الشوق إلى المقدسات لتجنيد المقاتلين أو تسويغ الإرهاب هو خيانة للدين، وابتزاز للعاطفة الدينية الصادقة. كما أن دعوى أن الطريق إلى مكة والقدس يمر عبر القتل وتفجير المفخخات، ما هي إلا دعاية متطرفة، لا تمت بصلة إلى الإسلام، بل تخدم أجندات سياسية مريضة، وتُسهم في تشويه صورة الدين وإضعاف قضاياه العادلة.
ولا شك أن مرصد الأزهر لمكافحة التطرف يرى في تحريض داعش خروجًا واضحًا عن تعاليم الدين السمح، الذي جاء لإرشاد الناس وهدايتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وهو أمر لا مراء فيه؛ إذ جاء صريحًا في آيات الذكر الحكيم: ﴿ ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (النحل: 125). وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (آل عمران: 159). كما بات من الواضح أن التنظيم قد أدرك أنه يفقد كل يوم مصداقية وأتباعًا، ما جعله يحاول مرة أخرى جمع شمله بالخديعة والتزييف واستقطاب الشباب بالحجج ذاتها، وهو أمر يؤكد ضعفه الفكري وروايته المضللة.
وحدة الرصد باللغة الإسبانية