منارات تُطفأ ومروءة تذبح... رحيل فارس من فرسان الأزهر

  • | الأحد, 22 يونيو, 2025
منارات تُطفأ ومروءة تذبح... رحيل فارس من فرسان الأزهر

في زمنٍ جفَّ فيه ندى الرحمة من القلوب، وتكدَّرت فيه صفاءُ النفوس بما ران عليها من جهالة وعصبية، امتدت يد الغدر لتطفئ سراجًا من سُرُج النور، وتغتال روحًا ما عرفت في دنياها إلا سبيل العلم، ونداء الخير، وبذل الكلمة الطيبة. لقد ارتقى إلى رحمة الله تعالى الدكتور محمد عبد الحليم، ارتقى شهيدًا لا بساحة حرب، بل في أرضٍ طالما أقسمت الدماء أن تُراق فيها لأجل الجهل والثأر، لا لشيء سوى أن العقول هناك ما زالت تسجد لصنم العصبية، وتقدِّس ثارات الجاهلية.
وما للكلمات أن تقول حين تخرس الفطرة أمام مشهد العبث بالحياة، وتُهدَر الدماء الزكية كأنها لا قيمة لها، إلا لأنها وقعت في بيئة هجرت الحكمة، وأغلقت منافذ العقل، واستبدلت صوت القانون بحدِّ السلاح؟! هناك، حيث يُغتال النبل تحت ستار المروءة الكاذبة، وتُزهق الأرواح باسم الرجولة المصطنعة، سقط الدكتور محمد عبد الحليم، لا لأنه أذنب، بل لأنه عاش بقلب أبيض لا يعرف الضغينة، وعقلٍ معمور بالمعرفة لا يطيق القيد، ولسانٍ ما نطق إلا صدقًا وعدلًا. لقد كان رجلًا يرمِّم ما تهدم من وعي، فكان جزاؤه أن امتد إليه سهم الجهل من حيث لا يحتسب، فارتقى، وارتقى معه وجع الفقد في صدور كل من عرفوه تقيًّا، نقيًّا، أمينًا على رسالته، مؤمنًا بالعلم سبيلًا للإصلاح والارتقاء.
أي قلبٍ هذا الذي أطلق رصاصه على رجلٍ حمل في قلبه دعوة الإصلاح، وعلى لسانه رسالة التربية، وفي عقله يقظة الفكر؟! أيرضى هذا العُرف؟! أيقرُّ ذلك الدين؟! أيهدأ له ضمير؟! إن من أغمد رصاصة الغدر في صدر أخينا ما عرف الله، ولا علم معنى الشرف، ولا أدرك قيمة النفس الإنسانية التي عظّمها الخالق: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه}. ويا ويح تلك اليد الآثمة التي تجرأت على من كان يحمل النور في كفيه، فتلطخت بدمٍ طاهرٍ ما أُريق إلا في سبيل الحق، وما سال إلا لأن الظلام أبى أن يرى النور إلا عدوًّا. أية جاهلية تلك التي تُساق فيها البنادق لتُخرس صوت العقل، وتُسكت لسان الإصلاح؟! إن من استباح دم هذا العالم لم يقتل فردًا فحسب، بل اغتال سكينة وطن، وبعث برسالة خبيثة مفادها أن العلم لا مأمن له بين ظهراني أقوامٍ يقدِّسون الجهالة، ويجعلون من الدم وسيلة لفرض السطوة والهوى. وهل بعد هذا من فجور في الجريمة، أو ضياع في الفهم، أو طمس في البصيرة؟!
إننا إذ ننعى هذا الشهيد، لا نبكيه فحسب، بل نبكي أمةً ما زالت بعض أطرافها تصلي للعصبية، وتُقيم للثأر مذابح العقل، وتستنشق من جاهليتها العتيقة عبير الفخر الكاذب والمجد الزائف، وتكاد تزيِّن القتل على الهوية كما يُزيَّن العرس في المواسم. فيا من تُوقد نار الثأر، أيّ مجدٍ تنشد؟! وماذا كسبت وقد خَسرتَ إنسانًا؟! أما علمت أن في كل نفس تزهق ظلمًا لعنةً تظل تطاردك في الأرض والسماء؟!
وإنها لمأساة ما بعدها مأساة، أن يُرفع سيف الجهالة فوق رؤوس الأبرياء، لا لذنب اقترفوه، بل لأنهم لم ينتموا لقبيلة السلاح، أو لم ينصاعوا لحمّى العصبيات التي تُورَّث كما تُورَّث الأرض والعقار. كيف لعقل أن يطمئن، أو لضمير أن يهنأ، وأبناء جلدتنا يذبح بعضهم بعضًا تحت رايات الباطل، باسم الرجولة المزعومة والكرامة المدنّسة؟! إن ما يجري ليس إلا انتحارًا جماعيًّا لقيم الرحمة، ودفنًا مريعًا لأخلاق كانت يومًا من أنبل ما عرفت الإنسانية. فويلٌ لأمة تفرح بالثأر وتنسى أن الحياة أعظم من شهوة الانتقام، وأن العدل لا يُبنى على جماجم الأبرياء، بل على كلمة حق، وسيفٍ لا يُشهر إلا على الظلم.
أيها الراحل الكريم... نم قرير العين، فما قتلوك إلا لأنك أضأت في ظلامهم، وما أطفؤوا نورك إلا لأنك كنت قبسًا في درب الضالين. سيظل صوتك في قاعات العلم صدًى لا يُمحى، وسيظل قلمك شاهدًا على أن العلم كان سلاحك، والكلمة رسالتك، والرحمة نهجك. أيها الطاهر المضيء... إنهم ما عرفوا من كنت، ولا أدركوا عظمة ما حملت، ولو علموا لارتجفت أيديهم، وخجلت نياتهم قبل أن تضغط على الزناد. نم هادئًا، فأنت الحيّ في ضمائرنا، الباقي في صفحات فكرك، الحاضر في وجدان كل من لمس أثر علمك ودفء خلقك. ستظل نبراسًا في زمن اختلطت فيه الأصوات، وستبقى سيرتك العطرة تخرق حجب النسيان، تذكّرنا دائمًا أن الكبار لا يرحلون، بل يسكنون الذاكرة، ويشيدون من دمائهم جسورًا نحو وعي أنقى، وعالم أرحب، وأمةٍ لا تركع للجهل ولا تركنُ للظلام.
وإنا على فراقك لمحزونون، لكننا ما وهَنّا، ولن يثنينا ظلم الجاهلين، فما زال في الأرض منابر تنادي بالعقل، وما زال للحق رجال، وسنظل نحارب العصبية بالنور، والدم بالوعي، والجاهلية بالحكمة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وإنَّا، وإن خنقتنا العَبرة، وأثقَلَ الحزنُ قلوبَنا، لن نزدادَ إلا ثباتًا ويقينًا بأن دربك لم يكن عبثًا، وأن الرسالة التي وهبتَ لها عمرك لا تموت بموت حاملها، بل تُورث كالسراج، يضيء للآتِين بعدك معارجَ الوعي والرُّقي. لن نُسلِمَ العقلَ لزمجرة الرصاص، ولن نرضخَ لفكرٍ تَستبدُّ به الغرائز، وتُعميه الأحقاد. سنبقى على عهدك، نذود عن العقل بالحجة، ونقاوم الانغلاق بالعلم، ونُطارد الجاهلية بالبصيرة، حتى لا يبقى في الأرض مكانٌ يُقتل فيه النبلاء لأنهم نطقوا بالحق، أو لأنهم آمنوا بأن الإنسان أعظم من الطائفة، وأغلى من الثأر، وأكرم على الله من دمٍ يُهدر في سوق الجهل.
رحمك الله يا ابن الأزهر، يا حامل لواء الفكر، ويا شاهدًا على بشاعة الظلم حين يستوطن القلوب، وسلام عليك يوم وُلِدت، ويوم ارتقيت مظلومًا، ويوم تُبعث حيًّا. رحمك الله يا وجهًا ما انطفأ نوره، وإن غيّبته المقابر، ويا قلبًا ظلّ عامرًا بالإيمان، رغم قسوة الدنيا. رحلت جسدًا، وبقيت أثرًا لا يزول، وعلمًا لا يُطوى، ومبدأً لا ينكسر. نم قرير العين، فما زرعته من خير لن يضيع، وما خطَّه فكرك سيظل شامخًا، يقارع الجهل، ويشهد لك عند ربك يوم تبيضُّ وجوه، وتُرفع الدرجات. وسلامٌ عليك، يا من عشت نقيًّا، ومضيت كريمًا، وتركت لنا في الحزن درسًا، وفي الصبر زادًا.

وحدة رصد اللغة الإسبانية
 

طباعة