التربية الأمنية في الخطاب الداعشي: قراءة تحليلية ونقد شرعي

  • | الأحد, 22 يونيو, 2025
التربية الأمنية في الخطاب الداعشي: قراءة تحليلية ونقد شرعي

     تعدُّ افتتاحية العدد الأخير من صحيفة "النبأ" التي صدرت يوم الخميس 12/6/2025م، نموذجًا واضحًا لما يُعرف بـ"تديين الغلو"، حيث تُقدَّم أفكارًا مليئة بالغلو والتكفير والسرية التنظيمية تحت غطاء من العبارات الشرعية المنمقة، التي توهم القارئ غير المتخصص بأنها من لوازم العقيدة الصحيحة والجهاد المشروع والحذر الإيماني. لكن القراءة الدقيقة والتحليل العلمي يكشفان أن كثيرًا مما ورد في هذا المقال إنما هو تلبيس فكري، وتوظيف نصي منحرف، وفصل بين النصوص وسياقاتها الصحيحة.
في مقدمة المقال، يُطرح مفهوم: "التربية الأمنية" بوصفه عنصرًا جوهريًّا مكملًا لـ"التربية الإيمانية والجهادية"، في محاولة لصبغ العمل التنظيمي السري المحكوم بمنطق الصراع والعنف بلباسٍ شرعي. وهنا تبدأ المغالطة الكبرى: إذ يتم تحويل "الحيطة" و"الحذر" المشروعين إلى بنية فكرية وممارسات تنظيمية ذات بعد سري، ترتكز على ثقافة الارتياب والاختراق والقتل الوقائي والفرز العقائدي المغلق.
يرى التنظيم المتطرف نفسه هدفًا رئيسًا لقوى العالم، ويعتقد أن هذه القوى تسعى للقضاء عليه وأنه يخوض حربًا عالمية ضدها. كما يعتقد أنه الممثل الوحيد للإسلام، الذي يحمل رايته ويدافع عن عقيدته. وفي هذا السياق، يقول كاتب المقال: "تشتدُّ حاجةُ المسلم إلى التربية الأمنية العملية، في ظلِّ اشتدادِ الحربِ على الإسلام وطليعته المجاهدة، القائمةِ بأمرهِ الساعيةِ إلى تحكيمه، الباذلةِ كلَّ ما تملكُ في سبيلِ سيادته وإعلاءِ كلمته." ومن أدبيات داعش أنهم يعدُّون كل مَن يختلف معهم كافرًا أو خارجًا عن الملة.
كما يُشير المقال إلى أهمية تربية الأطفال أمنيًّا في المخيمات مثل مخيمات الهول، أو في بعض المعاهد الدينية في إفريقيا، أو الصومال، أو ريف الشام، أو في خراسان، معتبرًا أن من الضروري تأهيل الأطفال أمنيًّا حتى بالحد الأدنى الذي يمكنهم من أداء مهامهم. ويعتبر المقال أن تأهيل الناشئة أمنيًّا، مسؤولية جماعية لا تقتصر على أفراد أو قيادات معينة، بل يجب أن يشترك فيه جميع أعضاء التنظيم.
إلا أن مفهوم "الأمن" الذي يقصده داعش يختلف تمامًا عن المفهوم الذي يراه عموم الناس. فقد يتوهم القارئ للوهلة الأولى أن فكرة الأمن تعني توفير الاستقرار والسلام للمجتمعات، ما يؤدي إلى إسهام الأفراد في بناء دولهم وتطويرها. لكن مفهوم "الأمن" لدى داعش هو: "ذلك الذي يؤسس لإسقاط الأنظمة الكافرة، وضرب أمنها واستقرارها وصولًا إلى اقتلاعها وإقامة الخلافة المزعومة على أنقاضها". كما يصرح الكاتب أن التربية الأمنية تهدف إلى "إعداد مسلم مجاهد يقظ، متفطن لما يُحاك له ويتربص به في كل ساحة من ساحات الحرب العالمية مع الكفر". وهنا يتضح زيف معتقداتهم، فالأمن الحقيقي لا يتحقق عبر إسقاط الدول وإشعال الحروب والفوضى.
وطبقًا للمقال، فإن أهم عناصر التربية الأمنية هي: "العنصر البشري"، ما يكشف عن استغلال داعش لما تمر به بلاد المسلمين من أحداث عصيبة، حيث يعملون على تأجيج روح الانتقام والتحريض. ولكن العجيب في الأمر هو أن أسلحة داعش لا تُوجه إلى أعداء المسلمين فقط، بل إلى الأبرياء العزل من أبناء المسلمين. ففي كل مكان يحلّون به، نراهم يستهدفون الأطفال والنساء والشيوخ، دون أن تأخذهم رحمة أو شفقة.
ومن أجل إقناع قراء الافتتاحية، يُوظف الكاتب النصوص الدينية على غير وجهها، ويستخدمها في غير موضعها. حيث يستشهد المقال بآية من القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 71] في سياق تسويغ العمل السري والتأهيل الأمني المكثف لمن يسمّونهم: "المجاهدين". لكن هذا الاستدلال يُخرج الآية من سياقها، فالحذر في هذه الآية متعلق بساحة المعركة الظاهرة، حيث يكون العدو معلومًا والوسائل معلنة. والمقصود من الآية –والله أعلم– هو التحذير من العدو الخارجي في ميدان المواجهة العسكرية، لا الانغلاق في شبكات سرية داخل المجتمعات المسلمة، ولا التجسس على المسلمين، أو بث ثقافة الظن والشك.
كما يحاول المقال ربط مفهوم "الأمن" بتنمية الوعي لدى المجاهد، لكنه في الحقيقة يعيد تعريف "الأمن" وفق مفاهيم تنظيمية مغلقة لا تمت إلى المفهوم الإسلامي للأمن بصلة. فالأمن في الإسلام يقوم على حفظ الضروريات الخمس: (الدِّين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، بينما الأمن في التصور الداعشي يُختزل في "النجاة من أجهزة الدول"، و"التفوق على العدو بالمكر"، و"الاحتراز من الاختراق"، وهو ما يسوغ لديهم القتل والاعتقال والفرز حتى داخل دوائرهم الضيقة، بل إن المقال يستبطن تكفيرًا صريحًا للدول والأنظمة، من خلال الحديث عن "إسقاط الأنظمة الكافرة" و"العمل على ضرب أمنها واستقرارها"، وهو أسلوب الخوارج الذين يستبيحون الخروج على ولاة الأمور بغير حق شرعي. وقد نهى النبي -صلى الله عليه وسلم -عن الخروج على الحكام إلا في حال ظهور "كفر بواح"، وهو ما قرره جمهور أهل السنة والجماعة، كما جاء في حديث عبادة بن الصامت: "إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان" (رواه البخاري).
ومن مظاهر الانحراف الفكري في المقال أيضًا، الهجوم على مفهوم: "المواطن الصالح"، باعتباره أداة للذوبان في الأنظمة "الجاهلية". والحقيقة أن هذا اللفظ، وإن كان اصطلاحًا مدنيًّا معاصرًا، لا يعارض الشريعة في جوهره إذا فُهم بمعناه القيمي لا السياسي. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أصدق الناس وأوفاهم بالعهد، وكان المسلمون الأوائل أركانًا في بناء مجتمعهم، لا أدوات هدم له. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفضل الناس أنفعهم للناس" (رواه الطبراني). فكيف يمكن الجمع بين هذا القول واتّباع خطاب الحقد والانفصال المجتمعي الذي تدعو إليه مثل هذه المقالات؟
الخلط بين السرية النبوية والتنظيم السري
يحاول المقال أن يُلبس مشروعه ثوب السيرة النبوية، بالإشارة إلى حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- في الهجرة وبيعة العقبة، وغيرها. لكن ذلك قياس باطل مع فارق جوهري؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يعمل ضد مجتمعه، ولم يتبنَّ خططًا تقوم على الاغتيال أو الخيانة أو العمل السري طويل الأمد في بيئة مسلمة، بل كان حذره مشروعًا في سياق مواجهة قريش التي كانت تعلن العداوة، وتمنع حرية الدين.
أما "التربية الأمنية" التي يدعو لها المقال، فهي أقرب إلى أساليب العمل الاستخباراتي داخل التنظيمات الإرهابية المعاصرة، حيث يتم التخفي عن المجتمع، وتنمية ثقافة الازدواجية، وتقديم "السمع والطاعة" لتنظيم مغلق، لا للدين ولا للعلماء.
وفي نهاية المقال، يظهر أحد أخطر الانحرافات العقدية؛ إذ يعتبر أن التقصير الأمني "معصية شرعية متعدية"، يُحاسَب عليها الفرد تنظيميًّا ودينيًّا. وهذا خلط بين فقه الطاعة والذنب، وبين مقتضيات التنظيم والإثم الشرعي. فكيف تُعد مخالفة إجراءات سرية – ليست من الشريعة في شيء – ذنبًا يتعدى الفرد؟ بل قد يكون هذا المنطق ذريعة لشرعنة القتل أو الطرد أو التصنيف في صفوفهم، كما جرت عليه العادة في تاريخ التنظيمات المتطرفة.
وختامًا، يتضح من التحليل أن "التربية الأمنية" بالمفهوم المطروح في صحيفة النبأ ليست تربية شرعية، بل هي منظومة سلوكية وأمنية مغلقة، تستهدف تحويل الفرد المسلم إلى أداة في مشروع صدامي تكفيري. ومن ثم، فإن استدعاء النصوص الشرعية لتسويغها يُعد من تحريف الكلم عن مواضعه، وتزييف الوعي الديني، وتدمير المفاهيم الإسلامية الكبرى مثل السلم الاجتماعي، والجهاد المشروع والطاعة والفتنة.
وعليه، فإن الواجب على المسلم اليوم أن يحذر من هذه الدعوات المنحرفة، وأن يعرض دينه على الكتاب والسنة بفهم العلماء، لا على مقالات الجماعات والفرق. فليس كل من رفع شعار: "الجهاد"، و"الحذر"، و"التوحيد" مصيبًا في مراده، وإنما العبرة بالحجة والدليل، لا بالشعار والميل.

وحدة الرصد باللغة الإسبانية

طباعة